لنتوقف قليلاً عند بعض المقتطفات المهمة للسيد محمد باقر الصدر في “إقتصادنا” والتي تبيّن، إيجازاً، ما يتم طرحه في هذه الورقة التي تعتبر بالتالي، صراحة، أننا أمام عمل ثوري، معرفياً ومنهجياً، لم يتم استثماره بالطريقة الصحيحة والكافية من قبل الباحثين الاسلاميين أو المهتمين بالمواضيع الاسلامية[1]:
“مع أن العلم والمذهب مختلفان في طريقة البحث وأهدافه، لا في موضوعه ومجالاته، فالبحث المذهبي يظل مذهبيا ومحافظا على طابعه ما دام يلتزم طريقته وأهدافه الخاصة، ولو تناول الإنتاج نفسه، كما أنّ البحث العلمي لا يفقد طبيعته العلمية إذا تكلم عن التوزيع ودرسه بالطريقة والأهداف التي تتناسب مع العلم”. (مرجع سابق، ص. ٣٥٩).
من البداية، يبدو السيد الصدر في موقع المشدد على الأمانة العلمية في الفصل الراديكالي بين المذهب (الأيديولوجي) من جهة، المعني خصوصاً بمسائل العدل والتوزيع والأحكام القيمية، وبين العلم بما هو علم الاقتصاد (أو الاجتماع أو غيره بطبيعة الحال) من جهة ثانية. وهذا ما يؤكد لنا عمق التفكير الأبستمولوجي الساند والسابق لعمل “اقتصادنا”.
على أنه، أي الصدر، يشدد على فكرة وجود بُعد مفاهيمي خلف أقوال وأحكام الفقهاء المتنوعة والمتشعبة والمتفرقة، عبر المذاهب والعصور، وهي أطروحة أطروحات “اقتصادنا” بخلاف ما توقف عنده الأكثرون:
“نعرف من ذلك كله: ان وظيفة المذهب الاقتصادي هي وضع حلول لمشاكل الحياة الاقتصادية، ترتبط بفكرته ومثله في العدالة، وإذا أضفنا إلى هذه الحقيقة: ان تعبيري (الحلال والحرام) في الإسلام تجسيدان للقيم والمثل التي يؤمن بها الإسلام، فمن الطبيعي ان ننتهي من ذلك الى اليقين بوجود اقتصاد مذهبي إسلامي”. (مصدر سابق، ص. ٣٦٣).
نكاد نظن من خلال هذه الكلمات أننا نقرأ باحثاً فيبرياً بامتياز (راجع: فيبر، ١٩٦٥، مصدر مذكور، حول “العلاقة مع القيم”). إن هذه الجملة الأخيرة عند الشهيد الصدر تختصر بشكل واضح طريقة الطوابق المذكورة مع فلسفتها المؤسِسة. وهو يضيف:
“ونحن حين نؤكد على ضرورة التمييز بين الكيان النظري للمذهب الاقتصادي، وبين القانون المدني، لا نحاول بذلك قطع الصلة بينهما، بل نؤكد في نفس الوقت على العلاقة المتينة التي تربط المذهب بالقانون، بوصفهما جزئين من بناء نظري كامل للمجتمع.”، (ص. ٣٦٤). ومن هنا نشرف على جوهر طريقة الطوابق: “وكون المذهب قاعدة نظرية للقانون لا ينفي اعتبار المذهب بدوره بناء علويا لقاعدة يرتكز عليها، فان البناء النظري الكامل للمجتمع يقوم على أساس نظرة عامة، ويضم طوابق متعددة يرتكز بعضها على بعض، ويعتبر كل طابق متقدم أساسا وقاعدة للطابق العلوي المشاد عليه. فالمذهب والقانون طابقان من البناء النظري، والقانون هو الطابق العلوي منهما الذي يتكيف وفقا للمذهب، ويتحدد في ضوء النظريات والمفاهيم الأساسية التي يعبر عنها ذلك المذهب”. (ص. ٣٦٥).
نحن، بالفعل، إذن، ضمن طريقة تأويلية-فهمية بامتياز بالمعنى العلمي المعاصر، هدفها هو استقراء (أو بناء أو إعادة بناء) المفاهيم من خلال دراسة أحكام ونصوص فقهية (ذات طابع ديني أيضا). غير أن الصدر يعتقد، أنطولوجياً، أن الباحث الاسلامي (وهو باحث غير محايد عقائدياً كما يمكن الاستنتاج من خلال خطاب الصدر) يستكشف مفاهيم هي موجودة وقائمة أصلاً، بعكس الباحث “الرأسمالي” و”الاشتراكي” الذي يقوم عملياً بتكوين هذه المفاهيم (ص. ٣٦٨). مع احترام تموضع السيد الصدر، الاسلامي طبعا، فإننا نعتبر أن الباحث المحايد، هو في صدد بناء هذه المفاهيم، من خلال بناء النماذج-المثالية في كل موضوع ومجال كما سنرى. ومن الممكن أن نتبنى تموضعاً قريباً من التموضع الاسلامي هذا من خلال الحديث عن “محاولة إعادة بناء” هذه المفاهيم، لكن من الضروري برأينا أن نبقى ضمن عملية “بناء”، وذلك للحفاظ على الحياد الأكسيولوجي والطابع العلمي (راجع الفقرات التالية).
غير أن المقاطع الأكثر بلاغة فيما يخص بحثنا هي بالطبع المتعلقة بمنطقة الفراغ ونقاش الذاتيّة (ص. ٣٧٨ وما يلي):
“وحيث جئنا على ذكر منطقة الفراغ في التشريع الاقتصادي، يجب أن نعطي هذا الفراغ أهمية كبيرة خلال عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي، لأنه يمثل جانبا من المذهب الاقتصادي في الإسلام (…). ونحن حين نقول (منطقة فراغ)، فإننا نعني ذلك بالنسبة إلى الشريعة الإسلامية ونصوصها التشريعية، لا بالنسبة إلى الواقع التطبيقي للإسلام، الذي عاشته الأمة في عهد النبوة.” ذلك أن النبي الأكرم (ص) هو الذي ملأ الفراغ في هذا العهد بصفته ولي الأمر (أو الإمام والمجتهد معا) لا النبي والرسول (وهي فكرة شديدة الجرأة صراحة): “غير انه (ص) حين قام بعملية ملء هذا الفراغ لم يملأه بوصفه نبيا مبلغا للشريعة الإلهية، الثابتة في كل مكان وزمان (…) وانما ملأه بوصفه ولي الأمر، المكلف من قبل الشريعة بملء منطقة الفراغ وفقا للظروف”. (ص. ٣٧٨).
هل يمكن الادعاء بعد مقطع كهذا أننا لسنا أمام عمل “خطير” بالمعنى العلمي، وخصوصا بالمعنى الأبستمولوجي-الميتودولوجي (أي المعرفي-المنهجي)؟
بالطبع، الجواب عندنا هو بالنفي. وكثيرة هي المقتطفات التي يمكن استخراجها من كتاب “اقتصادنا” تأييداً لطرحنا في هذه الورقة بطبيعة الحال. على أن المقاطع الأهم بلا أدنى شك هي المتعلقة بالنتائج المترتبة على فرضية منطقة الفراغ هذه:
“إن الصورة التي نكوّنها عن المذهب الاقتصادي، لما كانت متوقفة على الأحكام والمفاهيم، فهي انعكاس لاجتهاد معين، لان تلك الاحكام والمفاهيم التي تتوقف عليها الصورة [لاحظ تعبير “الصورة” المرتبط حميميا بمفهوم “النموذج-المثالي” الفيبيري كما سيتم إجلاؤه] نتيجة لاجتهاد خاص في فهم النصوص [لاحظ تعبير “فهم” الجوهري في هذا الإطار]، وطريقة تنسيقها والجمع بينها. وما دامت الصورة التي نكونها عن المذهب الاقتصادي اجتهادية، فليس من الحتم أن تكون هي الصورة الواقعية، لأن الخطأ في الاجتهاد ممكن”.
نبدأ هنا بالدخول، أكثر فأكثر، في منطقة لا شك بقربها الحميم من منطقة بحث النموذج-المثالي عند ماكس فيبر. “ولأجل ذلك كان من الممكن لمفكرين إسلاميين مختلفين ان يقدموا صورا مختلفة للمذهب الاقتصادي في الإسلام، تبعا لاختلاف اجتهاداتهم، وتعتبر كل هذه الصور صوراً إسلامية للمذهب الاقتصادي (…). وهكذا تكون الصورة إسلامية ما دامت نتيجة لاجتهاد جائز شرعاً، بقطع النظر عن مدى انطباقها على واقع المذهب الاقتصادي في الإسلام”. (ص. ٣٨١). نصبح إذن، عند هذا الحد، رسميا ويقينيا، في عالم النماذج-المثالية الفيبرية، أي في عالم نظريته عن بناء المفاهيم. وإنها لنقطة مركزية في مجمل أعمال ماكس فيبر، وإنها في قلب ما نعتقد أن الصدر (١٩٨٧) قد قدمه في هذا المجال. وهي بطبيعة الحال في قلب الطرح الذي نقدمه في هذه الورقة ولمستقبل الأبحاث الاسلامية أو ذات الطابع الاسلامي.
ولنختصر الفكرة الجوهرية في هذا السياق بالقول: إن التقريب بين طريقة الطبقات (أو الطوابق) هذه، وبين فلسفة النموذج-المثالي هو أمر بديهي بالنسبة إلى كل باحث منصف وأمين، وذلك لأسباب أساسية ثلاثة:
(١) لأننا بصدد عملية بناء مفاهيم وبامتياز (كالمخاطرة الجائزة والعمل المنفق والملكية إلخ.).
(٢) للحفاظ على الطابع العلمي لهذا الجهد، ضمن ما سبق عن التموضع الأبستمولوجي.
(٣) لأننا ضمن عملية فهمية-تأويلية بامتياز أيضا، وبلا شك، معطياتها هي خطاب علماء شريعة دينية، وهدفها هو محاولة فهم تفكيرهم، في سبيل بناء مفاهيم ونظريات على أساسها.
نحن نعتبر إن استعمال هذه المدرسة هو ذو أهمية خطيرة في هذا النوع من الأبحاث كما في كل الأبحاث حول المواضيع الاسلامية من وجهة نظر علمية (نذكر هنا بأهم المراجع: فيبر، ١٩٦٥؛ فرويند، ١٩٦٦؛ آرون، ١٩٦٩؛ الصدر، ١٩٨٧)[2]. ونعتبر أيضا أن اسهام “اقتصادنا” الأهم هو في فتح الباب أمام هذا التقريب ذي الخطورة المنهجية القصوى، وعلى الأرجح، ذي الخطورة التاريخية في سياق تطوّر العلوم الاسلامية بشكل عام.
التقريب بين منهجين
في ختام هذه الورقة، نصل إلى القناعة، المؤيدة والراسخة عندنا الآن، بأنّ عمل “اقتصادنا” لا يمكن أن يُعتبر عابراً بالمعنى العلمي، لا سيّما بعد ما ناقشناه عن اسهاماته الخطيرة بالنسبة إلى مستقبل البحث الاسلامي، وبالأخص من الزاويتين المعرفية (أو الأبستمولوجية) والمنهجية (أو الميتودولوجية). إنّ هذه القناعة، كما شرحنا، تنطلق من ضرورة الحفاظ على الأمانة العلميّة، كما من ضرورة الحفاظ على الطبيعة التطورية التراكمية للإسهام العلمي. إن اطروحتنا المركزية تتمحور إذن حول الاسهام المعرفي والمنهجي لعمل “اقتصادنا”، الذي تغفله أكثر الأبحاث حول الاقتصاد الإسلامي (وحول المواضيع الأخرى أيضا، بطبيعة الحال)، والذي قادنا، كما رأينا، الى التفكير بضرورة التقريب بينه وبين اسهام مدرسة ماكس فيبر في فلسفة المعرفة المعنية بالعلوم الاجتماعية.
أما الأسباب التي تدعونا الى هكذا طرح، فأختصرها بالآتي:
(١) المعطيات ذات الطابع المقدس أو القريبة من المقدس؛
(٢) منهجية الطبقات التي تحمل في طياتها عنصر الفَهم والتأويل بالمعنى الفيبري؛
(٣) مفهوم منطقة الفراغ الذي يقود حُكما إلى عالم التأويل المفاهيمي وبالتالي إلى فلسفة بناء المفاهيم من خلال بناء “النماذج-المثالية”[3]).
وأما نقطة الانطلاق لهذا الطرح المجدد فهي بلا أدنى شك كما أسلفنا: فلسفة “النموذج-المثالي” (L’idéal-type ou le type idéal) التي تختصر أغلب التفكير الفيبري حول موضوعنا، والتي نعتبر أن الصدر في “اقتصادنا” قد أصاباها دون ذكر مباشر لها (راجع الفصل المنهجي في: الصدر، ١٩٨٧، مرجع سابق، ص.ص. ٣٥٥-٤٠٦).
وأما أهميته فهي، كما رأينا، أنه يتيح قيام ثورة معرفية-منهجية حقيقية في عالم البحث الاسلامي، حيث يسمح من جهة بتموضع الباحث المحايد تجاه معطيات التراث الاسلامي، ومن جهة أخرى، يسمح بتأطير النقاش فيما بين الطروحات المفاهمية والنظرية-المذهبية الاسلامية. إذ تصبح هذه الأخيرة “نماذج-مثالية” يتم بناؤها انطلاقا من عملية استقرائية-فَهميّة لمعطيات التراث الاسلامي، كما يمكن مقابلتها فيما بينها، ويمكن مقابلتها مع الواقع، دون الوقوع في الاتهامات الأيديولوجية والأحكام القيمية. وطبعا، يُترك القرار النهائي في تبنّي هذا النموذج-المثالي أو ذاك، لولي الأمر، أو لمن سميناه بالإمام-المجتهد، في كل زمان ومكان. فيصبح بين أيدينا:
(١) من جهة، جهد علمي محايد يبني المفاهيم ويقارنها فيما بينها، وبينها وبين الواقع، دون حكم قيَمي؛
(٢) ومن جهة أخرى، إمام-مجتهد هو يتولّى مسألة الحُكم القيَمي عمليا، والترجيح النهائي بين النماذج-المثالية المطروحة، مستعينا بالجهد العلمي ذاك، لا سيما في ضوء نظرية المصلحة الاسلامية (خصوصا في الاسلام السني[4]).
إنّ هذا الطرح المعرفي-المنهجي الذي نقدّمه، انطلاقا من التلاقي غير المعلن بين الفصل المنهجي في “اقتصادنا” (الصدر، ١٩٨٧، مرجع سابق، ص.ص. ٣٥٥-٤٠٦) وبين جوانب أساسية من أعمال ماكس فيبر (ومترجميه واتباع مدرسته كجوليان فرويند وريموند آرون؛ مراجع سابقة)، يقدم حلولا ثمينة لكثير من المشاكل المتعلقة بالبحث الاسلامي لا سيما منه المذهبي. وهو قد يساهم اسهاما ملحوظا في تطور الفكر الاسلامي بشكل عام لا سيما فيما يخص العلوم الانسانية والاجتماعية (وأمور الحياة الانسانية بشكل عام بل وأبعد من ذلك ربما…). فهو مثلا يحل نهائيا مشكلة تعاطي الباحث (خصوصا: الحيادي دينيا) مع النصوص ذات الطابع الديني بهدف فهمها فهماً علميا (راجع ما يلي عن المفاهيم الأبستمولوجية الأساسية عند فيبر). وهو يقدم، أيضا، اطاراً منهجيا محكما لبناء المفاهيم، انطلاقا من فهم هذه النصوص، وهو مزيج من طريقة الطبقات الصدرية وطريقة النموذج-المثالي الفيبري.
وهو يسمح لنا، كباحثين، بأن نناقش أبنيتنا النظرية والمفاهمية حول الفكر الاسلامي، في هذا الموضوع أو ذاك، دون أن نتهم بعضنا بعضا بالخروج عما هو مقبول دينيا، أو بالخروج عن الاسلام ببساطة. أي: يسمح لنا بأن نناقش هذه النظريات والمفاهيم دون الوقوع في الحكم القيمي. أخيرا وليس آخرا: هو يتيح، للفكر الاسلامي ولأولياء أمره، بأن يستفيدوا من العلم، من خلال المقارنة الموضوعية بين النماذج-المثالية المطروحة، وبينها وبين الواقع.
الخاتمة
نستهل هذه الخاتمة بالتذكير ببعض المفاهيم الأبستمولوجية الأساسية عند ماكس فيبر، آملين أن يكون طرحنا واضح المعالم إلى أقصى حد ضمن حدود هذه الورقة. وهي مفاهيم متعلقة بعالم القيم بطبيعة الحال، مع تأطيرها لفلسفة النموذج-المثالي بشكل عام، ومع تأطيرها البديهي، أيضا، لما نقدّمه من طرح، إذن، في هذه الورقة.
إن المفهومين الفيبريين، الأساسيين هنا، ما هما إلا: الحياد الأكسيولوجي (La neutralité axiologique) والعلاقة مع القيم (Le rapport aux valeurs) كما يمكن ترجمتهما عن ترجمتي فرويند وآرون (نحيل، للتفاصيل، إلى مجمل المراجع السابقة عن فيبر وفرويند وآرون، بالإضافة إلى العالم الاجتماعي-السياسي الفرنسي فيليب راينو[5]). يوجب المفهوم الأول على الباحث أن يبقى، في كل مراحل البحث، محافظا على الحياد من زاوية المعتقدات والايمانيات والمسلمات المذهبية. وعليه أن يثبت ذلك في كل المواضع، وأن يكون قادرا على الدفاع عن حياديته في أي وقت. في حين يذكره الثاني أنه في موقع “التعامل العلمي مع القِيم”، ناهيا إياه عن الدخول في مصيدة “الحُكم القيمي” (Jugement de valeur). فتغدو “القيم” في هذه الفلسفة، عمليا، معطيات “خارجية” يتوجب دراستها دون الحكم عليها من وجهة نظر شخصية و/أو ايمانية.
أما أداة “النموذج-المثالي” (أو “النمط-المثالي”) فهي تشكّل فلسفة بحد ذاتها في سبيل بناء المفاهيم في العلوم الانسانية والاجتماعية، بل وأبعد من ذلك كما أسلفنا. وإننا نقترح، إذن، تطبيق هذه الأداة، مع تطويرها حسب طبيعة البحث وموضوعه، على نصوص الفقه الاسلامي (ونصوص التراث الاسلامي بشكل أعم[6]). فقد فهم فيبر أن بناء المفاهيم في العلوم بشكل عام، وفي العلوم الانسانية والاجتماعية بشكل خاص، لا يمكن إلا أن يمر من خلال بناء نماذج “مُثُلية” (بمعنى Idéél أي من عالم الأفكار، لا كما ترجمها الأكثرون بمثالية أي Idéal) وهي أبنية (أو تركيبات) ذهنية حول ظاهرة معينة، لا وجود لها بشكل عملي على أرض الواقع، لكنها تختصر السمات الأساسية للظاهرة التي يُراد فهمها (مثلا: “الرأسمالية” كما يعرّفها أي كتاب اقتصادي هي مجرد نموذج-مُثلي لظاهرة معينة، وهذا النموذج-المثلي، رغم عدم وجوده الحقيقي في الواقع، يساعد على اختصار المعالم الجوهرية لهذه الظاهرة بطريقة “مُثلية” أي ذهنية).
باختصار، تعتبر هذه الفلسفة أن العقل البشري لا يمكن أن يفهم الواقع المعقّد (لا سيما منه الانساني والاجتماعي) إلا من خلال بناء هكذا هياكل ذهنية تختصر معالمه-سماته الأساسية. إن النموذج-المثالي عند ماكس فيبر، وكما تفهمه هذه الورقة، هو أداة قياس مفهومية (قياس بمعنى Mesure conceptuelle) بامتياز. ولا يستطيع الباحث أن يدعي:
(١) فهم موضوع أو ظاهرة ما من دون بناء نموذج-مثالي عنه أو عنها؛
(٢) ولا أن يبني علاقات سببية (اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو تاريخية إلخ.) إلا بعد هذا البناء الذهني المنطلق من دراسة المعطيات. إن منهجية النموذج-المثالي تسمح بالتعاطي مع التركيبات المفاهمية والنظرية-المذهبية هذه، خارج إطار الحُكم القيَمي، وتتعامل معها على أنها، ببساطة، أداة للبحث العلمي لا أكثر. وبالتالي، يصبح الباحث المهتم بالمواضيع الاسلامية عموما، قادرا على بناء هذه المفاهيم والنظريات ودراستها، ثم وضعها تحت التجربة الأمبريقية، مع تجنب مخاطر التموضع الأبستمولوجي. وهذا ما يفتح بالتالي الباب أمام تقريب جدي جدا بين العلوم التجريبية من جهة، والمواضيع الدينية من جهة أخرى.
مع ترك تفاصيل هذه التعريفات إلى المراجع المذكورة وإلى أبحاثنا الأخرى (لا سيما: أبو حمدان، ٢٠١٣، مصدر مذكور)، نقدّم طرح هذا التقريب بين التفكيرين الأبستمولوجي-الميتودولوجي الصدري والفيبري بشكل عام، وبين طريقة الطبقات (أو الطوابق) الصدرية وطريقة النموذج-المثالي الفيبري بشكل خاص، نقدّمها إلى مجمل الباحثين في العلوم الانسانية والاجتماعية والاسلامية، على أمل أن تفتح المجال أمام نقاش علمي وحضاري، يمهّد لتطوّر أسرع وأكثر صحة لكثير من مجالات البحث الاسلامي. ونحن نعتبر أنّ تموضع الباحث الأنسب، كما اعتمدناه في أبو حمدان (٢٠١٣)، لا سيما في البحث الأكاديمي حول الاقتصاد والمالية والاجتماع والسياسة من منظار اسلامي، وبما يتوافق إلى أبعد حد مع تموضع الصدر (١٩٨٧): هو “التموضع ما-بعد-الوضعي المُطوَّر” Positionnement post-positiviste aménagé، أي مطوَّر بما يتناسب مع طبيعة المعطيات من جهة، ومع الاحتياطات الأبستمولوجية الفيبرية المذكورة أعلاه من جهة أخرى[7].
(*) الجزء الأول: “إقتصادنا” للشهيد الصدر.. مقاربة ثورية أم كلاسيكية؟
(**) ينشر بالتزامن مع مجلة “الإجتهاد والتجديد” البحثية، العددان 59 و60، السنة الخامسة عشرة.
المراجع والمصادر:
– أبو حمدان، مالك، ٢٠١٣، [المشتقات المالية، ومخاطر السوق، والغرر: البحث عن بديل اسلامي]، أطروحة دكتوراه تم الدفاع عنها في ١٦/٠٩/٢٠١٣ في جامعة باريس الثانية (بانثيون أسّاس)، تحت إشراف البروفيسور جيرار بيكرمان، باريس : مكتبة جامعة باريس (يمكن الإطلاع عليها على الإنترنت: Theses.fr؛ وهي قد نالت رتبة السماح بالنشر الأكاديمي اعترافا بإسهامها العلمي، وقد نالت أيضا جائزة أفضل بحث علمي للجامعة في مجال الإدارة عام ٢٠١٥) (بالفرنسية)
Abou Hamdan, Malek, 2013, Produits Dérivés, Risques de Marché et “Gharar”: Recherche d’une Alternative Islamique, Université Paris II Panthéon-Assas (Thèse)
-آرون، رايموند، ١٩٦٥، [مراحل تطور الفكر الاجتماعي]، باريس : غاليمارد Gallimard (بالفرنسية)
[Les Etapes de la Pensée Sociologique]
– بيريه، ف.، سيفيل، م.، ٢٠٠٣، [الأسس الأبستيمولوجية للبحث]، في تييتار، ر.أ. ومن معها، [طرق البحث في علم الإدارة]، باريس : دينو Dunod (بالفرنسية)
[Fondements Epistémologiques de la Recherche]
-حرك، أبو المجد، كمال، يوسف، د.ت.، الاقتصاد الاسلامي بين فقه الشيعة وفقه أهل السنة، دار الصحوة
-حسان، ح. حامد، ١٩٩٥، [فقه المصلحة وتطبيقاته المعاصرة]، سلسلة محاضرات لعلماء بارزين، رقم ٧، جدة : IRTI (بالفرنسية)
[Jurisprudence de la Maslaha et ses applications contemporaines]
– راينو، فيليب، ٢٠٠٩، ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث، ترجمة وتقديم: محمد جديدي، منشورات الاختلاف، مشروع كلمة للترجمة
-سويدبرغ، ريتشارد، ٢٠١٨، [كيف نستعمل النموذج-المثالي لماكس فيبر في التحليل الاجتماعي؟]، مجلة التحليل الاجتماعي، مج. ١٨، عدد ٣، ص.ص. ١٨١- ١٩٦ (بالإنكليزية)
-الصدر، م. ب.، ١٩٨٧، “اقتصادنا”، الطبعة السادسة، بيروت : دار التعارف
-فرويند، جوليان، ١٩٦٦، [العلم الاجتماعي عند ماكس فيبر]، باريس : المطابع الجامعية الفرنسية PUF (بالفرنسية)
[La Sociologie de Max Weber]
-فريوند، جوليان، ١٩٩٠، [دراسات حول ماكس فيبر]، جينيف : مكتبة دروز Droz (بالفرنسية)
[Etudes sur Max Weber]
-فيبر، ماكس، [١٩٢٢] ١٩٦٥، [كتابات حول نظرية العلم]، ترجمات جوليان فرويند، باريس : بلون Plon (بالفرنسية)
[Essais sur la Théorie de la Science]
-كمالي، م. ح.، ١٩٩٨، [هل تجاهلنا نظرية الشريعة حول المصلحة؟]، دراسات إسلامية، مج. ٢٧، رقم ٤، ص.ص. ٢٨٧-٣٠٣
[Have we neglected the Shariah Law doctrine of Maslahah?]
-كوران، ت.، ١٩٩٥، [الاقتصاد الاسلامي والاقتصاد الفرعي الاسلامي]، مجلة المناظير الاقتصادية، مج. ٩، رقم ٤، ص.ص. ١٥٥-١٧٣ (بالإنكليزية)
[Islamic Economics and the Islamic Subeconomy]
-كوران، ت.، ١٩٩٧، [تكوين الاقتصاد الإسلامي : فصل ضمن سياسة الهوية المسلمة]، البحوث الاجتماعية، مج. ٦٤، رقم ٢، ص. ٣٠١-٣٣٨ (بالإنكليزية)
[The Genesis of Islamic Economics : A Chapter in the Politics of Muslim Identity]
-كوران، ت.، ٢٠٠٦، [الإسلام وماموون : المآزق الاقتصادية للإسلاموية]، برنستون : مطابع جامعة برنستن (بالإنكليزية)
[Islam and Mammon : the Economic Predicaments of Islamism]
-المصري، رفيق يونس، ٢٠٠١، الخطر والتأمين، الطبعة الأولى، دمشق : دار القلم
-ويلسون، رودنييه، ١٩٩٨، [مساهمة محمد باقر الصدر في الفكر الاقتصادي الاسلامي المعاصر]، مجلة الدراسات الإسلامية، مج. ٩، رقم ١، ص.ص. ٤٦-٥٩ (١٤ صفحة) (بالإنكليزية)
[The Contribution of Muhammad Baqir Al-Sadr to Contemporary Islamic Economic Thought]
مواقع إلكترونية:
- قاموس المعاني: https://www.almaany.com
- مقال الدكتور حسن سلمان (٢٠١٦)، دراسة نقدية لمنظومة الاقتصاد الإسلامي: محمد باقر الصدر نموذجا:
http://ijtihadnet.net/دراسة–نقدية–لمنظومة–الاقتصاد–الإسلام/
[1] نحيل القارئ والباحث: بشكل خاص، إلى الفصل-المقطع المهم والخطير في كتاب “اقتصادنا”، وهو المقطع المنهجي الذي لا زلنا نتعجب من مرور كثير من الباحثين عليه مرور الكرام: الصدر، ١٩٨٧، مصدر مذكور، “عملية اكتشاف المذهب الاقتصادي”، ص.ص. ٣٥٥ وما يليها. هو، حقيقية، مقطع ذو أهمية قصوى وخطيرة على المستوى المنهجي بل والفلسفي-المعرفي بلا أدنى شك كما سنري طوال هذه الورقة وقدر المستطاع.
[2] راجع المصادر المذكورة في الفقرة التالية أيضا، خصوصا: راينو (٢٠٠٩) وسويدبورغ (٢٠١٨).
[3] إنّ أهم المراجع حول هذا الموضوع، خصوصا في الثقافة الفرنسية، قد قدّمت بلا شك من قبل: جوليان فرويند وريموند آرون. بالإضافة إلى المراجع المذكورة لفيبر وفرويند وآرون:
فريوند، جوليان، ١٩٩٠، [دراسات حول ماكس فيبر]، جينيف : مكتبة دروز Droz (بالفرنسية)
[Etudes sur Max Weber]
سويدبرغ، ريتشارد، ٢٠١٨، [كيف نستعمل النموذج-المثالي لماكس فيبر في التحليل الاجتماعي؟]، مجلة التحليل الاجتماعي، مج. ١٨، عدد ٣، ص.ص. ١٨١- ١٩٦ (بالإنكليزية).
[4] راجع الأدبيات حول نظرية المصلحة، مثلا (حسان، ١٩٩٥؛ كمالي، ١٩٩٨):
HASSAN H. HAMID, 1995, Jurisprudence de la Maslaha et ses applications contemporaines, Série de Conférences d’Eminents Erudits, No. 7, Djeddah : IRTI
KAMALI M.H., 1998, Have we neglected the Shariah Law doctrine of Maslahah ?, Islamic Studies, Vol. 27, No. 4, p. 287-303.
[5] راينو، فيليب، ٢٠٠٩، ماكس فيبر ومفارقات العقل الحديث، ترجمة وتقديم: محمد جديدي، منشورات الاختلاف، مشروع كلمة للترجمة.
[6] مثلا: في الفلسفة والعرفان والتاريخ والاجتماع (إلخ.).
[7] راجع: بيريه وسيفيل (٢٠٠٣، مرجع سابق).