أميركا تُحاصر قمة سمرقند.. وروسيا المجروحة تُلوّح بالنووي!

في توقيت مريب، إشتعلت جبهتا القوقاز بين أرمينيا وأذربيجان وفي آسيا الوسطى بين طاجيكستان وقرغيزستان، بينما كان الرئيس الصيني شي جين بينغ يُطل على المسرح الأوراسي عبر قمة منظمة شنغهاي في سمرقند. سبق ذلك إنهيار الخطوط الدفاعية للجيش الروسي في شمال شرق أوكرانيا على جبهة خاركيف، في تحولٍ ميداني هو الأهم منذ إنكفاء روسيا من ضواحي كييف في نيسان/أبريل الماضي.

المثير للإستغراب أن الولايات المتحدة لم تشارك كييف “رقصة النصر”، قبل أن تعرف كيف سترد روسيا، وهو الأمر الذي يُمكن أن يُفسر الموقف الأول من نوعه للمتحدث باسم الكرملين بأن سيناريو إستخدام السلاح النووي ممكن ربطاً بالعقيدة النووية الروسية التي تحدد الحالات “مثل سيناريوات العدوان على روسيا وحلفائها باستخدام أسلحة الدمار الشامل أو العدوان باستخدام الأسلحة التقليدية، وعندما يكون وجود الدولة نفسها في خطر”، على حد تعبير دميتري بيسكوف، المتحدث باسم الرئاسة الروسية.

هذا التطور في الموقف الروسي إستدعى تحذيراً من البيت الأبيض للكرملين من مغبة إستخدام أسلحة نووية ضد أوكرانيا. ورداً على سؤال وجّهه إليه المذيع الأميركي سكوت بيلي ضمن برنامج “60 دقيقة” حول حراجة موقف بوتين وإمكان إستخدامه السلاح النووي، قال الرئيس الأميركي جو بايدن مخاطباً نظيره الروسي: “لا تفعل. لا تفعل. لا تفعل. سوف يؤدي ذلك إلى تغيير وجه الحرب بصورة غير مسبوقة منذ الحرب العالمية الثانية”.

يشي ذلك أن الإنزياح الذي شهدته الجبهات الروسية – الأوكرانية على مدى الأيام الماضية ستكون له إرتداداته الحتمية. ثمة من يقول إن الأوكرانيين إعتمدوا تكتيكاً حربياً بارعاً عندما جعلوا الروس يعتقدون أن الجيش الأوكراني يعتزم شن هجوم واسع النطاق على جبهة خيرسون في الجنوب، بينما كانت التحضيرات جارية لشن الهجوم الفعلي في الشمال الشرقي على جبهة خاركيف، فما كان من القوات الروسية أن نفذت إنسحاباً على عجل في إتجاه دونيتسك بإقليم دونباس.

فعلياً، خسرت روسيا نحو 6 آلاف كيلومتر مربع من الأراضي، في أيام قليلة، بينما إستغرقها السيطرة عليها أشهراً عدة. ومع ذلك، بقي السؤال هل يُشكل ذلك تحولاً إستراتيجياً في مجرى الحرب؟

إشتعال جبهة آسيا الوسطى، تحمل في طياتها رسالة ليس لروسيا فحسب، وإنما للصين لتزامنها مع إنعقاد قمة شنغهاي للتعاون في مدينة سمرقند الأوزبكية التي كانت محطة أساسية على طريق الحرير القديم

المسؤولون الأميركيون غير متعجلين الوصول إلى هذا الإستنتاج، مع أنهم لا يكلون عن تكرار أن المكاسب الأوكرانية تحققت بفضل راجمات الصواريخ الأميركية “هيمارس” التي تحدد أهدافها بواسطة الأقمار الإصطناعية بنظام “جي. بي. إس.”، فضلاً عن أسلحة أميركية مضادة للرادارات وأنظمة صواريخ أرض – جو، حالت دون تدخل سلاح الجو الروسي بفاعلية لحماية القوات البرية في الخطوط الأمامية، أو حتى لتنفذ إنسحاباً منظماً من أرض المعركة. كما أن الأميركيين يشيرون إلى أن التعاون الإستخباراتي بين الولايات المتحدة وأوكرانيا لعب هو الآخر، دوراً أساسياً في الهجوم الأوكراني المضاد.

وبخلاف أعضاء في الكونغرس بالغوا في الحديث عن أهمية التقدم الأوكراني على غرار السناتور الديموقراطي كريس مونز، الذي قال إن راجمات “هيمارس” الأميركية “مكّنت الأوكرانيين من قلب الأوضاع على نحوٍ دراماتيكي”، تحدث بايدن بلغة إشادة متحفظة قائلاً “إن الأمور لا تزال قيد التنفيذ”.

وربما يفسر تعليق القائد السابق لقوات حلف شمال الأطلسي بين عامي 2013 و2016 جنرال الجو المتقاعد فيليب بريدليف، على التطورات الميدانية بعضاً من أسباب الحذر الأميركي في الإحتفال بالنصر، إذ قال أنه على رغم الخسائر الأخيرة التي مني بها بوتين، فإن الأخير “لا يزال يملك الكثير من الدبابات والكثير من الشاحنات والكثير من الأشخاص الذين في إمكانه زجهم في هذه المعضلة. لكن ليست الدبابات (المدمرة) هي من النوع الأفضل الذي يملكه، أو الشاحنات الأفضل، ولا أفضل الرجال الذين لديه”. ويضيف في معرض تحذيره من أن الشتاء يبقى التحدي الأكبر، أن بوتين يتحرك لقطع إمدادات الطاقة عن أوروبا، التي تتوقع إرتفاعاً أكثر في الأسعار، وكأنه بذلك يُقلّب الرأي العام في كل المنطقة، ويسعى “إلى فصل الشعب الأوروبي عن قياداته السياسية”.

وبما أن لا شيء متروكاً للصدف في أوج الصراع الدولي الدائر حالياً، تحركت مجدداً الجبهة الأرمينية – الأذرية وبعدها بيومين إندلعت إشتباكات حدودية بين طاجيكستان وقرغيزستان. هذه التطورات الميدانية، بدت وكأنها محاولة لإشغال روسيا بجبهات عدة في وقت واحد، فلا يتاح لها إلتقاط الأنفاس في أوكرانيا.

وإشتعال جبهة آسيا الوسطى، تحمل في طياتها رسالة ليس لروسيا فحسب، وإنما للصين لتزامنها مع إنعقاد قمة شنغهاي للتعاون في مدينة سمرقند الأوزبكية التي كانت محطة أساسية على طريق الحرير القديم. ومن إيحاءات التاريخ وإسقاطاتها على الحاضر، تشق الصين نفوذها في آسيا الوسطى بمبادرة الحزام والطريق، إلى إيران والشرق الأوسط وأفريقيا، حاصدة نفوذاً لا يقل عن ذاك الذي تحصده في المحيطين الهادىء والهندي وحتى في أميركا اللاتينية.

كان يمكن لقمة سمرقند أن تمر بأقل قدر من مسببات القلق للولايات المتحدة، لولا الحرب الروسية – الأوكرانية والجهود التي يبذلها الغرب لعزل بوتين دولياً وخنق الإقتصاد الروسي، لحرمان الكرملين من الأموال اللازمة لمواصلة الحرب.

إقرأ على موقع 180  قمتان دوليتان كاشفتان.. حضوراً وغياباً

قمة سمرقند أثبتت الصعوبات التي تواجهها الولايات المتحدة في جعل العقوبات الغربية ذات تأثير واسع وسريع على الإقتصاد الروسي. فالدول التي تضمها منظمة شنغهاي تشكل نصف سكان الكوكب وتنتج 20 في المئة من الإقتصاد العالمي.

وأظهر اللقاء بين بوتين ونظيره الصيني على هامش القمة، أن “الصديقين القديمين” لا يزالان على تمسكهما بضرورة نشوء عالم متعدد القطب يضم “قوى عظمى” وليس قوة عظمى واحدة. أي أن روسيا والصين تؤكدان على التفاهم الإستراتيجي بينهما والقائم على ضرورة إزالة التأثير الغربي المهيمن على النظام العالمي.

والأسواق الآسيوية هي بديل روسيا عن الأسواق الأوروبية. وخط الغاز “قوة سيبيريا 2” إلى الصين عبر منغوليا المزمع بدء تشييده عام 2025، سيكون البديل عن خط “نورد ستريم 2” الذي أوقفته العقوبات الغربية، بينما خط “سيبريا 1” ستزيد طاقة الضخ فيه العام المقبل إلى ما يوازي طاقة الضخ الحالية في خط “نورد ستريم 1”.

أميركا تراقب، وهنا مكمن القلق، وسر تصاعد ضغوطها على الصين. ثمة أمر مسلم به في الولايات المتحدة: لا يمكن إلحاق الهزيمة الإستراتيجية بروسيا من دون تعاون الصين مع أميركا. لكن تحقيق هذا الأمر يبدو متعثراً بوجود شي جين بينغ على رأس القيادة ومع الإتجاه للتجديد له للمرة الثالثة في مؤتمر الحزب الشيوعي الصيني في تشرين الأول/اكتوبر المقبل.

هذا المسار الإنحداري للعلاقات الأميركية – الصينية، يدفع حكماً شي جين بينغ إلى تعزيز علاقاته بروسيا، والعكس صحيح، لأن هذا هو السبيل الوحيد لإقامة عالم متوازن مع الغرب وخصوصاً مع الولايات المتحدة، وإنهاء عالم القطب الواحد

أما والحال كذلك، فإن الضغوط الأميركية ستزداد على بكين. وعلى سبيل المثال، لم يكد شي جين بينغ يصل إلى سمرقند حتى أعلنت لجنة في مجلس الشيوخ الأميركي عن سن تشريع يسمح للولايات المتحدة بزيادة المساعدات العسكرية لتايوان. وقبل يوم من الرحلة الخارجية الأولى للرئيس الصيني منذ تفشي وباء كورونا في مطلع العام 2020، كان بايدن يعلن عن تأسيس تحالف يضم 13 بلداً في منطقة آسيا – المحيط الهادئ، يقوم على تطوير القطاع الرقمي ومصادر الطاقة المتجددة وقانون العمل ومكافحة الفساد. أما زيارات أعضاء الكونغرس وحكام الولايات الأميركية، فإنها تكاد تكون شبه أسبوعية إلى تايوان، بينما تعزز البحرية الأميركية حضورها في المنطقة.

هذا المسار الإنحداري للعلاقات الأميركية – الصينية، يدفع حكماً شي جين بينغ إلى تعزيز علاقاته بروسيا، والعكس صحيح، لأن هذا هو السبيل الوحيد لإقامة عالم متوازن مع الغرب وخصوصاً مع الولايات المتحدة، وإنهاء عالم القطب الواحد.

رسالة سمرقند غنية بالدلالات، وتكاد تمحو بعضاً من آثار التراجعات الروسية في خاركيف. إذن، كان لا بد من إعطاء زخم جديد لأوكرانيا، فكان إعلان الرئيس الأميركي جو بايدن عن مساعدة أميركية عسكرية جديدة إلى أوكرانيا بـ600 مليون دولار، في حين تقف رئيسة المفوضية الأوروبية أورسولا فون دير لايين في البرلمان الأوروبي، وترد على النواب المشتكين من إرتفاع أسعار الكهرباء والغاز، قائلة “إبعثوا بالفواتير إلى موسكو”!

Print Friendly, PDF & Email
سميح صعب

كاتب وصحافي، لبنان

Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  حفتر.. التفاحة الحمراء والسجادة المفروشة