فى الغرب ترددت كلمات رثاء حارة أطلقها مجايلوه من الرؤساء والقادة نسبت إليه أنه الرجل الذى هدم «الستار الحديدى» وأنهى «الحرب الباردة» وأطلق سراح الشعب الروسى من أغلال «الشيوعية» مستحقا «جائزة نوبل للسلام».
فى روسيا اختلفت النظرة إلى حد بعيد برغم بعض مظاهر التكريم عند دفنه، فهو الرجل الذى فكك الاتحاد السوفييتى والمنظومة الاشتراكية كلها وحل حلف «وارسو» ذراعها العسكرية وأفسح المجال واسعا أمام الولايات المتحدة للهيمنة بمفردها على النظام الدولى مستحقا الطرد من التاريخ!
بين النظرتين المتناقضتين تتبدى أهمية المراجعة لإرث الرجل فى التاريخ، دواعيه وتداعياته.
هو من جيل تشكل وعيه التاريخى بحدثين مزلزلين:
الأول، الحرب العالمية الأولى (1914ــ 1918)، وقد أفضت نتائجها إلى بناء نظام دولى جديد سرعان ما تقوّض وانهار مع أول طلقة رصاص فى الحرب العالمية الثانية (1939).
الثانى، الثورة السوفييتية (1917)، التى كان «فلاديمير لينين» قائدها ورمزها ومفكرها، وقد أسست أول دولة اشتراكية فى التاريخ.
عندما ولد عام (1931) كان «جوزيف ستالين» قد أحكم قبضته الحديدية على السلطة خلفا لـ«لينين»، وفرض قراءته الخاصة للماركسية اللينينية بعنف مفرط وقمع أى صوت مخالف داخل الحزب الشيوعى السوفييتى نفسه.
يُنسب لـ«ستالين» أنه قاد الاتحاد السوفييتى إلى النصر فى الحرب العالمية الثانية وأسس لنهضة صناعية وتكنولوجية نقلت البلد إلى العصر الحديث، غير أن أساليبه فى الحكم أشاعت الخوف والرعب فى أنحاء الإمبراطورية.
لم تكن مصادفة أن ينقلب خلفه «نيكيتا خروتشوف» على إرثه فى المؤتمر العشرين للحزب الشيوعى السوفييتى.
حاول أن يضفى قدرا من الانفتاح والسماحة على نظام حديدى مغلق بين عامى (1953ــ 1964).
انتهت تجربته بإطاحته وفرض العزلة عليه.
ودخل الاتحاد السوفييتى فى جمود طويل على عهد «ليونيد بريجينيف»، الذى امتد حتى (1982).
مراجعة التاريخ ضرورية حتى ندرك تعقيدات السلطة قبل صعود «جورباتشوف» إليها.
فيما بعد الجمود «البريجينيفى» تبدت فرصة حقيقية لإصلاح النظام من الداخل على يد السكرتير العام الجديد «يورى اندروبوف»، احتضن «جورباتشوف» ودفعه للأمام أملا فى تجديد الدماء، لكنه خذل رهان عرابه عندما آلت السلطة إليه.
كانت الشيخوخة بكامل معانيها قد ضربت الحزب.
بأي نظرة موضوعية فإن «جورباتشوف» لا يتحمل وحده مسئولية انهيار الإمبراطورية السوفييتية السابقة. هناك من هو مستعد، والنتائج أمامه، ان يتهمه بالعمالة للغرب، أو أنه كان حصان طروادة الذى اخترق القلاع الحصينة وأسقطها من الداخل. هذا مجرد افتراض. الحقيقة الثابتة أن الاتحاد السوفييتى سقط من داخله بأكثر من أى تآمر خارجى، أو اختراق استخباراتى
بين (1982) و(1985) مات على التوالى ثلاثة قياصرة سوفييت «بريجينف» و«اندروبوف» بعد أقل من عامين فى الحكم و«قسطنطين تشيرنينكو» بعد أقل من عام آخر.
بدا ذلك داعيا للرهان على سكرتير عام جديد شاب نسبيا.
هكذا صعد «جورباتشوف» بداعى تجديد الدولة والحزب وضخ دماء جديدة فى الشرايين المتكلسة، وهو ما أخفق فيه بفداحة.
فى تجربته التى امتدت بين عامى (1985ــ 1991) تبنى ما أطلق عليه «البيريسترويكا” (إعادة البناء) و«الجلاسنوست» (الشفافية).
ذاعت مصطلحاته فى العالم بأسره، التقطت الميديا الغربية أول الخيط ونسجت منه مشنقة للاتحاد السوفييتى، سلطت الأضواء على القيصر الجديد تحت قباب الكرملين كأنه من نجوم هوليوود، صارت زوجته نجمة غلاف فى كبريات المجلات الغربية، كأنهما نسخة روسية من الرئيس الأمريكى الراحل «جون كينيدى» وزوجته «جاكلين كينيدى».
استسلم «جورباتشوف» لإغواء أضواء الكاميرات، وبدأ يقول ما يريد الغرب أن يسمعه.
تدافعت الحوادث، كأننا أمام شريط سينمائى لاهث بين عامى (1989) و(1991):
توحدت الألمانيتان بعد سقوط جدار برلين، حصل «جورباتشوف» على جائزة «نوبل» للسلام، حل حلف «وارسو»، وصعد نجم «بوريس يلتسين» إثر فشل الانقلاب العسكرى الذى حاول الإبقاء على الدولة، فى النهاية استقال «جورباتشوف» مرغما فى (25) كانون الأول/ديسمبر (1991) وحل الاتحاد السوفييتى فى اليوم التالى قبل أن يعلن عن حظر نشاط الحزب الشيوعى!
بأي نظرة موضوعية فإن «جورباتشوف» لا يتحمل وحده مسئولية انهيار الإمبراطورية السوفييتية السابقة.
هناك من هو مستعد، والنتائج أمامه، ان يتهمه بالعمالة للغرب، أو أنه كان حصان طروادة الذى اخترق القلاع الحصينة وأسقطها من الداخل.
هذا مجرد افتراض.
الحقيقة الثابتة أن الاتحاد السوفييتى سقط من داخله بأكثر من أى تآمر خارجى، أو اختراق استخباراتى.
إرث «جورباتشوف»، بكل شواهده وأسراره، لن يبرح المكان لعقود طويلة مقبلة بقدر تأثيره العميق فى حركة الحوادث الدولية.
بالمفارقة فهو روسى أوكرانى.
بتلخيص ما فإن الحرب الأوكرانية الحالية من التبعات المتأخرة لتفكيك الاتحاد السوفييتى وتغول حلف «الناتو» داخل حدود الإمبراطورية السابقة.
بقوة الحقائق: لم يعد ممكنا الإبقاء على مكونات النظام الدولى الذى تأسس إثر انتهاء الحرب الباردة.
بذات القدر لم يعد ممكنا إعادة الاتحاد السوفييتى إلى الحياة بصيغة روسية استراتيجية جديدة كقوة عظمى فائقة يمتد نفوذها إلى شرق أوروبا، التى اجتاحها الجيش الأحمر اثناء الحرب العالمية الثانية، والشرق الأقصى، حيث انتصرت الثورة الصينية وحاربت الثورة الفيتنامية، واصلا إلى القارتين الأفريقية التى طلبت حركات تحريرها الاستقلال الوطنى، واللاتينية التى رفعت سلاح حرب العصابات ضد الهيمنة الأمريكية، كما حدث فى كوبا.
التاريخ لا يعود إلى الوراء، لكن إرثه ماثل فى الذاكرة.
كان مثيرا أن أكثر من ابتهجوا لسقوط الاتحاد السوفييتى هم أنفسهم الذين دفعوا أغلب الفواتير، خاصة هنا فى العالم العربى.
لا يصح تجاهل أن الرأسمالية طورت من نفسها تحت ضغط الأفكار الاشتراكية، نشأت فى كنف الدول الغربية حركات جديدة أطلق عليها «الشيوعية الأوروبية» ــ بتأثير أفكار رجال من حجم «تولياتى» و«جرامشى» فى إيطاليا ــ دمجت ما بين الفكرتين الاشتراكية والديمقراطية.
ولا أنه قد نشأت فى أوروبا الشرقية نزعة قوية أطلق عليها «الاشتراكية بوجه إنسانى» تجسدت فى «ربيع براج» إثر وصول «إلكسندر دوبتشيك» إلى السلطة زعيما للحزب الشيوعى التشيكوسلوفاكى.
تبنى “دوبتشيك” تجديد الاشتراكية ونزع ثقافة الخوف وإشاعة الديمقراطية والحريات الصحفية، لكن مشروعه جرى سحقه بدبابات «حلف وارسو»، الذى كان يقوده الاتحاد السوفيتى فى آب/أغسطس (١٩٦٨).
فى الحساب الأخير لم يكن «جورباتشوف» هو رجل تجديد الاشتراكية، أو إصلاح خلل بنية الاتحاد السوفييتى، الذى أسلمه إلى النهايات المحتمة.
(*) بالتزامن مع “الشروق“