موازنة لبنان 2022: حماية المال العام أم مافيا التعويضات؟

ليس الهدف من كتابة هذه السطور الدفاع عن نص قانوني، بقدر الإضاءة على ذهنية معشعشة في كل مفاصل هذا النظام، تتغنى بالإصلاح ليلاً ونهاراً وجهاراً، وعند "الإمتحان" تُصبح في مقدمة حماة مافيات هدر المال العام.. وإليكم المثل الساطع.

تعاني بلدية بيروت وغيرها من البلديات والإدارات اللبنانية العامة من وقوعها ضحية ما يُركّب لها من ملفات بأنها وضعت يدها قبل أكثر من خمسين عاماً على عقارات خاصة من دون مراعاة الأصول ولم تدفع التعويضات لأصحاب هذه العقارات، فيتقدّم الورثة بدعاوى تعويض أمام المحاكم العدلية (المحكمة الابتدائية في بيروت الغرفة السابعة)، التي تحكم لصالحهم لأن بلدية بيروت خلال الدعوى إما تقرّ بهذا التعدي أو تدلي بتعذّر تقديم المستندات المثبتة للدفع المتوجب بسبب ضياع (أو تضييع) الملف (الملفات) في البلدية.

وبالمصادفة، اطلعت على ملف تسديد تعويض عن استملاك غير مباشر صدر بنتيجته حكم عن محكمة التمييز قضى بتعويض ورثة مستأجر (وليس مالكاً) عن هدم المأجور في العام 1955 (أي قبل أكثر من 60 عاماً) بمبلغ خمسة مليارات ليرة لبنانية. وعن العقار ذاته، تقدّم المحامي ذاته بطلب تعويض إضافي، فصدر حكم بمنحه تعويض ثلاثة مليارات ليرة لبنانية. ثمّ تقدّم الورثة ذاتهم بطلب تعويض ثالث، ولأن الملف بحوزتي تواصلت مع التفتيش المركزي الذي طلب ملف العقار من وزارة المالية – الدوائر العقارية ليتبيّن أن بلدية بيروت قد سدّدت كافة التعويضات للمالكين من آل الأصفر، وأنه لا يوجد دليل على عقود إجارة على هذه العقارات وبالتالي لم يكن المدعون أصحاب حقٍ بالمليارات التي تقاضوها. ولدى إدارة التفتيش معلومات وتحريات كافية حول المرتكبين إلا أنه لم يصدر قرار عن هيئة التفتيش المركزي حتى تاريخه.

وبمتابعة ملفات أخرى تبيّن أن معظم الدعاوى المشابهة هي دعاوى احتيالية يستغل المدعون فيها واقعة غياب أو اتلاف الملفات في البلدية، ولكي أكون مطمئناً في هذا الحكم راجعت الجريدة الرسمية في الفترة السابقة للحرب الأهلية فوجدت أكثر من 500 مرسوم استملاك للمنفعة العامة أو مراسيم تخطيط طرق في نطاق مدينة بيروت، إلا أنه للأسف لا يذكر في هذه المراسيم أرقام العقارات ما يستدعي التعاون بين عدة جهات رسمية لإعادة تكوين ملفات هذه المراسيم وتعيين العقارات المشمولة بها. بالفعل في تلك الفترة الزمنية كانت الإدارات اللبنانية لا سيما البلديات تلتزم بحقوق المواطنين وتُسدّد التعويضات، ولكن لسببٍ ما لا تنقل الملكية على اسم الإدارة العامة. وخلال الحرب الأهلية اللبنانية (1975 ـ 1990)، فُقدت ملفات هذه العقارات لدى الإدارة المستملِكة، ما جعل الورثة ممن ما زالت العقارات باسم مُورثيهم يظنون أن الإدارة وضعت يدها خلافاً للأصول على هذه العقارات. وأحياناً يحصل تواطؤ بين الإدارة والورثة من أجل تقاسم التعويض.

للأسف عمدت لجنة الإدارة والعدل النيابية إلى حذف هذه المادة من مشروع الموازنة، بالرغم من أنها مادة إصلاحية تهدف إلى قطع يد المتطاولين على المال العام، من دون أن يفهم أحد سبب حذفها ولا كيف رأت بها لجنة المال والموازنة أنها تخالف الدستور وتشكّل تعدياً على الملكية الخاصة، لكأن نظام الإقتصاد الحر صار منافيا لتشريع هدفه حماية المال العام

أثناء البحث عن حلول جذرية، لم نجد سوى مجلس النواب ملجأً لحسم هذا الوضع الشاذ، من خلال توسيع مفهوم سقوط الحق بإقامة الدعاوى بمرور الزمن، بحيث يتم نزع الحجة التي تستند إليها دوائر البلدية وهي حجة تلف الملف بفعل الحرب الأهلية أي منذ أكثر من أربعين عاماً. ولهذا تمّ إعداد مشروع تعديل حكم مرور الزمن على نوعٍ محدد من القضايا هو قضايا ما يسمى الاستملاك غير المباشر، بحيث لا يعقل أن ينتظر صاحب الحق أكثر من أربعين عاماً لكي يتقدّم بالمراجعة.

وتمّ إدراج هذا التعديل في مشروع قانون موازنة العام 2022 التي وافق عليها مجلس الوزراء وأحالها إلى مجلس النواب متضمّنة النص الآتي: يسقط بمرور الزمن العشري الحق بالتعويض عن الاستملاك غير المباشر أو تعدي الإدارات العامة على عقارات خاصة، إذا كان هذا الاستملاك غير المباشر أو التعدي حاصلاً قبل تاريخ 13/4/1975. أما في دعاوى التعويض عن الاستملاك غير المباشر والتعدي على الملكية العقارية الخاصة الحاصلة بعد تاريخ 13/4/1975، تأخذ المحكمة عند تقدير التعويض تأخر المدعي في المطالبة بحقوقه، لما يزيد عن عشرة أعوام، بحيث يعتبر هذا التأخر تقصيراً يكون من مفاعيله توزيع المسؤولية بين الإدارة وصاحب العقار”.

إن هذا النص الذي ميّز ما بين دعاوى مطالبة بتعويض عن وضع اليد على ملكية خاصة قبل أكثر من أربعين عاماً، في هذه الحالة لا يحق للورثة المطالبة بأي تعويض، أما إذا كان وضع اليد حاصل بفترة ما بين عشر سنوات وأربعين سنة فيصار إلى توزيع المسؤولية، وفق تقدير القضاء الذي يجب أن يأخذ كافة المعطيات بالاعتبار لناحية ما إذا كان يوجد تحايل على القانون أم إذا كان المدعي صاحب حق فعلي بحيث لا تكتفي المحكمة بما تدلي به الإدارة من معطيات.

إقرأ على موقع 180  قرية "العقبة" الفلسطينية.. نموذجاً لمحاكاة الحرب مع حزب الله

للأسف عمدت لجنة المال والموازنة النيابية إلى حذف هذه المادة من مشروع الموازنة، بالرغم من أنها مادة إصلاحية تهدف إلى قطع يد المتطاولين على المال العام، من دون أن يفهم أحد سبب حذفها ولا كيف رأت بها لجنة المال أنها تخالف الدستور وتشكّل تعدياً على الملكية الخاصة، لكأن نظام الإقتصاد الحر صار منافيا لتشريع هدفه حماية المال العام.

إن حجة المدافعين عن عدم حذف هذه المادة، وأنا بينهم، أن من له ملك معتدى عليه، لن يسكت أربعين عاماً للمطالبة بالتعويض، بينما تركيب ملف للسيطرة على المال العام بعد أكثر من أربعين عاماً لحصول الواقعة أمر محتملٌ حصوله، ثمّ أليس المال العام له أيضاً محله الدستوري من الرقابة والحماية؟

لذا هي فرصة أخيرة لإقرار هذا النص في الهيئة العامة، لعلنا ننقذ ما تبقى من أموال في بلدية بيروت وفي غيرها من البلديات من سطوة بعض الفاسدين.. والشواهد كثيرة على ما تم تبديده في هذه البلدية في العقود الأخيرة، بينما الوقائع على الأرض يومياً تشي بضرورة محاسبة هذه البلدية ومعها معظم بلديات لبنان.

 

 

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التحديات الميقاتية "دمشقية".. والسعودية "لن تخضع للإبتزاز"!