التحيز المتوهَّم لروسيا
سيعتقد قارىء هذه الكلمات للوهلة الأولى، أن لدى كاتبها تحيزاً لروسيا أو تأييداً كاملاً لموقفها في المواجهة العسكرية الأخيرة ضد تخومها المسماة “أوكرانيا” لأسباب تاريخية. هذه الفرضية ستسقط حين تعرف أن هذه الترجمة هي لاقتباس من مقالة كتبها مارك كانسيان Mark F. Cancian، الخبير الاستشاري في برنامج الأمن الدولي، بمركز الدراسات الاستراتيجية والدولية CSIS. وهو بيت فكر أمريكي مقره العاصمة واشنطن دي سي.
يقول كانسيان في مقالة مؤرخة بتاريخ 26 سبتمبر/أيلول 2022:
“قد يجبر المواطنون الأوروبيون حكوماتهم على الدفع باتجاه اتفاق إيقاف إطلاق النار والمفاوضات”.
هو يقصد أن ظروف روسيا التاريخية جعلت العلاقة بين المواطن وحكومته أكثر تصلباً من تجارب ديموقراطية في دول أوروبية أخرى.
“الجانب اللوجستي قد يمثل مشكلة، لكن تلك المشكلة يبدو أنه قد تم حلها. حقيقة أن الروس يقومون بإطلاق آلاف القذائف المدفعية يومياً، يشير إلى أن ثمة نظام لوجستي يعمل بشكل لائق”.
رد واقعي من الرجل، يتوافق ووقائع العملية العسكرية الروسية، وهو الأمر الذي يتضح أكثر فأكثر مع مرور أقل من سنة على بدء العملية. عكس ما تقوله مصادر “غربية” عن عدم القدرة على تمويل أوكرانيا بشكل مستدام بالقدر ذاته من الأسلحة والذخائر.
“تدريب الروس سيكون غير كافِ وليس بأفضل من مستوى التدريب الأمريكي، لكن الروس يواجهون قوات أوكرانية ضعيفة التدريب، رغم أنهم يمتلكون الدافع القوي، وهم لا يواجهون الولايات المتحدة ذاتها”.
في هذا الاقتباس الرابع، يوضح مارك كانسيان حقيقة يتناساها أغلب المحللين، ربما بسبب كثرة تكرارهم لفكرة أن المواجهة هي بين أمريكا وروسيا. وربما لسبب آخر أعمق وأكثر اتصالاً بالعقل الباطن، لمحللين ينتمون إلى جيل الحنين إلى زمن الاتحاد السوفييتي، فيُسقطون على روسيا بطورها الحالي (الاتحاد الروسي)، احباطاتهم التاريخية، التي نشأت عن رهاناتهم وانتماءاتهم “الشيوعية/ الاشتراكية/ البروليتارية/ البرجوازية/ الطلابية/ العمالية/ الطليعية/ السوفييتية” القديمة التي سقطت. رهانات وإنتماءات فشل تطبيقها في مهدها الموسكوفي. بالأحرى، لم تطبق سوى عبر خطط خمسية متباينة النتائج بتغاير محل التطبيق. تمركز تخطيطها بين يدي دول، فتحولت إلى ديكتاتورية، كانت معظم نتائجها بمثابة مسكنات إجتماعية مؤقتة مغلفة بشعارات رنّانة، وحملت في طياتها بذور إخفاقات مستقبلية بعد أن تآكل تغليفها الإيديولوجي، فلم تنجح في صياغة واقع إجتماعي سلس قابل للاستدامة تفاخر البروليتاريا من خلاله بصنع النموذج المستقبلي. لكن برغم كل هذا الفشل، لا يمكن وصف مآل الأمور على أنه “نهاية التاريخ ـ The End of History”. كما أن المواجهة الحالية لا تمت بصلة لهذا الصراع القديم ما بين شيوعية ورأسمالية. فما هو مبرر إسقاط القديم (الإحباط) على الراهن. وما أفسد عالمنا الراهن سوى الرأسمالية العابرة للحدود أصلاً، أنظر لحالك يا عزيزي، حتى قبل أن “تنظر حولك”.
لربما إن نظرت بشكل واقعي لأدركت، أن النموذج الذي ساد فشل وسيفشل طالما استمرت عقولنا بتقدير الأمور من منظور تاريخي بالٍ أو تخطيط مستقبلي خادع. وطالما ظلت الأغلبية لا تفهم معنى تعبير “إدارة أمور دنيانا”، فنفوّض تلك المهمة الجماعية إلى “صفوة”، تأخذ بأيدينا لتصحبنا إلى هاوية أعمق. وهو ما يزداد وضوحه بعالمنا المعاصر، خاصة منذ سبعينيات القرن الماضي إلى واقعنا الأكثر مرارة الآن.
رسالة للبيبي بومرز
لن أستطرد كثيراً في حديثي الموجه صراحة إلى جيل طفرة المواليد Baby boomers، وسأكتفي تأدباً بأن أقول، حري بكل جيل التوقف عن إسقاط موروث رؤيته للأمور، من منظور الرهانات المبالغ بها، على من تلاه من أجيال. فمن يراهن اليوم على أي فريق، سواء أكان روسياً أم صينياً، معتقداً أنه يلقي بهم كقنبلة وميض Flash bomb، على أبواب البيت الأبيض، ليسقط الامبراطورية الأمريكية، إنما يكرر أخطاء من سبقوه في سوء تقدير الأمور. جدير بالتذكير، أن لا وجود لجيل راهن على روسيا عبر تاريخ أطورها المختلفة، أكثر من الجيل المذكور أعلاه. يبدو أن تلك الحقيقة هي التي تدفعهم اليوم، لتعويض مثل هذه الرهانات القديمة، بالرهان في الاتجاه الآخر، وكأنما فرض علينا أن نراهن على أي طرف أصلا. لا رد على إرث الإحباط الملغز هذا، إلا ربما في كلمة كان ينهي بها الشاعر المصري صلاح جاهين رباعياته، وهي: “عجبي”!
على الجانب المضاد، تجد تسرّعاً عجيباً في إصدار الحكم بفشل روسيا، والترويج لبروباغندا الغرب، علماً أننا أمام مرحلة من المواجهات التاريخية لم تبدأ، لا في 2022، ولا نبعت من 2014، ولا هي ولدت حتى في 1944. بل يمتد خطها الزمني التاريخي رجوعاً إلى منتصف القرون الوسطى. مع مراعاة فروق التوقيت، وتغير وسائل المواجهة وأسبابها، وكذلك اختلاف اسماء الدول على طرفي النزاع وحدودها السياسية.
هزيمة روسيا المتوهَّمة
“للروس حيثيات The Russians have a case”. هذه الجملة ربما يستمر من لا يعرف مصدرها، في الاعتقاد بأنها جملة متحيزة أو صادرة عن أحد مساعدي فلاديمير بوتين، أو أحد سكان إقليم دونيتسك ذي العرق الروسي. الرد بسيط، هذه جملة تلخص موقف نعوم تشومسكي. نفس هذا العالم اللغوي الأمريكي الخبير بالشؤون الدولية، هو من يقول بأنه يدين بوتين ولا يؤيد الهجمة العسكرية الروسية على التخوم (أوكرانيا). لكن ذلك الموقف المبدئي، لم يمنعه من رؤية حقيقة لا يمكن إنكارها.
هناك من استخدموا موروثات المبالغات والرهانات القديمة، في تبني توقعات غير واقعية بخصوص ما تستطيع روسيا أن تفعله في أوكرانيا. ثم أنهم يحاسبون الرئيس الروسي، على ما لم يقله. وكأن الرجل خرج علينا ليعلن عن إطلاق العملية العسكرية قائلاً:
“لقد اتخذت قراراً، وأريدكم جميعاً أن تساعدوني عليه. قررت القضاء على أوكرانيا. بعدها تتوجه قواتي للقضاء على الولايات المتحدة الأمريكية والناتو”!
هل هذا ما قاله بوتين؟ هل اختلط عليكم الأمر لدرجة الاعتقاد أن اسمه “فلاديمير ستالين” مثلاً؟
الرجل لخّص أهداف المواجهة: انضمام أوكرانيا للناتو خط أحمر؛ ضم مقاطعات أوكرانية للاتحاد الروسي لحماية العرق الروسي وإعادته إلى وطنه الأم؛ اجراء استفتاءات محلية بهذه الأقاليم ليقرر أهلها رغبتهم في الانضمام من عدمه؛ إجراء عملية تجريد عسكرية لأوكرانيا.. وعملية تجريد أوكرانيا من الفكر النازي. نقطة على أول السطر!
هذا الهدف الأخير، برأيي الخاص، لن تنجح روسيا في تحقيقه، حيث أن الأمر خارج عن السياق العسكري، إلى سياق موروث فكري قومي، مصاب بالفيروس النازي المتطرف، وحله لن يأتي بالسلاح.
أما بقية الأهداف التي اخترعها كثيرون، فلا وجود لها على الإطلاق. ولكنهم اختاروا أن يتخذوا مقعدهم القديم على مقهى بيافطة حمراء، عليها رسمة لمطرقة ومنجل متعانقين باللون الأصفر. وقبل أن تنتهي جلسة التكهنات، تأتي ضيافة “مشاريب الفودكا” على حساب روسيا. وإذا لم يستطع بوتين دفع الحساب، فقد فشل الرفيق!
كما لا يمكن تجاهل الرؤية أحادية الجانب أو كما تسمى بالإنجليزية Lopsided view، التي تنتج عن التربص لكل خبر عن تراجع روسي، مقابل غض الطرف تماماً عن أي تراجعات غربية/أمريكية. كمن يقولون”بوتين لم يتوقع أن تكون المقاومة الأوكرانية بهذه القوة”، أو “لم يتوقع أن تقع على روسيا كل هذه العقوبات”. أخبرك ببساطة “أوروبا لم تتوقع أيضاً أن تتأثر اقتصاداتها لهذه الدرجة” كما أن “أمريكا لم تتوقع أيضاً أن الاقتصاد الروسي سيكون بهذه الصلابة”.. وهذا باعترافهم هم!
ببساطة لا تكن ملكياً أكثر من “الملك الغربي”، ولا تدع إحباطاتك القديمة من “السقوط السوفييتي” تُضلّل رؤيتك للحاضر.
دعونا ولو لمرة، نتوقف عن حصر دورنا “الكلامي” في مضيق الرهانات الخاسرة والخيبات التاريخية، بلا أي دور حقيقي لنا أصلاً!
أما بالنسبة لأولئك الذين يحلمون بانقسام روسيا على نفسها إلى خمس دول مختلفة، أقول لهم ببساطة، التمني ليس به مشكلة، فلتتمنوا ما شئتم. فقط اسمحوا لي أن أعلمكم، أن موقعكم على طيف التشدد Hawkish spectrum، يقع إلى اليمين من هنري كيسنجر وحتى بريجنسكي!
نهاية التاريخ المتوهَّمة
حتى وإن قررنا مسايرة رؤيتكم التي حاولت تحليل بعض أسبابها في سطوري السابقة. لنقل أن روسيا ضعيفة، ولن تحقق أي شيء. الرئيس بوتين ديكتاتور متهور لا يملك حوكمة سياسية رشيدة تُقدم له المشورة الناجعة. واتحاده سينقسم على نفسه، حينما يزداد غضب شعبه عليه في مظاهرات، أو يعاقبونه بالتصويت لغير حزبه في الانتخابات الروسية المقبلة.
تمام؟ ذهبنا إلى آخر مسطرتكم؟
حتماً ستأتي أجيال أكثر وعياً بالتاريخ، وتتلاشى لديها موروثات الرهانات القديمة والاسقاطات الجيلية والحسابات الخاطئة. لتشهد تجدد هوية الدولة الروسية، في طور جديد. تختبرهم ضغوطات الأحداث الجيوستراتيجية، هل يفهمون حيثياتها، أم يسقطون في ذات ما يسقط فيه الكثيرون الآن؟
تريثوا لكي تقوموا بقياس الأمور بقسطاس سليم. تواضعوا، فتحليلاتكم القديمة لم تفد، والجديدة مستقاة من موروث الإحباطات القديمة.
أنا متأكد، أن ثمة من سيقرأ هذه السطور، فيتوهم برغم الشرح، أنها كلمات من قلم مصاب بالروسوفيليا، أويحاول جمع شتات كلماته، ليبرر “هزيمة روسيا”!
إن كنت من هؤلاء، إقرأ السطر السابق، ثانية. ثم أنظر في المرآة يا عزيزي. نعم، هذا ما يسمى إسقاط ما بك على غيرك، أو بمعنى أشمل، إسقاط ما بجيلك على من يليه من أجيال.
توقفوا عن فيض موروث الإحباطات التاريخية التي تقودكم لقول مفارق للواقع بأن روسيا قد هزمت. فالحقائق أصبحت في موضع بعيد تماماً عن سني أقلامكم. ليس المطلوب من أحد منا ترداد صيحة الحرب الروسية “Oorah!”، ولا رفع علامة النصر الغربية “V”. هذه وتلك لا مكان لهما في هذا الصراع. وما هو أفدح هو إسقاط ما حدث لروسيا في طور “Soyuz” القديم، على واقع راهن مختلف.
لا تتسرع يا عزيزي . فأنا متأكد أنك إذا سألت البطريرك كيريل الروسي نفسه، فإنه سيخبرك أن هذه ليست نهاية التاريخ.
فالمسيح لم يعد بعد، وأنا لا أرى أي أثر لما ننتظره جميعا ..”مملكة العدل”!
الرأي قد قيل، رفعت التوقعات، والإجابات أغلبها لن تظهر في زمننا هذا.
آسف على الإزعاج.