لليلة طويلة دامية، خيّمت احتمالات الانجراف إلى احتراب أهلى جديد على المشهد المأزوم.
بدت المنطقة الخضراء، الأكثر تحصينا وتأمينا فى العاصمة بغداد حيث تتمركز مؤسسات الدولة والسفارات ومكاتب الصحف والفضائيات الدولية والإقليمية، موقع الصدام المسلح.
كان مثيراً للانتباه أن موجة العنف امتدت فى نفس الليلة إلى ساحة الفردوس، أهم ساحات بغداد، التى شهدت الموجة الأولى لزحف قوات الاحتلال الأمريكى عام (2003) وإسقاط تمثال «صدام حسين» باسم «نشر الديمقراطية فى العراق».
فى صباح اليوم التالى، تغيرت الصورة من نقيض إلى نقيض بفض الاعتصامين المتناقضين بدواعى طلب التهدئة وصيانة الدم العراقى.
المفارقة الأولى فى قصة ما جرى، أن طرفى النزاع، التيار الصدرى والإطار التنسيقى، ينتسبان إلى بيت واحد يطلق عليه «البيت الشيعى»، فيما أخذت الجماعات السياسية الأخرى التى تنتسب إلى السنة والكرد مسافة محسوبة من النزاع خشية أن تتورط في ما لا تريده ولا تطيق تكاليفه.
المفارقة الثانية، أن طرفى النزاع يختلفان جذرياً فى توصيف الأزمة العراقية، كلاهما يحمل الآخر مسئوليتها الكاملة.
«التيار الصدرى» يتهم «الإطار التنسيقى» بإفساد الحياة السياسية ونهب مقدرات الدولة مطالبا بحل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة وإدخال تعديلات دستورية جراحية لإعادة بناء النظام السياسى: عهد جديد ونظام جديد.
و«الإطار التنسيقى» يتهم الصدريين بالتعدى على مؤسسات الدولة وتعطيل العملية السياسية وجر البلاد إلى الفوضى مطالبا بحكومة جديدة تمتثل عمليا لما يريده من سياسات ومصالح.
بعبارة الرجل الأول فى «الإطار التنسيقى» «نوري المالكى» رئيس الوزراء الأسبق لثمانى سنوات وأمين عام حزب الدعوة الأكثر تشددا، وهو متهم من خصومه فى ذمته السياسية والمالية: «القوة لا تخول طرفا أن يحدد البوصلة ويفرضها على الآخرين».
المفارقة الثالثة، أن كلا الطرفين المتنازعين صلاته ممتدة مع الجار الإيرانى بدرجتين مختلفتين، «التيار» يطلب الحق فى الاختلاف دون صدام فيما أغلب أحزاب وقوى «الإطار» أقرب إلى التماهى مع طهران.
السؤال العملى الآن: أيهما أولا.. انعقاد البرلمان لانتخاب رئيسى جمهورية ووزراء جديدين كما يطالب «الإطار» وأطراف عديدة أخرى، أم حل البرلمان فورا وإجراء انتخابات مبكرة على ما يطالب «التيار»؟ لا بديل عن الحوار إذا ما أريد تجنب الاحتراب الأهلى، لكن كيف ومتى وبأية مخرجات؟
كان قرار «مقتدى الصدر» اعتزال العمل السياسى تعبيرا مباشرا عن علاقات معقدة مع المرجعيات الدينية فى قم، لا يقدر أن ينازعها ولا يتقبل أن يمضى حيث تريد.
بعبارة لافتة فى نص بيانه: «يظن كثيرون بما فيهم السيد الحائرى، أن هذه القيادة، جاءت بفضلهم أوامرهم».. «مرجعا قيادته إلى فضل الله أولا وفيوضات والده الذى لم يتخل عن العراق وشعبه ثانيا».. لا إلى مرجعية الحائرى المقيم فى قم، أو غيره من المرجعيات خارج العراق.
بتوقيته والأجواء المتوترة التى أحاطته استدعى ذلك الإعلان تفلتا واسعا فى صفوف أنصار «الصدر».
جرى اقتحام القصر الجمهوري ومؤسسات أخرى فى المنطقة الخضراء وعمت الفوضى المكان.
بدا الأمن عاجزا عن مواجهة ما يحدث أمامه، لا يريد أن يصطدم مع أحد طرفى النزاع، لكنه مطالب بالوقت نفسه بحماية ما تبقى من هيبة واحترام.
دخل الطرف الآخر الأكثر تسليحا على الخط وأفلت الزمام تماما في ما يشبه «بروفة حرب أهلية».
باليقين يحسب لـ«مقتدى الصدر» المبادرة الشجاعة، التى دعا فيها أنصاره للانسحاب خلال ساعة واحدة من محيط المنطقة الخضراء وإنهاء الاعتصام فى مبنى البرلمان، وإلا فإنه سوف يتبرأ من «التيار».
وصف ما يحدث بأنه لم يعد ثورة وتياره بـ«المنضبط والمطيع».
فكرة «السمع والطاعة» من طبائع الأحزاب الدينية، الأمر نفسه يسرى على «الإطار التنسيقى».
فى خطوة مماثلة دعا «الإطار» أنصاره المعتصمين فى المنطقة الخضراء إلى «العودة سالمين غانمين إلى منازلهم» حتى يستدعيهم مجددا «نداء الوطن».
العبارة بنصها ورسائلها تعنى أن الأزمة المستحكمة بجميع عناصرها ما زالت ماثلة فى المشهد العراقى برغم ما جرى من تهدئة موقتة.
تجنب العراق الاحتراب الأهلى، لكن أسبابه ما زالت كامنة فى انتظار نقطة تفجير جديدة.
ساعد على احتواء الخطر أن اللاعبين الرئيسيين الإقليميين والدوليين ليست لهم مصلحة الآن فى تفجير الوضع العراقى المأزوم، العالم بأسره بلا استثناء تقريبا حث العراقيين على التهدئة واللجوء إلى الحوار وتجنب الانخراط فى العنف.
بتلخيص ما: نحن أمام حرب أهلية مؤجلة.
المعضلة الآن أنه لا توجد فرص كبيرة للتفاهم السياسى عبر الحوار، فالصدريون يقاطعون دعواته المتواترة حتى إشعار آخر فـ«لا حوار مع الفاسدين ولا تنازل عن طلب حل البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة» فيما قادة «الإطار» يتمترسون حول طلب تشكيل «حكومة خدمة وطنية»، يشكلونها هم بطبيعة الحال بالنظر إلى استقالة نواب الكتلة الصدرية من البرلمان فى إجراء غير مفهوم وغير مبرر.
الحقيقة الرئيسية فى كل ما يجرى بالعراق أن ما توصف بالعملية السياسية تقوضت بالكامل حتى أصبحت «خرقة مهلهلة».
كان ذلك آخر تداعيات زلزال احتلال العراق قبل نحو عشرين عاما، عندما حلت مؤسساته العسكرية والأمنية وفككت دولته ونهبت ثرواته وجرى التنكيل بشعبه الذى نهض لمقاومة الاحتلال.
العراق لا يزال يدفع فواتير الاحتلال التى يصعب تجاوز أعبائها الثقيلة فى أى مدى منظور.
ما يدعو إليه التيار الصدرى أقرب إلى نبض الشارع وأنينه، غير أن المصالح التى ترسخت تكاد تجعل من فكرة التغيير الجذرى عملا بعيد المنال دونه نيران قد تشتعل بأنحاء البلد كله.
رئيس الحكومة «مصطفى الكاظمى» لوح أنه سوف يعلن خلو المنصب إذا ما أفلتت الأمور مجددا إلى حد الاصطدام المسلح. خلو المنصب التنفيذى الأول فى البلاد يعنى انتقال مشروع الاحتراب الأهلى إلى واقع دموى على الأرض
يستلفت الانتباه ــ هنا ــ أن رئيسى الجمهورية “برهم صالح” والحكومة “مصطفى الكاظمي”، كلاهما استنفد ولايته لكنه باقٍ فى منصبه لتصريف الأعمال، وهما تبنيا بصيغة واحدة تقريبا ما يطالب به «التيار الصدرى» لكن بطريقة مختلفة.
حل البرلمان والذهاب إلى انتخابات مبكرة مسار إجبارى عبر الحوار الوطنى لا من خارجه، بالتوافق لا بفرض إرادة طرف على آخر.
ماذا قد يحدث لو لم تتفق القوى المتنازعة على إجراء انتخابات مبكرة باسم الحفاظ على المؤسسات والقواعد الدستورية والقانونية؟
.. وماذا قد يحدث إذا ما حكمت المحكمة العليا فى دعاوى حل البرلمان.. بالقبول أو الرفض؟
لا توجد قواعد حاكمة، متماسكة ومقنعة، فى ظل المحاصصة الطائفية، التى أفسدت الحياة السياسية كلها.
«التيار» يطلب الانتخابات المبكرة واثقا من شعبيته.. و«الإطار» يماطل خشية خسارتها مجددا بصورة أكبر مما حدث فى الانتخابات السابقة.
ثم.. ماذا قد يحدث إذا أطلت الاضطرابات مرة أخرى؟
رئيس الحكومة «مصطفى الكاظمى» لوح أنه سوف يعلن خلو المنصب إذا ما أفلتت الأمور مجددا إلى حد الاصطدام المسلح.
خلو المنصب التنفيذى الأول فى البلاد يعنى انتقال مشروع الاحتراب الأهلى إلى واقع دموى على الأرض.
السؤال العملى الآن: أيهما أولا.. انعقاد البرلمان لانتخاب رئيسى جمهورية ووزراء جديدين كما يطالب «الإطار» وأطراف عديدة أخرى، أم حل البرلمان فورا وإجراء انتخابات مبكرة على ما يطالب «التيار»؟
لا بديل عن الحوار إذا ما أريد تجنب الاحتراب الأهلى، لكن كيف ومتى وبأية مخرجات؟
إنه سؤال يقع بالضبط فى المساحة الحرجة بين التفجير والتهدئة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“