يشهد الاقتصاد السورى اليوم أزمة جديدة بسبب تراكم آثار تدمير آليّات الإنتاج والتبادل فى الصراع وبسبب «العقوبات»، أى الإجراءات الأحادية الجانب المفروضة من الولايات المتحدة الأمريكية وأوروبا. ولكنّ تحدث أيضا صدمة الآن خاصّةً بسبب عدم إمكانيّة الاقتصاد السورى على التأقلم مع السياسات والإجراءات التى فرضتها السلطات القائمة فى دمشق من أجل كبح انخفاض أسعار صرف العملة السوريّة وبغية زيادة إيرادات الدولة. وما يعنى خنقا للاقتصاد وتعديات لا نهاية لها على الفعاليّات الاقتصاديّة. وحده الاقتصاد ذو الطبيعة الإجرامية (الكبتاغون وغيره) ما زال يعمل بحماية «أمراء الحرب»، الذين لا قدرة، أو لا رغبة فى كبحهم.
ويشهد الاقتصاد اللبنانى أيضا أزمةً جديدة، عبر وصوله إلى حدود إمكانيّات التأقلم مع «اقتصاد الكاش». إنّ المصارف لا تعمل سوى لصرف مستحقات المودعين بالتنقيط وبخسارات كبيرة لهم. وتستمرّ السياسات العامّة بالتخبّط دون إصلاحات بنيويّة ودون انتخاب رئيس للدولة ودون حكومة فعليّة… وخاصّة دون أفق مفتوح سوى السجالات العقيمة فى البرلمان وعبر وسائل الإعلام.
فى سوريا كما فى لبنان تضغط تداعيات الأزمتين على الناس وعلى معيشتهم بشكلٍ لا سابق له حتّى مقارنةً مع أقسى أيّام الحرب. وبالطبع، الأمر فى سوريا أشدّ قسوةً من لبنان.
***
إنّ قلّةً من المسئولين والخبراء الإقتصاديين اللبنانيين يشهدون بأنّ بداية تقلّص الموجودات بالعملة الصعبة فى لبنان قد تزامن مع بداية الصراع فى سوريا عام 2011. هذا بعد أن كانت الموجودات قد تضاعفت بشكلٍ كبير من جرّاء الأزمة العالميّة الشهيرة عام 2008. وهذا ما أخّر الأزمة اللبنانيّة المحتومة من جرّاء السياسات النقديّة المعتمدة عقدا من الزمن. سياسات امتدحها صندوق النقد والبنك الدوليان فى حينه، إلاّ أنّ تقريرا حديثا للبنك الدولى وصفها ــ ولكن بعد وقوع الأزمة ــ بأنّها كانت تُشكِّل «منظومة بونزي ـ Ponzi»، أى على شاكلة المنظومة الاحتياليّة التى سميت باسم الإيطالى شارل بونزي الذى كان يدفع أرباحا كبيرة وهميّة لـ«مستثمرينه» فى الولايات المتحدة في أوائل القرن العشرين، وذلك من أموال المودِعين الجدد. وهكذا حتّى إفلاس المنظومة وتبخّر الودائع و«الاستثمارات».
هؤلاء المسئولون والخبراء لا يتحدّثون عن سبب تزامن التقلّص اللبنانى مع بداية تفجّر الصراع السورى، حتّى قبل وصول الأعداد الكبيرة من اللاجئين السوريين إلى لبنان. فى ذلك الوقت، كان سعر صرف العملة السوريّة ينهار بشكلٍ متسارع، فى حين تمّ تثبيت سعر صرف الليرة اللبنانيّة قسريّا. وتراجعت موجودات سوريا من العملات الصعبة بشكلٍ كبير، هذا بعد أن كانت قبل 2011 تصِل إلى صافٍ بأكثر من 20 مليار دولار فى المصرف المركزى، كانت قد تجمّعت تدريجيّا منذ بداية التسعينيات مع اكتشافات النفط الجديدة حينها ومع سياسات التقشّف فى الإنفاق التى اتّبعتها الدولة على شاكلة سياسات «الإصلاح الهيكلى» التى طالما كان صندوق النقد الدولى يوصى بها كثير من البلدان.
«فعاليّة» المؤسسات السوريّة لن تُخرِج سوريا من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تخدم سوى الاقتصاد «الريعى» الذى يموّل «أمراء الحرب»، فى حين تقضى تباعا على الاقتصاد المنتِج. وكذلك لن تُخرِج «حركيّة» الإدارة الماليّة لمصرف لبنان البلاد من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تعمل إلاّ لتجميد الوضع المصرفى والمالى القائم ولفائدة الاحتكارات التجارية الكبرى ولكسب الوقت.. بانتظار «غودو».. الذى لن يأتى
تبخّرت اليوم هذه الموجودات الرسميّة السوريّة الكبيرة (وهى غير تلك التى تبخّرت فى فساد مرحلتى «رأسماليّة الدولة» ومن ثمّ «رأسماليّة الأقرباء والأصدقاء«). ولم تذهب حقّا إلى النظام المصرفى اللبنانى. هذا بالرغم من أنّه من المفترض أن تكون ودائع السوريين من القطاع الخاصّ قد ازدادت فى تلك الفترة فى لبنان. إذ إنّ كثيرين فقدوا الأمل من الخروج من الصراع وباعوا أملاكهم، قبل فوات الأوان (!). كما أودع كثيرٌ من السوريين مدّخرات سنين عملهم فى لبنان. واعتمدت التجارة الخارجيّة لهذا القطاع الخاص أكثر فأكثر على الاستيراد عبر لبنان من جرّاء العقوبات الأحاديّة الجانب وحوّل السوريّون أرباح تجارتهم هناك لضمان استمراريّة عملهم.
لقد هدأت وتيرة حركة هروب الأموال من البلدين قليلا عام 2015 مع التدخّل الروسى فى سوريا. وثبت سعر صرف الليرة السوريّة لثلاث سنوات، بالرغم من ازدياد الصادرات التركيّة نحو سوريا عبر مناطق «المعارضة» أو عبر «قوات سوريا الديموقراطيّة» في الشمال السوري.
ثمّ جاء الانهيار المالى فى لبنان فى العام 2019، وانهارت معه بالتوازى أسعار صرف الليرتين اللبنانية والسورية. وفقد المودعون اللبنانيّون، أفرادا ومؤسّسات، ودائعهم وقيمتها فى المصارف اللبنانيّة، وكذلك السوريّون. هذا بعد أن كانت تلك الأزمة قد تمّ تأخيرها قصدا منذ بروزها الواضح لجميع المؤسسات الدوليّة عام 2016. هذا كى يتمكّن من كان يعرف أنّها واقعة لا محالة ـ وهم كبار عناصر السلطة ـ من إخراج أمواله. فالهروب الكبير للأموال حدث قبل سنة 2019 وليس بعدها.
وفى ظلّ الانهيار المستمرّ فى البلدين، عمدت السلطات السوريّة فى أوائل 2021 إلى تجريم التعامل بالعملة الصعبة والضغط على الفعاليّات الاقتصاديّة بشكلٍ كبير، مما أدّى إلى إبطاء انهيار أسعار صرف الليرة السورية مقارنةً مع انهيار الليرة اللبنانيّة. هكذا حتّى حدوث الصدمة التى بدأت فى الأسابيع الماضية، حيث عادت أسعار صرف العملتين السورية واللبنانية بالانهيار المتوازى لمستويات لا يعرف مداها، مع آثارٍ اجتماعيّة مرتقبة ستكون على الأغلب أكثر قساوةً ممّا شهده البلدان حتّى الآن.
***
إنّ آليّات إدارة الاقتصاد والأزمات مختلفة بين البلدين. ففى سوريا، تفرض السلطة آليّاتها عبر الدولة ومؤسّساتها، خاصّةً وزارة المالية وأجهزتها، التى تقوم «بزيارات» دوريّة للفعاليّات الاقتصاديّة للضغط عليها بالتعاون مع الأجهزة الأمنيّة. أمّا فى لبنان، فالمصرف المركزى هو الذى يدير الأمور عبر تعاميمه وفرض آليّات فى القطاع الخاص، مثل منصّة «صيرفة» وتعاملات شركات تحويل الأموال، فى حين تتخبّط مؤسّسات الدولة الأخرى فى سياساتها.. حتّى لوضع ميزانيّة وتطبيقها.
لا تنبغى الاستهانة بصعوبة إدارة أزمات حادّة كتلك التى يشهدها البلدان، سوريا ولبنان. إذ إنّها تحتاج إلى وضع «سياسات» واضحة وإلى آليّات مؤسساتيّة لتنفيذها، بشكلٍ تستطيع معه الفعاليّات الاقتصادية قراءتها والوثوق بها واستباقها للتأقلم ولاستعادة النشاط. إلاّ أنّ «فعاليّة» المؤسسات السوريّة لن تُخرِج سوريا من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تخدم سوى الاقتصاد «الريعى» الذى يموّل «أمراء الحرب»، فى حين تقضى تباعا على الاقتصاد المنتِج. وكذلك لن تُخرِج «حركيّة» الإدارة الماليّة لمصرف لبنان البلاد من أزمتها لأنّ «السياسات» القائمة لا تعمل إلاّ لتجميد الوضع المصرفى والمالى القائم ولفائدة الاحتكارات التجارية الكبرى ولكسب الوقت.. بانتظار «غودو».. الذى لن يأتى. هذا فى ظلّ تداعى الاقتصاد المنتِج تدريجيا والهروب الكبير لقطاع الخدمات نحو الخارج.
إنّ اقتصادي سوريا ولبنان يقومان حاليّا على تحويلات المغتربين والمساعدات الخارجيّة. وهذا بالطبع يحدّ قليلا من التهاوى نحو الفقر المدقِع ولكن ذلك لا يكفى بأى شكل. ثمّ إنّ «السياسات» السورية غير قادرة لا على إحداث الانتعاش، بل على العكس، ولا على احتواء الصدمات القادمة من لبنان. والسياسات اللبنانيّة بدورها غير قادرة لا على إحداث الانتعاش، بل أيضا على العكس، ولا على احتواء الصدمات الآتية من سوريا. سواءً بقى اللاجئون السوريّون فى لبنان أم عادوا.