بصورة مفاجئة، أصبحنا نسمع ونقرأ، من هذا المصدر ومن ذاك، أنّ السّيد كمال الحيدري – أميرَ الحرب الفكريّة-النّقديّة على العقل الإسلامي “الدّاعشي” (مواليد ١٩٥٦، كربلاء-العراق، بحسب بعض المواقع الإلكترونيّة المتخصّصة)، وذا العقل الموسوعي والتّحليلي والعرفاني الذي قلّ نظيره صراحةً – موضوعٌ تحت نوع من “الإقامة الجبريّة”، وبطلب من مراجع بارزة في الحوزة العلميّة، أو على الأقل، فهو حاليّاً ممنوع من ممارسة نشاطاته التّعليميّة والإعلاميّة بحرّيّة.. وذلك إلى إشعار آخر!
وبمعزل عن شكّنا في الأخبار الواردة من قنوات وصحف معادية للجمهوريّة الإسلاميّة في إيران، فقد أكّد لنا وجودَ مشكلة حقيقيّة للحيدري مع بعض السّلطات الدّينيّة النّافذة في “قم” عاملان أكيدان – على الأقل: أولاً، غياب السّيّد ذي الذّهن البحثيّ المتوقّد عن السّاحة الإعلاميّة بمختلف أشكالها؛ وثانياً، تصريحات اطّلعنا عليها أو سمعناها، لمقرّبين منه، أكّدوا من خلالها أن وضع السّيّد “ليس سليماً” في مكان إقامته. فما الذي فعله العلّامة الحيدري لكي يعامل بهذه الطّريقة؟ وما هي مصلحة “الخطّ” الممتدّ من إيران إلى لبنان، مرورا باليمن وبمختلف أقطار العالمَين العربي والإسلامي: ما هي مصلحته، وما هي مصلحة مستقبل الفكر الإسلامي والثّقافة الإسلاميّة والعربيّة، في أن يُحاصر فقيهٌ وعالمٌ وفيلسوفٌ بحجم هذا الفقيه والعالِم والفيلسوف؟
السّبب المباشر الذي استطعنا الوصولَ إليه هو مقابلة تلفزيونيّة حول الإسلام والعلمانيّة، جرت منذ ما يقارب السّنتين (أيلول/سبتمبر ٢٠٢٠ حسبما يتضّح من بعض المواقع الإلكترونيّة)، ادّعى فيها السّيّد أنّ بعض كبار العلماء المؤسّسين للمذهب الشّيعي الإمامي، يكفّرون ضمنيّا – أو بشكل غير مباشر، وبنسب متفاوتة – أتباع المذاهب الإسلاميّة الأخرى، لا سيّما أتباع مذهب الصّحابة أو ما يسمّى بمذاهب أهل السّنّة والجماعة. وباختصار، فإنّ الفكرة الأساسيّة خلف هذا الادّعاء منبثقة – على ما يتّضحُ – من مسألة الإمامة عند الشّيعة، وكون بعض أو أغلب – أو جميع – مشايخ الطّائفة الأوائل يضعونها ضمن أصول الدّين (وليس فقط أصول المذهب) – وذلك مع التّبسيط.
شاهدتُ هذه المقابلة بنفسي (وقد أجراها معه الإعلامي العراقي الأستاذ سعدون ضمّد، وعنوانها “حوار الدّين والعلمانيّة”)، وبالأخص ذلك المقطع المذكور. وبسبب معرفتي السّابقة بمنهجيّة السّيّد الحيدريّ، المدروسة والمهَندَسة والمنحوتة إلى أقصى حدّ، في مختلف المواضيع والعلوم، ولمعرفتي كذلك بدقّة المقدّمات-التّموضعات المعرفيّة والنظريّة والتّنقيبيّة التي يعتمد عليها، لم أتفاجأ أبداً بطريقة عرضه للنتائج التي وصل إليها، ولا التبَس عليّ مقصدُ كلامه في هذا الإطار؛ ولا اعتبرتُ أنّه يقول بتكفير علماء الشّيعة الإماميّة لأهل السّنّة بهذه البساطة (هو أصلاً بدأ بإثبات العكس: أي التكفير العلني والضمني من قبل أغلب علماء أهل السّنّة للمذاهب الأخرى، ضمن ورشة نقديّة عامّة تتناول هذا العقل التّكفيري عند جميع المذاهب الإسلاميّة حقيقةً).
هذه الحلقة التلفزيونية، ما هي إلّا الحجّة الخارجيّة، لبعض الجهات الديّنيّة-المؤسّساتيّة، في سبيل محاولة القضاء على ظاهرة السّيّد الحيدري، بتبرير أنّه يشوّش على العقل الشّيعي، وأنّه يضع “المحور” في حالة حرجة أمام أكثريّة العالم الإسلامي المنتمية إلى المذاهب “السّنّيّة”. وهي للأسف، إن صحّ ما نقرؤه ونسمعه، محاولة غير محمودة
إنّ هذا الرّجل الذي وضع الأطر الأنطولوجيّة والأبستمولوجية (أي “المعرفيّة”) والأصوليّة (بمعنى أصول الفقه الإسلامي) والمنهجيّة التي تخوّله أن يردّ على منهجيّات ونتائج أعلام كملّا صدرا الشيرازي، والشيخ الرئيس ابن سينا، والسيّد الشّهيد محمد باقر الصّدر، والفيلسوف الألماني الكبير عمانوئيل كانط، والمنظّر المعاصر الشهير للمذهبَين الإلحادي واللّا-أدري ريتشارد دووكينز.. بل حتّى على العالم الفيزيائي المعاصر الكبير ستيفن هووكينز في مسألة العلّيّة والسّببيّة مثلاً.. إنّ هذا الرّجل، حسب متابعتي لطريقته البحثّية، لا يمكن أن يقوم بادّعاء كهذا أو كغيره من الادعاءات، من غير إثباتاتٍ قويّة ومتينة. ثمّ إنّ عقلاً فلسفيّاً ونقديّاً بهذا الحجم – وأقولها بلا تردّد، علماً بأنّي لا أعرف السّيّد شخصيّاً إلّا من خلال بعض أعماله الكثيرة والغزيرة، وهو بطبيعة الحال لا يعرفني، ولا تربطنا أي علاقة شخصيّة أو عائليّة أو حزبيّة، ولا بأي شكل من الأشكال – من قبيل عقل محمّد باقر الصّدر وعقل محمد عابد الجابري وعقل محمّد أركون وغيرهم، لا يمكن فهم أفكاره من خلال الأحكام التبسيطيّة (كقولنا مثلا: لقد قال السّيّد إنّ الشّيعة يكفّرون السّنّة أو العكس! المسألة هذه أشدّ عمقاً وتعقيداً بطبيعة الحال، كغيرها من المسائل “النّقديّة” التي يتناولها أعلامٌ كهؤلاء الذين ذكرناهم..).
بشكل أعم، يتحدّث السيّد الحيدري عن بعض الأصول والمفاهيم التي وضعها عدد من كبار فقهاء الشّيعة الإماميّة السّابقين، والتي لا بدّ للمعاصرين، بحسب رأيه، من بحث سبل تطويرها وتكييفها، أقلّه على المستوى التّطبيقي. في زمانهم هم: قد تكون أصول كهذه الأصول متماشية مع السّياق المعرفي والثقافي للزّمان التي ظهرت فيه. أمّا في زماننا نحن، فالسّؤال الذي يطرحه السّيّد العلّامة هو التالي: هل يمكن اعتبار أنّها لا زالت مناسبة وغير مؤذية للأمّة ولمستقبلها كما وللمذهب ولمستقبله؟ هل يمكن أن نسمح لأنفسنا بعدُ بألّا نطرح مسألة نقدها أولاً، ثمّ مسألة إصلاحها ثانياً؟ ليس من الصّعب واقعاً، على من اطّلع على الحدّ الأدنى من الأعمال الفلسفيّة والدّينيّة ذات الطّابع النّقدي، أن يفهم سياق ومعنى مقولة السّيد في هذا البرنامج وفي غيره. وليس من الصّعب عليه أن يتقبّل مقولة أو نتيجة بحثيّة مغايرة لمقولات ونتائج القدماء والأوّلين – كما لمقولاته ونتائجه هو.
فكم من القرون يلزمنا حتى نفهم أنّ طبيعة الفكر الإنساني تجعله متحرّكاً ومتغيّراً على الدّوام؟ وكم ألف سنة يلزمنا حتى نفهم الفرق بين الحقائق الإلهيّة الثّابتة وبين التأويلات الإنسانيّة المتحرّكة؟ وكم من الزّمن سيلزمنا حتّى نعيَ الفرق بين الشّريعة الإلهيّة الثّابتة وبين الفقه الإنساني المتحرّك والمتغيّر؟ أولَم نطّلع مثلاً على تاريخ الصّراع بين الكنيسة الكاثوليكيّة في أوروبا، وبين العقل “النّقدي” المتألّق خلال ما يسمّى بعصر الأنوار؟ أين أصبحت الكنيسة اليوم وأين أصبح العقل النّقدي “التّنويري”؟ هل يصرّ جميع رجال وعلماء الدّين “المؤسّساتي” على الانهزام والتّراجع أمام تغيّر الكون والواقع الإنساني؟ إنّها لظاهرة عجيبة فعلا: كيف أنّ الفكرَين الدّيني-الظّاهري من جهة، والأيديولوجي من جهة أخرى، يصرّان دائما على الانهزام المدوّي وشبه الحتمي أمام متغيّرات الزّمان والمكان (وهل هذه الطّبيعة المتغّيرة أصلاً: إلّا قانون من قوانين الله سبحانه في الوجود والخلق؟)..
في الخلاصة، لا شكّ عندي في أنّ هذه الحلقة التلفزيونية، ما هي إلّا الحجّة الخارجيّة، لبعض الجهات الديّنيّة-المؤسّساتيّة، في سبيل محاولة القضاء على ظاهرة السّيّد الحيدري، بتبرير أنّه يشوّش على العقل الشّيعي، وأنّه يضع “المحور” في حالة حرجة أمام أكثريّة العالم الإسلامي المنتمية إلى المذاهب “السّنّيّة”. وهي للأسف، إن صحّ ما نقرؤه ونسمعه، محاولة غير محمودة لا على مستوى مصلحة خطّ المقاومة، ولا على مستوى مصلحة الجمهوريّة الإسلاميّة، ولا على مستوى مصلحة مستقبل مدرسة أهل البيت (ع) ومستقبل الفكر الإسلامي ككلّ.
إنّ حصار وإسكات منبرٍ كمنبرِ السّيد الحيدري يرقى إلى مقام الخطأ الإستراتيجي الجسيم، وليس فقط مقام الخطأ التّكتيكي، وذلك حتّى في الأخلاق والاجتماع والسّياسة. فعلى سبيل المثال لا الحصر: كيف نقنع عقول شبابنا ومثقّفينا بالتّعايش مع بعض ظواهر الفساد الأخلاقي والإداري، ومع مختلف أشكال الانحراف الحزبي والسّياسي (في مختلف دولنا المعنيّة)، بقصد حفظ أولويّات خطّ المقاومة وضرورات المعركة مع العدو.. ثمّ نريهم أنّنا عاجزون عن تقبّل الأفكار النّقديّة لرجل دين وعلم وفكر متنوّر ومجدّد (وهو طبعا ضمن الخط والمحور، وهدفه إصلاح فكرنا من الدّاخل لا من الخارج)؟
هل يستوعبُ عقلنا مختلف أنواع الفساد الأخلاقي والإداري والسّياسي، للضّرورة وللمصلحة، ولا يتحمّل آراء معلّمٍ وفيلسوفٍ هدفه إصلاح الفكر الإسلامي ككل وإصلاح الفكر الشّيعي الإمامي بشكل خاص؟ هل يصلح السّيّد الحيدري عندما يقوم بنقد مفاهيم المذاهب الأخرى، ويطالب أهلها بالتّجديد والتّطوير، ولا يصلح عندما يطالب بنقد وإصلاح بعض مفاهيم مذهبنا نحن؟ أيّ عقل وأيّ منطق يتقبّلان هذا التّناقض؟ هل نستوعب كل أنواع النّاس، بصالحها وفاسدها، لضرورات المعركة، ولا نستوعب منبراً متنوّراً كمنبر الحيدري هو رأس حرب كل مواجهة مع الجهل والظّلمات الرّوحيّة والفكريّة؟
من هنا، فقناعتي الشّخصيّة هي أنّ هذه المسألة لا يحلّها – إن شاء الله – إلا رجال بالمستوى الرّوحي والفكري والقيادي لسماحة المرشد الأعلى للجمهوريّة الإسلاميّة السّيّد علي الخامنئي، وسماحة السّيّد حسن نصرالله (حفظهما الله). والمتكلّم هنا لا يتوجّه إليهما من “الخارج” وإنّما من “الدّاخل”، وتحت السّقف وضمن السّياق وعن قناعة تامّة.. إن كان السّيد الحيدري ظالماً ـ لا سمح الله ـ فليُعلَن للنّاس أنّه ظَلَمَ في هذه القضيّة أو تلك. وإن كان مظلوماً، وذنبه الوحيد هو استفزاز عقول بعض المتديّنين (وأغلبهم من ذوي النوايا الحسنة ربّما)، فنرجو رجاء الشباب الصّادق المخلص: تسهيل خروج السّيّد الحيدري من هذه الظلمة، التي لا تليق بهذا الدّين الحنيف ولا بمذهب أهل البيت عليهم السّلام ولا بخط مقاومة الاحتلال الإسرائيلي الغاصب، ولا بخط مقارعة الاستكبار المعاصر ككلّ.
قد يزعج هذا الحديث وتزعج هذه المطالبة بعض الجهات التي لا يعجبها أيّ ميل نقديّ أو تجديديّ.. ولكنّني مقتنعٌ بلا أدنى شكّ بأنّ هذه الأمور لا مسايرة فيها ولا تساهل ولا استهتار. إنّ اضطهاد العقل لهو أخطر بآلاف المرّات من اضطهاد جهة سياسيّة هنا أو جهة حزبيّة هناك.. فاضطهاد العقل هو الطّريق الأسهل والأصدق نحو الانهيار الكلّي لمنظومتنا العقائديّة والرّوحيّة والفكريّة والثّقافيّة.
وإن كنّا لا نتجرّأ على التّفكير في مستقبلنا بشفافيّة، فلنقرأ على الأقل تاريخ الآخرين للاعتبار!