أي أحكامٍ دستورية ترعى انتقال السلطة في لبنان؟

ثمة مناخات إيجابية تشي بإستشعار معظم الطيف السياسي تبعات الفراغ الذي يُمكن أن ينشأ عن إحتمال الفراغ الرئاسي وإستمرار واقع تصريف الأعمال حكومياً، في ظل الإلتباسات التي تسود الواقع الدستوري والسياسي في لبنان.

تضمّن الدستور اللبناني قواعد ناظمة لانتقال السلطة في لبنان، منطلقاً من مسّلمة حظر الشغور في السلطات القائمة. أولى هذه القواعد هي قاعدة وجوب انعقاد الحكومة عندما تكون في حالة تصريف أعمال عندما نصّت المادة 64 من الدستور أن لا تمارس الحكومة صلاحياتها إلا بالمعنى الضّيق لتصريف الأعمال؛ فالمشترع وإن استخدم الـ (لا) النافية للعمل، إلا أنه اتبعها بـ (إلا)  التي عطّلت حكم الـ (لا) وقضت بإلزام الحكومة بممارسة الصلاحيات المرتبطة بتصريف الأعمال بصورة استثنائية ضيّقة. فالجملة المذكورة استخدم فيها أسلوب الحصر، فإذا ما حذفت (لا) النافية وأداة الاستثناء (إلا) يتم المعنى (تمارس الحكومة صلاحياتها بالمعنى الضيق).

وبحسب هذا النص ـ وأيضاً التفسير اللغوي قبل القانوني ـ كان على الحكومة أن تبقى مستمرة بالانعقاد خلال الفترات الزمنية التي تعتبر فيها بحالة تصريف أعمال. لكن ما حصل أن الحكومات المتعاقبة اعتمدت التفسير المعاكس، وقرأت النصف الأول من الجملة: “لا تمارس الحكومة” وتم إغفال الباقي. فتعطّل مجلس الوزراء إلى حد التلاشي خلال فترة تصريف الأعمال المنتظمة والقانونية وأحلوّا مكانه، وخلافاً للدستور، ما سميّ ببدعة الموافقة الاستثنائية لرئيسي الجمهورية والحكومة والوزراء المختصين.

لكن لنذهب إلى صلب الموضوع، أي المادة 62 من الدستور التي تنصّ على أنه:”في حالة خلو سدة الرئاسة لأي علّةٍ كانت تناط صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة بمجلس الوزراء”.

بحسب هذا النص من يتولى صلاحيات رئاسة الجمهوية هو مؤسسة مجلس الوزراء، وحيث أن مجلس الوزراء معطّل بإرادة واعية مقتنعة ومصرّة على تعطيله وإرادة رافضة لانعقاده بصورة صريحة بالرغم من الدعوات المتتالية لانعقاده، كل هذا الواقع يمنعنا من القول بأن هذا المجلس المعطّل يحق له تولي صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة. لماذا؟

بالتطبيق وعندما كان رئيس الجمهورية في مركزه (أي ضمن ولايته الدستورية)، امتنع مجلس الوزراء عن الاجتماع فبأي منطقٍ يجيز لنفسه الاجتماع فور شغور مركز رئاسة الجمهورية؟

ولما كان أعضاء مجلس الوزراء قد سنّوا قاعدة (بمعزلٍ عن قانونيتها) وبمقتضاها أن حكومة تصريف الأعمال لا تنعقد، فهذه القاعدة تبقى مستمرة عند شغور سدة رئاسة الجمهورية وعليهم الالتزام بما ألزموا به انفسهم ويمنع على مجلس الوزراء الحالي بالتالي تولي صلاحيات رئيس الجمهورية وكالة.

الحلول مرهونة بوجود إرادة سياسية حقيقية لدى الأطراف بالتنازل والتوافق للخروج بحلولٍ ممكنة ومقبولة في ظل استحالة قدرة طرف واحدٍ على التقرير وفي ظل العقبات الخطيرة التي ستنجم عن الاستمرار في التعطيل الرئاسي أو الحكومي على حد سواء

إن عدم إمكانية تولي حكومة تصريف الأعمال لصلاحيات رئيس الجمهورية وكالة لا يعني أن الحلول معدومة، بل على العكس هناك أكثر من وسيلة دستورية ممكنة إذا صلحت النوايا، نستعرضها تباعاً:

  • الأولى، تشكيل حكومة جديدة وهو الأمر الذي أرجّح حصوله خلال الأسبوعين المقبلين لأنه لا خيار أمام الجهات المكلفة بتشكيل الحكومة إلا التوافق وبالتالي إعادة تعويم الحكومة الحالية بتعديلات طفيفة. وهنا من المفيد التذكير بما سبق وقرره مجلس النواب في معرض الجواب على سؤال رئيس الجمهورية حول تأخر سعد الحريري بتشكيل حكومته، فكان جواب مجلس النواب في جلسته بتاريخ 22 أيار/مايو 2021 الآتي: حرصا على عدم الدخول في أزمات ميثاقية ودستورية جديدة وحرصاً على الاستقرار في مرحلة معقدة وخطيرة اقتصادياً ومالياً واجتماعياً تستوجب إعطاء الأولوية لعمل المؤسسات. يؤكد المجلس على ضرورة المضي قدماً وفق الأصول الدستورية من قبل رئيس الحكومة المكلف للوصول سريعاً إلى تشكيل حكومة جديدة بالاتفاق مع رئيس الجمهورية. هذه التوصية هي دائمة ومستمرة ولا تقتصر على الحالة التي صدرت بمعرضها، بحيث يجب على المكلّفين بتشكيل الحكومة أن يكون هاجسهما انجاز مهمة التشكيل.
  • الثانية، إن امتناع رئيس الجمهورية والرئيس المكلف عن انجاز مهمة تشكيل الحكومة هو خرق للدستور يرقى إلى مرتبة الخيانة العظمى كونهما بهذا التصرف يُعرّضان البلاد لأخطار غير معلومة نتائجها بسبب عدم تشكيل حكومة في لحظات سابقة على شغور سدة رئاسة الجمهورية، وهذا ما يوجب على النواب تحضير عرائض الادعاء عليهما بجرم خرق الدستور والخيانة العظمى وفق المادتين 60 و70 من الدستور، خاصة وأن النواب يعلمون بوجود نظام المساءلة حيث سمعنا مؤخراً عن نية لمساءلة وزير المالية لإخلاله بواجب الامتناع عن توقيع مرسوم تعيين رؤساء محاكم التمييز، وسيّان الفرق في مفاعيل الامتناع عن توقيع مرسوم تشكيل الحكومة عن الامتناع عن توقيع مرسوم تعيين قضاة محاكم التمييز، والحالة الأولى هي الأولى بالملاحقة والمساءلة. ولا يخفى ما لاستخدام هذه الوسيلة من مخاطر متصلة بكفّ يد الرئيسين إلى حين صدور الحكم عن المجلس الأعلى لمحاكمة الرؤساء والوزراء، وفي هذه الحالة يكون على مجلس النواب أن يجتمع وفق المادة 74 من الدستور فوراً وبلا إبطاء لانتخاب رئيس جديد للبلاد.
  • الثالثة، أن يصار إلى انتخاب رئيس جديد للجمهورية ضمن المهلة الدستورية، أي خلال هذا الشهر وقبل انتهاء ولاية رئيس الجمهورية، وهو الأمر المنطقي إذ لا يوجد أي دولة تترك مسألة الاتفاق على هكذا مسائل إلى اللحظات الأخيرة، بل يفترض أن تكون التحضيرات لانتخاب الرئيس قد انطلقت قبل سنة من انتهاء ولايته، ولهذا فإنه من الممكن، فيما لو حسنت النوايا وقرر النواب الالتزام بواجبهم الدستوري بحضور جلسات انتخاب رئيس الجمهورية لا سيما وأن الدستور لم يُحدّد نصاباً لجلسة انتخاب الرئيس وإنما حدّد عدد الأصوات التي يجب أن ينالها ليفوز بهذا المركز، أي الفوز بثلثي عدد النواب في الدورة الأولى والأغلبية المطلقة منهم في دورات الاقتراع التي تلي، ومردّ عدم تحديد الدستور لنصاب جلسات انتخاب رئيس الجمهورية هو افتراضه أنه من المستحيل أن يتغيّب أيّ نائبٍ عن أداء واجبه الوطني، ولهذا على رئيس مجلس النواب توجيه الدعوة لانعقاد جلسة انتخاب رئيس الجمهورية وعلى جميع النواب تلبية هذه الدعوة ولا يتخلّف أي منهم إلا لعذرٍ مشروع، علماً أن التطبيق السابق في مجلس النواب كان يسير على قاعدة أن النائب لا يتغيب عن الجلسات إلا بعد حصوله على إذن من الهيئة العامة لمجلس النواب.
إقرأ على موقع 180  "هآرتس": إسرائيل وقعت في مصيدة استراتيجية.. وحرب لبنان واردة!

إن هذه الفرضيات المطروحة تبقى مرتبطة بالمثاليات الواجب اعتمادها في تطبيق النص الدستوري، إلا أنه كما أشرنا إلى أن النص الدستوري لا يُقرأ إلا من خلال الواقع، وحيث أن الواقع الحالي يشي بعلاقة مأزومة بين الرئاستين الأولى والثالثة (وكذلك بين الرئاستين الأولى والثانية)، أو لناحية الخصوصيات المجتمعية التي تحول دون اتهام أيٍ منهما، أو لناحية تركيبة مجلس النواب غير المتجانسة، كل ذلك يجعل الحلول مرهونة بوجود إرادة سياسية حقيقية لدى الأطراف بالتنازل والتوافق للخروج بحلولٍ ممكنة ومقبولة في ظل استحالة قدرة طرف واحدٍ على التقرير وفي ظل العقبات الخطيرة التي ستنجم عن الاستمرار في التعطيل الرئاسي أو الحكومي على حد سواء.

Print Friendly, PDF & Email
عصام نعمة إسماعيل

أستاذ مادة القانون الدستوري في الجامعة اللبنانية

Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
free download udemy course
إقرأ على موقع 180  اللبناني أين كان وأين أصبح.. ريما عبد الملك نموذجاً