أن يزور رئيس دولة الإمارات محمد بن زايد موسكو، هذا هو الخبر بحد ذاته. لم يسبقه إلى مثل هذه الخطوة أي زعيم أو مسؤول عربي، بمن فيهم الرئيس بشار الأسد، منذ إندلاع الحرب الروسية ـ الأوكرانية قبل حوالي الثمانية أشهر، لا بل هو أحد قلة من القادة الأجانب الذين اقدموا على مثل هذه الزيارة (أحدهم رئيس تركيا رجب طيب أردوغان)، في الوقت الذي تسعى فيه الولايات المتحدة وباقي حلفائها الغربيين إلى حصار روسيا اقتصادياً وعزلها ورئيسها فلاديمير بوتين سياسياً، وهذا يعني في ميزان الحسابات الأميركية أن أبو ظبي تخترق العزلة، بعد أن كانت قد شرّعت أبوابها للأوليغارشية الروسية الهاربة من العقوبات الاميركية والغربية، بدليل وجود عشرات (وربما مئات) مليارات الدولارات من الودائع الروسية وجالية روسية تفوق الخمسين ألفاً وآلاف الشركات الروسية، حتى أن صحيفة “لوموند” الفرنسية نقلت عن خبير أجنبي قوله إن أركان الجالية الروسية في دبي يعتبرون هذه المدينة بمثابة “وحدة إدارية روسية”، لكثرة ما تسمع هناك متحدثين باللغة الروسية.
من هنا جاءت الحفاوة البالغة التي اولاها بوتين لضيفه بن زايد.. وأحد مظاهرها تمثل في حرص الرئيس الروسي على أن يُقدم لضيفه الاماراتي معطفه الخاص ليتدثر به من برد سانت بطرسبورغ.
ولم يكن رئيس الإمارات أقل “حميمية” من مضيفه الذي يلتقيه للمرة العاشرة حين خاطبه قائلاً “اشتقت لشوفتك ـ رؤياك ـ صديقي فخامة الرئيس”!
وهذه الزيارة هي الثالثة لبن زايد إلى الخارج منذ توليه رئاسة بلاده، وسبقتها زيارة إلى جدة للقاء الرئيس الأميركي جو بايدن وزيارة ثانية إلى باريس للقاء نظيره الفرنسي إيمانويل ماكرون.
ولعل تطور العلاقات بين الإمارات وروسيا خلال السنوات القليلة الماضية وحده يجيب عن هذه “الحميمية”، حيث اشار بن زايد خلال الزيارة الى ان حجم التبادل التجاري بين البلدين ارتفع الى 5 مليارت دولار سنوياً وان هناك 4 آلاف شركة روسية مسجلة وتعمل في الامارات حالياً وان نصف مليون روسي زاروها خلال العام 2021. ووضعت وزارة الخارجية الإماراتية هذه الزيارة في خانة “تعزيز التعاون المثمر مع الزعماء الإقليميين والدوليين وتطوير الاتصالات مع جميع الأطراف المعنية بالنزاع الأوكراني والمساعدة في البحث عن حلول سياسية فعّالة”.
ودفاعاً عن توقيت الزيارة، قال أنور قرقاش المستشار الدبلوماسي للرئيس الإماراتي، إن زيارة بن زايد إلى موسكو “مُجدوَلة مُسبقاً”، مؤكداً أنها تأتي ضمن خياراتنا السيادية المستقلة”، في أوضح إجابة على أي مساءلة أميركية لاحقة.. وحتمية!
وأوحى الاعلام الاماراتي بأن بن زايد يسعى إلى وساطة بين موسكو وكييف، وذلك إستناداً إلى ما ورد في بيان وزارة خارجية ابوظبي بأن المحادثات الثنائية هدفها “منع التصعيد العسكري والخسائر البشرية اللاحقة وتحقيق تسوية سياسية (للأزمة الأوكرانية) من أجل إحلال السلام والأمن في العالم”.
أصبحنا نرى كل دولة خليجية تتعامل في علاقاتها مع الدول الاخرى وفق منظومة مصالحها أولاً؛ لكن هذا لا يتناقض مع فرضية أن خطوة مثل زيارة بن زايد إلى موسكو لا يمكن أن تتم إلا بالتفاهم مع الرياض التي تتشارك وابو ظبي مشاعر “عدم الود” لبايدن وحزبه الديموقرطي، وهذا لا يتناقض أيضاً مع التسريبات القائلة بهوة تزداد إتساعا بين قادة هاتين الدولتين الخليجيتين
واذا كانت العلاقات الشخصية “الدافئة” بين بوتين وبن زايد، والمصلحة الاقتصادية الاماراتية في الاستفادة من العقوبات الاقتصادية الغربية على روسيا بفتح أراضيها لتكون ممراً للواردات الروسية من الغرب (على الطريقة الإيرانية منذ عقود من الزمن)، تُبرر زيارة رئيس الامارات إلى روسيا، فإنها حتماً ستُثير غضباً اميركياً وغربياً، وهذه النقطة محسوبة في أبو ظبي إلى حد قول أحد الدبلوماسيين صراحة إن هذه الزيارة “ليست حباً بعلي بوتين بقدر ما هي كراهية بعمرو بايدن”!
وبرغم ما تخفيه الدبلوماسية من حقائق وأسرار، لا شك ان هناك الكثير من مشاعر “عدم الود” اذا لم نقل الكراهية التي يحملها محمد بن زايد لجو بايدن، وهذه المشاعر هي التي جعلت الامارات – ومعها السعودية – تدفع تحالف “أوبك بلاس” الى اصدار قرار بتخفيض حجم الإنتاج النفطي للتحالف 2 مليون برميل يومياً، وهو القرار الذي أثار غضباً اميركياً عارماً ضد السعودية وولي عهدها، وهذا الأمر جعل بايدن يتوعد بن سلمان بإعادة النظر بعلاقات بلاده مع السعودية، ولا سيما بموضوع صفقات السلاح.
والهدف الاماراتي الذي يلتقي مع الهدف السعودي – برغم نفي المسؤولين السعوديين ـ هو إضعاف موقف بايدن وإدارته وحزبه الديموقراطي في انتخابات الكونغرس النصفية في الثامن من الشهر المقبل، فضلاً عن أن ابو ظبي تريد أيضاً الرد على الاداراة الاميركية بسبب تقديمها “رجل الامارات الأول” في واشنطن جو باراك إلى المحاكمة (كما كتبنا في المقالة السابقة).
والسؤال الذي يطرح نفسه هل أن رئيس الامارات قادرٌ على “تحدي” الادارة الاميركية وقادرٌ على عدائها أم أن وراء الأكمة ما وراءها؟ وهل يعقل أن رئيس دولة خليجية صغيرة يمكن أن يذهب إلى حد الرهان على تغيير موازين قوى داخلية في دولة عظمى كالولايات المتحدة.. وهل بلغ الضعف بأميركا حد أن تصبح بلا أنياب وبلا قدرة على لجم حلفاء مثل محمد بن زايد؟ وهل يكفي رئيس دولة الإمارات أن يستند في تحديه لواشنطن على الحماية التي يُوفرها له اللوبي الصهيوني في العاصمة الاميركية، اي حماية اسرائيل التي يقيم معها علاقات تطبيع “غرامية” لم تكن تحلم بها في يوم من الأيام؟
ومثلما تتبدى ملامح حالة تفلت من الولايات المتحدة على الصعيد الدولي، فإن دول الخليج العربي تعتمد في سياستها الخارجية مبدأ برغماتياً هو “كل يبحث عن مصالحه”؛ فلا وجود لمرجعية كبرى لدول مجلس التعاون الخليجي مثلما كان الامر قبل سنوات حين كانت كل هذه الدول تتعامل مع السعودية وفق مفهوم “الشقيقة الكبرى”، لذا أصبحنا نرى كل دولة خليجية تتعامل في علاقاتها مع الدول الاخرى وفق منظومة مصالحها أولاً؛ لكن هذا لا يتناقض مع فرضية أن خطوة مثل زيارة بن زايد إلى موسكو لا يمكن أن تتم إلا بالتفاهم مع الرياض التي تتشارك وابو ظبي مشاعر “عدم الود” للرئيس جو بايدن وحزبه الديموقرطي، وهذا لا يتناقض أيضاً مع التسريبات القائلة بهوة تزداد إتساعا بين قادة هاتين الدولتين الخليجيتين.