أمواج يسار أميركا اللاتينية تضرب.. شمالاً!

منى فرحمنى فرح04/09/2022
يعتبر وصول اليسار إلى الحكم في خمس دول في أميركا اللاتينية بمثابة تحد جدي للنهج التقليدي الذي تتبعه واشنطن في القارة منذ عقود طويلة. وإذا ما أراد الغرب الحفاظ على نفوذه، يتعين عليه التكيف مع ما يُرجح أن يكون "واقعاً سياسياً مُستداماً"، بحسب كريستوفر ساباتيني، من معهد "تشاتام هاوس"(*).

على مدى السنوات الخمس الماضية، فاز سياسيون من يسار الوسط بالرئاسة في كل من الأرجنتين وتشيلي وكولومبيا والمكسيك وبيرو، ما أدَّى إلى الحديث عن بداية “موجة وردية” في القارة. هؤلاء القادة لا يمثلون تحولاً أيديولوجيا بالجملة فحسب، بل وأيضاً مناهضة جماعية ورفض لكل ما كانت تمثله النُخبة السياسية في أميركا اللاتينية.

القادة الجُدد لديهم سياسة خارجية وأولويات اقتصادية مختلفة عن أسلافهم. بالتأكيد، هم ليسوا مناصرين للسياسات الاقتصادية النيوليبرالية التي اكتسبت زخماً في المنطقة في تسعينيات القرن العشرين؛ مثل خفض الدعم الحكومي، إتباع قواعد استثمار واضحة يمكن التنبؤ بها، وتقليل تدخل الدولة في الاقتصاد. بالنسبة لهم وللعديد من مؤيديهم، فإن دفاع الغرب العلني عن النماذج النيوليبرالية هو قبضة قبيحة لنظام عالمي احتضن نُخبة راسخة يعتبرها العديد من المواطنين “فاسدة وإقصائية”.

لا ملاعق فضية

قبل الموجة الأخيرة من الانتخابات، كان العديد من قادة أميركا اللاتينية المُعاصرين يتميزون بأنهم من “أصول النُخبة” ولديهم “أوراق اعتماد” مثيرة للإعجاب، بحسب تقييمات الغرب: إيفان دوكي، رئيس كولومبيا (2018 ـ 2022) تخرج من جامعة “جورج تاون” الأميركية. سيباستيان بينيرا، الذي أكمل مؤخراً فترة رئاسية ثانية في تشيلي، حاصل على درجة الدكتوراه من جامعة “هارفرد”. بيدرو بابلو كوتشينسكي، الذي استقال من رئاسة بيرو على خلفية فضيحة أخلاقية في عام 2018، درس في جامعتي “أكسفورد” و”برينستون”. كذلك درس الرئيس البرازيلي السابق، فرناندو هنريك كاردوسو، في جامعات رائدة في فرنسا والولايات المتحدة.

على النقيض من ذلك، لم يدرس أيٌ من الرؤساء الحاليين في جامعات أجنبية: الرئيس التشيلي غابرييل بوريك، الرئيس المكسيكي أندريس مانويل لوبيز أوبرادور، رئيس بيرو بيدرو كاستيلو، درسوا في مدارس وثانويات وكليات محلية. الرئيس البرازيلي جاير بولسونارو، هو خرّيج الكلية الحربية في بلاده. أما الرئيس الكولومبي غوستافو بيترو، فلم يكمل دراسته الجامعية برغم أنه كان قد إلتحق بجامعات في بلجيكا وإسبانيا.

رؤساء أميركا اللاتينية الجُدد لم يولدوا مع معالق فضّية.. منفصلون عن “العقيدة النيوليبرالية”، وهم أكثر تمثيلاً لبلدانهم وأنظمتها التعليمية

هذا لا يعني أن هؤلاء القادة السياسيين الذين تلقوا تعليمهم محلياً أقل تأهيلاً من أسلافهم. بل على العكس تماماً: إن التكوين التعليمي والثقافي المحلي يجعل العديد من هؤلاء الرؤساء الحاليين أكثر تمثيلاً لبلدانهم وأنظمتها التعليمية. وهذا يعني أيضاً أن العديد من القادة الجُدد يعتمدون على شبكات أقل تأثراً بالاتجاهات التعليمية وصنع سياسات لعقيدة النيوليبرالية التي اجتاحت الأوساط الأكاديمية والنخبوية، مثل المنتدى الاقتصادي العالمي خلال الثلاثين عاماً الماضية.

أحد الاستثناءات الواضحة بين هؤلاء هو لويس إيناسيو لولا دا سيلفا، الرئيس البرازيلي السابق والمرشح الرئاسي الحالي. فهذا الزعيم النقابي، حاصل على تعليم ابتدائي فقط، وترقى في صفوف النقابات العمالية خارج نطاق السياسة النخبوية التقليدية التي كانت سائدة في البرازيل. غير أن السنوات التي قضاها في العمل النقابي؛ المحلي والدولي؛ منحته فرصة إقامة علاقات وصداقات دولية متينة؛ وكانت النتيجة أنه أوجد إدارة لفتت تركيز العالم بشكل مُدهش، وحافظت في الغالب على اقتصاد البرازيل المُوجه نحو السوق.

زعزعة الوضع الراهن

ومع ذلك، فإن المجموعة الجديدة من الرؤساء قد انفصلت بشكل حاسم عن العقيدة النيوليبرالية. وهم يعيدون صياغة القواعد المتعلقة بالضرائب والاستثمار الدولي، ولا سيما القواعد الخاصة في استخراج الموارد الطبيعية. إن الدافع وراء هذه الإصلاحات ليس أيديولوجياً بقدر ما هو رفض لإرث الإصلاحات الديموقراطية التي فشلت في تحقيق المساواة الاجتماعية في جميع أنحاء أميركا اللاتينية ولم تُعالج السياسات الضريبية المتردية.

في المكسيك، على سبيل المثال، تجاهل لوبيز أوبرادور الجهود التي بذلها سلفه من أجل فتح قطاع الطاقة الوطني أمام الاستثمار الأجنبي. وعلى الرغم من أن الكونغرس المكسيكي عرقل محاولة لوبيز أوبرادور لاستعادة السيطرة الوطنية على القطاع، إلَّا أن إدارته فضَّلت شركات الطاقة المحلية في منح عقود لتوليد الكهرباء. وقد أثار هذا النهج القومي نزاعاً تجارياً مع الولايات المتحدة وكندا.

وبالمثل، وعد كلٌ من بترو (كولومبيا) وبوريك (تشيلي) وكاستيلو (بيرو) بإصلاح سياسات الدولة الخاصة باستخراج الموارد الطبيعية. فقد هدَّد كاستيلو؛ في وقت من الأوقات؛ بمصادرة امتيازات التعدين، وتعهد بترو بوقف الاستثمار والتنقيب في النفط والفحم في محاولة أحادية الجانب لمعالجة تغير المناخ. واقترح بوريك بشكل أكثر تواضعاً إصلاح سياسات الضرائب والإتاوات لمصالح التعدين الدولية في خطوة يمكن القول إنها تعكس اعتداله واعتدال تشيلي. حتى هذه الخطوة الأكثر تقييداً ستشكل تغييراً مؤلماً للمستثمرين الدوليين الذين وقَّعوا صفقات مع دولة تمتلك احتياطيات ضخمة من مادة “الليثيوم”، وهي أكبر مُنتج للنحاس في العالم.

ظاهرة مماثلة تحدث على صعيد السياسة الخارجية. فالقادة الجُدد يتخلون عن الجهود التي كان أسلافهم يبذلونها من أجل تولي دور بارز في الساحة العالمية. فعلى مدى العقود الثلاثة الماضية، تنافست البرازيل والمكسيك؛ على وجه الخصوص؛ على زعامة المنطقة: فالدبلوماسي المكسيكي، أنجيل غوريا، تولى منصب رئيس منظمة التعاون الاقتصادي والتنمية لمدة 16 عاماً قبل أن يتنحى في عام 2021. بينما ترأس الدبلوماسي البرازيلي روبرتو أزيفيدو منظمة التجارة العالمية لمدة 8 سنوات (2013- 2020). ولفترة من الوقت، كانت كلٌ من البرازيل والمكسيك تتنافسان على مقعد في مجلس الأمن الدولي الذي يُحتمل أن يكون موسعاً.

تلك الطموحات العالمية أصبحت مُعلقة الآن. فمن النادر جداً أن يسافر الرئيس المكسيكي (لوبيز أوبرادور) خارج بلاده؛ وقد سبق وأن تخلى عن الطائرة الرئاسية في خطوة وصفها كثيرون بـ”الهزلية”. وعندما يريد “الرئيس الشعبي” القيام برحلة خارج البلاد، فهو يسافر على متن خطوط جوية تجارية. كذلك وضع الرئيس بولسونارو سياسة “البرازيل أولاً”، وتعني أن عملاق أميركا الجنوبية ليس قريباً من الشهرة الدولية كما كانت في عهد لولا. فعندما سافر بولسونارو إلى “دافوس”، في عام 2019، للتعرف على قادة العالم، بالكاد غادر غرفته (بحسب موظفين وصحافيين كانوا برفقته). وهو أيضاً انتقد الصين، الشريك التجاري الأكبر للبرازيل. وأهان الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون وزوجته بشكل علني بسبب انتقاداتهما لسياسة البرازيل البيئية. كما أنه رفض حضور حفل تنصيب الرئيس الأرجنتيني، ألبرتو فرنانديز. كان ازدراءه لفرنانديز أكثر إثارة للدهشة نظراً لأن الأرجنتين جزء من السوق المشتركة الجنوبية، وهي تاريخياً أحد أهم مشاريع السياسة الخارجية والاقتصادية للبرازيل في نصف الكرة الغربي.

طموحات القادة اللاتينيين الجُدد لا تشبه أسلافهم.. ولا يعنيهم أن يكون لهم دور كبير على الساحة العالمية

وبرغم أن الدور الذي سيلعبه الرئيس الكولومبي الجديد غير واضح، إلَّا أن دعواته للحد من عمليات التنقيب عن المستخلصات الكربونية ومراقبة تصديرها وإعادة تقييم ما أسماه الحرب الفاشلة على المخدرات، تشير إلى أنه سيكون بعيداً عن سياسة أسلافه؛ على الأقل مؤقتاً. ومن المؤكد أن تحركاته المبكرة لإعادة العلاقات الدبلوماسية مع حكومة الرئيس الفنزويلي نيكولاس مادورو هي انفصال تام عن السياسة الخارجية الكولومبية التي كانت طوال السنوات الثلاث الماضية. وهو يقاوم  محاولات الولايات المتحدة عزل النظام الفنزويلي.

إقرأ على موقع 180  هل يغامر بايدن بخسارة دول الخليج لمصلحة إيران؟

حان وقت تصحيح المسار

من أجل الحفاظ على النفوذ الغربي، وتوجيه المنطقة بعيداً عن الصين وروسيا، يتعين على الدبلوماسيين الغربيين معرفة كيفية إقامة شراكات مع هذه المجموعة الجديدة من القادة. لا بد من التعامل مع الرفض العلني للنُخب السياسية التقليدية في جميع أنحاء المنطقة على محمل الكثير من الجد، لأنه ليس رفضاً عرضياً. ومن المرجح أن يستمر هذا الاتجاه، وقد يتعمق أيضاً. وهذا يعني أنه يجب على وزارات الخارجية إعادة التفكير في سياسات التوظيف والتواصل والعلاقات الدبلوماسية. يمكن لوزراء الخارجية في كندا والولايات المتحدة وأوروبا التكيف جزئياً من خلال بذل جهد أكبر لجذب وتتبع سياسة دبلوماسية أكثر تنوعاً.

صانعو السياسة في الغرب سوف يحتاجون أيضاً إلى شقّ طريقهم عبر الشبكات غير التقليدية، مثل النقابات وحركات الشباب ورابطات عُمال القطاع غير الرسمي ومجموعات السكان الأصليين. لقد أصبحت هذه القاعدة غير المتجانسة من السخط الاجتماعي هي المُحرك الجديد للتغيير السياسي داخل المنطقة، ما أدَّى إلى ظهور مجموعة جديدة من القادة. وتحتاج الحكومات الغربية إلى إظهار استعدادها لإعادة تنظيم الاتفاقيات التجارية لمعالجة مخاوف الناخبين الذين يدعمون المرشحين الجُدد. يمكن أن تكون إحدى الخطوات الأولى الممكنة تحديث اتفاقية التجارة الحرة بين الولايات المتحدة وكولومبيا لعام 2012 والتي من شأنها معالجة حماية حقوق المجتمع المحلي وضمان حقها في عقود المشتريات العامة. ويجب أن تحدث ترقية مماثلة في اتفاقيات التجارة الحرة الأخرى مع كل من تشيلي وبيرو وأميركا الوسطى.

أخيراً، يجب على الحكومات الغربية رعاية المنح الدراسية ومنحها لمجموعة أكثر تنوعاً من المواطنين في أميركا اللاتينية. يجب أن يشمل هذا الجهد التدفقات على كلا الجانبين، وجلب مجموعة أكثر تنوعاً من المواطنين من أميركا اللاتينية إلى الولايات المتحدة، ولكن أيضاً تسهيل المزيد من الاتصالات بين الناس مع الجامعات ومنظمات المجتمع المدني جنوب الحدود. فبسبب نقص التمويل العام والاهتمام، تلاشت الجهود السابقة لإنشاء برامج المنح الدراسية والتبادل؛ مثل برنامج الرئيس الأميركي الأسبق باراك أوباما، البالغ 100 ألف برنامج قوي في الأميركيتين، والذي كان يهدف إلى زيادة الدراسة الدولية في أميركا اللاتينية ومنطقة البحر الكاريبي.

الرفض العلني للنُخب السياسية التقليدية في جميع أنحاء المنطقة ليس عرضياً، سيستمر ويتعمق أكثر وعلى الغرب التعامل معه على محمل الجد

بشكل عام، يحتاج وزراء خارجية الدول الغربية الثرية إلى تطوير إستراتيجية لمناقشة المؤسسات الديموقراطية وسيادة القانون وحقوق الإنسان والدفاع عنها بطريقة تميز تلك القيم الأوسع من الوصفات الدولية والنيوليبرالية المرتبطة بالحكومات السابقة.

بيد أن توجهاً حديثاً يسير في الاتجاه المعاكس. ففي عهد الرئيسين دونالد ترامب وجو بايدن، فرضت الولايات المتحدة عقوبات على الأفراد الأجانب المتهمين بالفساد وانتهاك حقوق الإنسان، وذلك من خلال تجميد حساباتهم الخارجية وسحب تأشيراتهم. وعلى الرغم من أن هذا النهج يحظى بشعبية بين الشتات الفنزويلي والكوبي، لا سيما في جنوب فلوريدا، إلَّا أنه لا يحظى بتأييد يُذكر داخل أميركا اللاتينية. لقد فرضت واشنطن أكثر من 300 عقوبة على أفراد في السلفادور وغواتيمالا ونيكاراغوا وباراغواي وفنزويلا. وفي إجراء وُصف بالكوميدي، فتحت “خط ساخن” يسمح لمواطني أميركا الوسطى بتقديم شكوى ضد المسؤولين الفاسدين إلى وزارة العدل الأميركية مباشرة. هذا النوع من التدخل (أسمته الولايات المتحدة بـ”التدخل الايجابي”) لا، ولم يأخذ في الحسبان الآثار طويلة المدى. حتى الآن، لم تُسفر العقوبات الأميركية عن تغيير يُذكر في السلوك.

تكوين صداقات جديدة

قد يقول البعض إن بعض قادة أميركا اللاتينية الجُدد يمثلون تهديداً لاستقلال القضاء والمؤسسات الانتخابية وحقوق الإنسان، وإنه هذا هو الحال في نيكاراغوا وفنزويلا ودول أخرى مع نتائج يمكن التنبؤ بها. ومع ذلك، من الأفضل للدبلوماسيين الغربيين تطوير العلاقات مع هذه الطبقة القيادية الجديدة. إن الفشل في القيام بذلك يُهدّد بضياع الديناميكيات المتغيرة في المنطقة. وهذا بدوره يؤدي إلى سياسة لن تلقى صدى يُذكر بين شعوب أميركا اللاتينية. وبينما ينهمك الشمال المتقدم في تقديم المواعظ والمحاضرات لهذا الجيل الجديد من قادة أميركا اللاتينية حول أهمية الالتزام بالمعايير النيوليبرالية والديموقراطية وضرورة عزل المرتدين، فإن الصين وروسيا على استعداد تام لتوفير البديل.

تتفاقم الحاجة إلى توسيع الشبكات الدبلوماسية، ذلك لأن العديد من النُخب المتحدرة من المدارس القديمة تحتفظ بعلاقات مع دبلوماسيين وصُنًّاع القرار في الشمال. هذه الروابط تمنحهم خطاً مباشراً لتشكيل وجهات نظر الدبلوماسيين حول السياسة في بلدانهم الأصلية، وهي ميزة يفتقر إليها العديد من القادة المُنتخبين حديثاً. والنتيجة، لأسباب مفهومة، هي الشك المتبادل في التفسيرات والدوافع. يتعين على الغرب التكيف مع ما يُرجح أن يكون واقعاً سياسياً مُستداماً في أميركا اللاتينية، أقله في المستقبل المنظور.

– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز

(*) ساباتيني زميل أول لأميركا اللاتينية في “تشاتام هاوس”.

Print Friendly, PDF & Email
منى فرح

صحافية لبنانية

Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes
free online course
إقرأ على موقع 180  مئوية ثورة الصين.. من الجيل المؤسس إلى جيل "قيادة العالم"