الفرق الإسلامية.. بين الجهل والحقائق التاريخية (1)

تُعتبر مهمة دراسة تاريخ وفكر الفرق الإسلاميّة في العصر الكلاسيكي من المهمّات البحثية الصعبة، لأن معظم المصادر والمراجع جدليّة (polemical). مثلاً، نحن لا نعرف الشيء الكثير عن الخوارج، وبعض الكتابات المنسوبة إليهم هي فقط لفئةٍ منهم. أضف إلى ذلك أنّ معظم ما يروى عنهم من إنتاج أعدائهم، أي من الصعب الوثوق به علميّاً. كذلك الأمر عندما نتكلّم عن التشيّع أو عن أهل السنّة.

عندما نُعرّف المذهب السنّي وفقاً لأربعة مذاهب فقهيّة، نكون فعليّاً أمام تعريف فقهي، وهذا يُعمينا عن التعريف الكلامي الذي يأخذنا في اتّجاه مختلف ويفتح لنا أبواباً لا تخطر على بالنا عندما نفكّر بـ”ماهيّة” المذهب السنّي. لكنّ حتّى التعريف الفقهي له مشاكله. الحقيقة أنّ المذهب السنّي هو نوع من التكتّل (الذي حصل تدريجيّاً) حول خمسة مذاهب فقهيّة كانت وما تزال موجودة منذ أواخر القرن التاسع وأصبح لها نوع من الإحتكار في ميدان الفقه داخل المذهب السنّي، وهي الحنفيّة والمالكيّة والشافعيّة والحنبليّة والظاهريّة.

الحقيقة الأخرى أنّ معظم هذه المذاهب الخمسة ليست فقهيّة بحتة بل تمتد إلى أمور أخرى غير الفقه، ولم يؤسّسها من يقال لنا أنّه أسّسها. فالمذهب الفقهي الحنفي لم يؤسّسه أبا حنيفة، بل وضع أوّل قواعده تلامذة أبي حنيفة الذين كان الفقه همّهم الأساسي، وتحديداً أبو يوسف (ت. 798) والشيباني (ت. 803). وكذلك الأمر مع المذاهب الأخرى. أمّا تلامذة أبو حنيفة الذين كان همّهم الأساس الكلام أو اللاهوت (الزهد وما شابه)، فكانت مقاربتهم للمذهب الحنفي غير فقهيّة. وقد استمرّت هذه الضبابيّة داخل المذاهب السنّيّة التي نعتقد خطأً أنّها فقط مذاهب فقهيّة، بينما كانت في الواقع مذاهب جمعت تناقضات وتيّارات كثيرة. ولعل جهل الكثير من رجال الدين السنّة بتاريخ مذاهبهم خلق سوء فهم إزاء بعض الحقائق التاريخيّة حولها، وأصبح الإعتقاد الشائع أنّها مذاهب فقهيّة، وهو الأمر السائد حالياً، للأسف.

أمّا إذا نظرنا في الكلام، فمن المستحيل أن نجد تعريفاً جامعاً له ينتج عنه فهم لما هو سنّي مقارنةً بما هو غير سنّي. نعم يمكن أن نقسم أهل السنّة بين أشعري وماتريدي ومعتزلي ومرجئي وكرّامي و..، لكن المشكلة هنا هي أنّ كثيراً من هذه المذاهب الكلاميّة لها تشعّبات داخليّة وامتدادات خارجيّة. فالمعتزلة المتأخّرون (كما سأناقش في مقالة لاحقة) كان لهم امتداد داخل التراث السنّي (خصوصاً داخل المذهبين الحنفي والشافعي وبين أهل التصوّف والزهد)، وكان لهم أيضاً امتداد داخل التراث الشيعي (خصوصاً عند الإثني عشريّة والزيديّة).

وحتّى إذا نظرنا إلى شخصية سنّية بلا أي لغط من طراز أبو الحسن الأشعري (ت. 936)، نجد أنّ هذا الرجل كانت له إهتمامات كلاميّة وفقهيّة عميقة ولم يتقيّد بأي من المذاهب السنّيّة الفقهيّة في وقته، بل مارس الفقه من خارج إطار هذه المذاهب. والمضحك أنّ فقهاء الحنفيّة والشوافعة والمالكيّة والحنابلة تقاتلوا وتشاتموا بين بعضهم البعض، كلٌّ يريد أن يحسبه من أتباع مذهبه في الفقه.

الإصرار على تعريف المذهب السنّي فقهيّاً ينتج عنه إختزال للحقائق، واستبعاد لكثير أو حتّى لمعظم أهل السنّة تاريخيّاً، وتعميّة عن المشكلات والتعقيدات التي يواجهها المؤرّخ. وينتج عنه أيضاً إرهاب فكري ووجودي، يفرض نفسه من باب الإستقواء والإستعلاء على من يخالف ذلك

وإذا قاربنا تعريف المذهب السنّي ببعده اللاهوتي (التصوّف والزهد تحديداً)، نجد أمامنا تشعّبات معقّدة بحيث يصبح التعريف محدوداً وضيّقاً (إن كان في بعده الفكري العقائدي أم في بعده الجغرافي)، بحيث لا يفيدنا دائماً في تمييز “السنّة” عن غيرهم، خصوصاً المتصوّفة والزهّاد وغيرهم ممن اعتبروا الفقه من الأمور الثانويّة أو التافهة.

إذاّ الإصرار على تعريف المذهب السنّي فقهيّاً ينتج عنه إختزال للحقائق، واستبعاد لكثير أو حتّى لمعظم أهل السنّة تاريخيّاً، وتعميّة عن المشكلات والتعقيدات التي يواجهها المؤرّخ. وينتج عنه أيضاً إرهاب فكري ووجودي، يفرض نفسه من باب الإستقواء والإستعلاء على من يخالف ذلك، ويجبرهم على ترك تراثهم وفكرهم ومقاربتهم للسنّة، وعلى إعادة تعريف معتقداتهم وعاداتهم وتقاليدهم من باب الفقه. والأنكى من ذلك، عندما يتمّ إسقاط الأفكار والمعتقدات المتأخّرة على الفترة الإسلاميّة الأولى، يسبّب ذلك نوع من “التنقيح” و”التصويب” و”إعادة التأهيل” للمقبولين منهم وإخراج من يجب إخراجه من بينهم من أجل إعطاء صورة نظيفة ومشرقة ومتناسقة لأهل السنّة.

من هنا، علينا الحذر من كتب الجدل والتشاتم، مثل كتاب “الفَرْق بين الفِرَق” لعبد القاهر البغدادي (ت. 1037)، أو كتاب “الفِصَل في المِلَل والأهواء والنِحَل” لإبن حزم الأندلسي (ت. 1064)، أو كتاب “المِلَل والنِحَل” للشهرَستاني (ت. 1153). فهؤلاء لهم مقاربتهم العقائديّة للأمور، وركّزوا على تقبيح من يجب تقبيحهم من أجل إخراجهم من المذهب السنّي أو من الإسلام أو من الإيمان كون ذلك يجعلهم هم فقط وفرقهم وحدهم الذين يتبعون الحقّ. وينتج عن ذلك أن يصبح من اللائق والضروري والمنطقي والديني أن يتبعهم الناس.

إن فائدة هذه المصادر للمؤرّخ هي أساساً من زاوية فهم هذه الكتب كمرآة أو نافذة لفهم أفكار ومعتقدات أصحابها. أمّا ما يقولونه عن غيرهم أو عن “أعدائهم” (الداخليّين أو الخارجيّين)، فيجب عدم الأخذ به وكأنّه منزل، ليكون لنا قدرة على فهم أفضل لتلك الفترة التي شهدت نشوء الكثير من الأفكار والمعتقدات والعبادات وحجم تداخلها ببعضها البعض.

إقرأ على موقع 180  "شيءٌ ما" أصاب مجتمعاتنا الإسلامية؟

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Best WordPress Themes Free Download
Premium WordPress Themes Download
Download Best WordPress Themes Free Download
online free course
إقرأ على موقع 180  الدين أيديولوجيا.. الديمقراطية سياسة