“دار المغرب” في باريس.. “جميلة نائمة” ولا من يُوقظها!

في كتاب صدر مؤخّرا بفرنسا تحت عنوان “دار المغرب في المدينة الجامعية. مكان لذكرى الطلبة المغربيين في باريس”، يروي الأخصائيان مصطفى بوعزيز وغيوم دنغلوس التاريخ السياسي لـ“دار المغرب” بالمدينة الجامعية الدولية في باريس. بعد عقود من النقاشات الحماسية، باتت "دار المغرب" اليوم “جميلة نائمة”، سهر النظام على أن ينزع عنها جميع مظاهر التسيُّس.

لطالما عاش سكان دار المغرب في قلب الدائرة الرابعة عشرة في باريس على وقع الأحداث السياسية التي تشهدها بلادهم. ويستند كل من مصطفى بوعزيز وغيوم دنغلوس إلى أرشيفات غير منشورة وشهادات شفوية لإعادة إحياء قسم كامل من التاريخ السياسي والاجتماعي للمغرب، من فترة الحماية حتى يومنا هذا، من خلال سردٍ للمعارك التي ميّزت هذه الدار. لكن كتابهما يحمل كذلك ميزة كبيرة، تتمثل في تسليط الضوء على القبضة الخانقة التي أحكمتها السلطة على هذه الدار “المشاغبة”، إلى أن جعلت منها مكانًا مسالماً. وهكذا تساير دار المغرب تطوّر العالم العربي، حيث يتم استبعاد الشباب من جميع مظاهر الحياة السياسية والثقافية والفكرية.

في العام 1949، قرّر المقيم العام الفرنسي في المغرب ألفونس جوان تأسيس دار للمغرب في المدينة الجامعية الدولية بباريس. ونظراً لتوتر العلاقات بين المملكة والسلطات الاستعمارية الفرنسية آنذاك، كان هذا المشروع بمثابة “المحاولة الأخيرة للتحكّم الاستعماري من خلال السكن في نخبة مغربية تزداد كفاحًا يوماً بعد يوم”. لكن وعلى عكس المتوقّع، ستصبح دار المغرب “مركزاً للشغب المغاربي في باريس”.

مسألة استقبال طلبة شمال إفريقيا في فرنسا طُرحت منذ 1925، إن كان ذلك بالنسبة للسكان الأصليين أو للفرنسيين. كانت السلطات الاستعمارية واعية لخطر نشأة نخبة متعلّمة في بلدان المغرب الثلاثة. وقد كانت فكرة إنشاء مدينة جامعية بباريس تثير الكثير من التحفظات، بسبب تخوّف السلطات السياسية الفرنسية من تعلّم المستعمَرين. صحيح أن المدينة الجامعية فتحت لهم أبوابها، بدليل تواجد الحبيب بورقيبة فيها منذ 1925. لكن حجم الوفود التي أتت بعد الحرب العالمية الثانية في سياق كان فيه الخطاب الوطني شديد الحضور جعلت السؤال ملحّاً.

بالنسبة للمغرب، توافقت نهاية الحرب العالمية الثانية مع تغيّر جذري في المشهد السياسي، من خلال تأسيس أحزاب سياسية مثل حزب الاستقلال (1942) أو حزب الديمقراطية والاستقلال، وميول السلطان للاستقلال. في هذا السياق، قرّر سلطان المغرب وحزب الاستقلال إعطاء مِنح للطلبة المغربيين الذين حصلوا على شهادة الباكالوريا والذين كان لهم التزام سياسي. وهكذا تراجع المطمح المغاربي الذي كان كثير الحضور حتى 1945، لفائدة أفكار وطنية قومية.

وبينما كانت المقاومة المسلّحة ضد الاستعمار في تطوّر، تضاعفت شدّة قمع الأحزاب الوطنية في مختلف مدن المغرب. رغم ذلك، تواصل بناء دار المغرب بباريس التي فتحت أبوابها في أكتوبر/تشرين الأول 1953. في الأثناء، وصلت الأزمة بين القوميين المغربيين والسلطات الاستعمارية إلى أوجها في أغسطس/آب 1953، بعد نفي السلطان سيدي محمد بن يوسف، ما أدى إلى انخراط العديد من الطلبة في الأحزاب الوطنية، كما حاولوا أن يجعلوا من دار المغرب مركز نشاط من أجل استقلال بلادهم.

ترافق إعادة تشكيل المجال السياسي مع إعادة هيكلة المجال الجمعياتي، إذ تم حلّ اتحاد الطلبة المغربين الذي تأسس عام 1951 على الفور بموجب مرسوم وزاري، وبناء على توصية من الجنرال جوان. كما تم إنشاء جمعية جديدة تُدعى جمعية طلبة باريس، لكنها كانت تقع تحت سيطرة المكتب الباريسي لحزب الاستقلال، وكان أحمد العلوي قائدها الرئيسي، فضلاً عن إنشاء خلية لحزب الاستقلال في دار المغرب.

جالية صغيرة ولكن نشيطة

كان النشاط يتركّز آنذاك حول عودة السلطان من المنفى. اجتمعت في دار المغرب لجنة من المقيمين غير الرسميين لتمثيل المصالح الوطنية. ورُغم صعف عددهم (حوالي خمسين نفراً)، فإن تواجد هؤلاء المغربيين الشباب المرتبطين بالحركة الاستقلالية في باريس، مكّن من تكوين جالية موحّدة، يجمعها طموح أعلى قوي يسمّيه الكاتبان “الوطن الجامع”. وهكذا أصبح واضحاً أن المشروع الاستعماري الذي كان يهدف لأن يجعل من هؤلاء الطلاب مديرين تنفيذيين نشطين من أجل استدامة الحماية الفرنسية في المغرب – كما أرادت باريس – كان بصدد الفشل.

مع عودة السلطان من المنفى في نوفمبر/تشرين الثاني 1955، أصبح لدى المقيمين في دار المغرب شعور بأن “مغرباً جديداً أصبح ممكناً”، وأصبح المكان “مساحةً تُزهر فيها كل آمال التحرر التي يحملها المثقفون والمغربيون والمغرب الكبير، والعرب”. وهكذا تحوّلت الدار من مكانٍ لمقاومة الاستعمار، إلى “بيت قومي” يتم فيه الاحتفال باستقلال المغرب، لتصبح بمثابة “دار الشعوب” وأحد معاقل مناهضة الإمبريالية في باريس.

تعاطف تقريبًا جميع المقيمين في الدار مع الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، تلك النقابة التي كانت فاعلاً اجتماعيًا وثقافيًا وسياسيًا حقيقيًا في المغرب المستقل، والتي اعترف بها السلطان نفسه بعد أن أصبح ملكًا في عام 1957 تحت اسم محمد الخامس. مناهضة الاتحاد للإمبريالية أدّى إلى نشأة مواجهة مباشرة وعنيفة بين الطلاب المغربيين في باريس والدولة الفرنسية، لا سيما فيما يتعلق بالقضية الجزائرية، ما جعل النقابة الطلابية تخضع لمراقبة دؤوبة من قبل أجهزة المخابرات والشرطة.

بعد وفاة الحسن الثاني في 1999، أوصدت دار المغرب أبوابها لمدة سبع سنوات. وعندما أعادت فتحها في 2008، استحوذ جيل جديد من الطلبة قليلي التسيُّس على المكان، ما مثّل قطيعة مع الذاكرة المشتركة لمن سبقوهم. بعد ترميم المبنى، لم تعد هناك باحة استقبال للطلاب، ولا مكان للتواصل الاجتماعي ولا مطعم ولا مشاريع ثقافية، كما اختفت حتى فكرة جالية المقيمين

صعود الحسن الثاني

بعد وفاة محمد الخامس المبكرة في عام 1961، أصبح الاتحاد الوطني لطلبة المغرب رأس حربة المعارضة لنظام الملك الحسن الثاني. كان تصوّر الأخير للسلطة مغايراً لتصوّر والده، إذ لا ينبغي بالنسبة إليه أن يشارك أحدهم الملكَ الحكم، ولا يمكن للأخير أن يتفاوض على السيادة.

بالنسبة للكاتبين، بات واضحاً أن تلك الفترة تحديداً شهدت مواجهة بين وَطَنين، أحدهما تقدّمي والآخر رجعي. أما بالنسبة للمقيمين، فقد أصبحوا أكثر راديكالية في مواجهة القصر الملكي عندما دخل المغرب في “حالة الاستثناء” ابتداءً من عام 1965، وندّدوا بمصادرة بعض “المستحوذين على الحكم” للاستقلال.

في مايو/أيار 1968، وفي خضم الحماسة والمناخ الثوري السائد في فرنسا آنذاك، شهدت دار المغرب إنشاء “لجنة اعتصام” متكوّنة من نشطاء من الاتحاد الوطني لطلبة المغرب، الذي نصّب نفسه كـ“لجنة إدارة” الدار. وقد قدّم المعتصِمون أنفسهم على أنهم سلطة مضادة بصدد إدارة “منطقة حرّة”. وكان الجميع في غرفة استقبال الدار – التي باتت ساحة عامة بأتم معنى الكلمة – يتحدث عن الثورة، وكانت الشخصيات السياسية والثقافية والفنية والعلمية تتردّد على المكان، وتشارك في النقاشات.

نهاية الإغراء الثوري

بداية من عام 1973، شهد المغرب تطوّرات سياسية مهمة كان لها تأثير على حياة دار المغرب ومقيميها. فقد نجا الملك الحسن الثاني من محاولتي انقلاب سنتي 1971 و1972، وبات يتبنى صورة الحكيم الجامع، إن كان في العالم العربي أو في المغرب. وقد عمل بنشاط من أجل تحقيق تفاهم ودي بين الأنظمة الملكية التي تقودها المملكة العربية السعودية، والجمهوريات المتأثرة بمصر. وفي أكتوبر/تشرين الأول 1974، نظّم الحسن الثاني قمة رؤساء الدول العربية في الدار البيضاء. لكن على الصعيد المحلي، لم يكن الملك يَقبل أي نشاط احتجاجي أو معارض، بل وتم حل الاتحاد الوطني لطلبة المغرب.

في تلك الفترة، يبدو أن المقيمين في دار المغرب لم يكونوا منسجمين إلى حدّ ما مع ما يجري في بلادهم. تمزّقت فصائل اليسار، التي كانت في نفس الوقت تندّد بالقمع الذي كان ينصبّ على المعارضين المغربيين وتحتفل بنجاح الثورات في فيتنام وكمبوديا واليمن الجنوبي، لتعيش ما يسمّيه المفكر بيار بورديو “الوهم الثوري”.

في يونيو/حزيران 1974، أطلق بعض المقيمين في الدار إضرابَ جوع، في مواجهة مباشرة مع السفارة المغربية التي أصبحت تشارك أكثر فأكثر في إدارة الدار. بعد حلّه في المغرب، عزّز الاتحاد الوطني لطلبة المغرب من حضوره في فرنسا وفي أوروبا. صحيح أن الطلب الرسمي للمضربين عن الطعام كان إلغاء قرار إغلاق الدار، لكنهم كانوا يطالبون بشكل أساسي باحترام الحريات الديمقراطية ووضع حدّ لسياسة الفرز في قبول ملفات الطلبة. وفي باحة الاستقبال، كانت لوحة الإعلانات تدين عمليات الاعتقال والتعذيب والاختطاف والاغتيالات في المغرب. وقد دعمت هذا الإضراب شخصيات معروفة مثل ماكسيم رودنسون وفرانسوا شاتليه..

في 1975، وضع الحسن الثاني حدًّا لجميع المطالب من خلال إطلاق المسيرة التي تهدف إلى “استرجاع الصحراء الغربية” والحفاظ على “وحدة الأراضي”. وهكذا، تمكّن من إثارة وثبة وطنية عزّزت من سلطته، وظهر مغرب جديد بعد سنوات الرصاص، شعُر مقيمو دار المغرب في كنفه بأن ما يحدث في بلادهم يهمّهم بدرجة أولى. ودارت في المبنى نقاشات متحمّسة لكن بدون المواجهة بين أنصار الجمهورية وأنصار النظام الملكي، بل بدا التغيير ممكنًا داخل النظام الملكي. وتبلور مفهوم جديد خلال النقاشات، وهو مفهوم الأمة (بالمعنى الوطني القومي)، وقد أفسح هذا المفهوم كما تم تصوره خلال النضال ضد الاستعمار الطريق أمام “نحن” شاملة، حيث باتت المؤسسة الملكية تتمتّع بكامل وجودها. لكن هذا التحول كان يفترض تجاوز كل أشكال المعارضة من أجل “إجماع وطني” ينادي به الحسن الثاني.

كان المقيمون الجدد الذين أتوا لتوهم من المغرب شديدي التأثر بهذه الحماسة الوطنية، فانضموا إلى هذه المغامرة المواطنية. من جهة أخرى، أصبحت مسألة الصحراء الغربية – وحلّ الاتحاد – مركزيّتين في انشغالات المقيمين. تم تفكيك مصطلحي “ثورة” و“شعب” خلال النقاشات، في حين كان الكثيرون يتساءلون عن طريقة الربط بين الوطنية والتقدمية. وكان أنصار حق الشعب الصحراوي في تقرير مصيره يشيدون باستقلالهم عن الجزائر، بينما يبذل أنصار مغربية الصحراء جهودًا لتمييز أنفسهم عن الدولة المغربية. وقد سمح الحسن الثاني للاتحاد الوطني لطلبة المغرب عام 1978 بالعودة إلى نشاط شرعي، وهكذا لم تعد دار المغرب معقلًا معاديًا للدولة المغربية. وكان هذا “الإجماع الوطني” يشير إلى حدّ ما إلى تحوّل من وطن محافظ أسّسه الحسن الثاني، إلى وطن مواطني.

زمن التطبيع

بداية الثمانينيات، وصل العجز المالي لدار المغرب إلى حدّ أن المؤسسة الوطنية للمدينة الجامعية هدّدتها بالإغلاق التام. وافقت الدولة المغربية على سداد الديون، وأوكلت إعادة تأهيل المباني لأندريه باكارد، مصمّم الملك. وكان هذا رجوعاً قويّاً لسلطة القصر، مع مدير مغربي جديد هو إدريس عمر.

منذ تلك الفترة، تراجع تأثير الأحداث السياسية في المغرب على الحياة في المبنى. ولم يعد الاتحاد – الذي كان يواجه صعوبات في إدارة تناقضاته الداخلية – قادراً على التموضع في المجال السياسي الذي أعاد الملك رسمه. وهكذا، اتسعت الهوة بين النقابة الطلابية والمقيمين، وتحوّلت الدار إلى مركز ثقافي غير رسمي، تتم فيه دعوة مفكّرين مثل فتح الله ولعلو، ونجيب أقصبي وبنجامين ستورا.

خلال العشرية الموالية، تم انتخاب الإسلامويين في مجلس المقيمين، من 1992 إلى 1995. وهكذا، وقبل عقد من حدوث الشيء نفسه في المغرب، قامت الحركة الإسلامية بالفعل بتهميش الحركة الوطنية والمدافعين عن الديمقراطية في دار المغرب في باريس. كما تبنّى الاتحاد بدوره المحافظة الدينية. وقد كانت صورة الجبهة الإسلامية للإنقاذ الجزائرية – التي كانت على شفا الوصول إلى السلطة في بداية عقد التسعينيات – هي التي تشجّع نشاط الإسلامويين المغاربة، في حين كان اليسار في حيرة من أمره أمام سقوط جدار برلين وانهيار الإمبراطورية السوفيتية. أما القوميون العرب، فقد أضعفتهم هزيمة نظام صدام حسين بشكل كبير.

بعد وفاة الحسن الثاني في 1999، أوصدت دار المغرب أبوابها لمدة سبع سنوات. وعندما أعادت فتحها في 2008، استحوذ جيل جديد من الطلبة قليلي التسيُّس على المكان، ما مثّل قطيعة مع الذاكرة المشتركة لمن سبقوهم. بعد ترميم المبنى، لم تعد هناك باحة استقبال للطلاب، ولا مكان للتواصل الاجتماعي، ولا مطعم، ولا مشاريع ثقافية، كما اختفت حتى فكرة جالية المقيمين. وهكذا أصبحت دار المغرب “جميلة نائمة تحاول الإدارة إنعاشها”، وفق عبارة مؤلفي هذا الكتاب المفصّل والدقيق والموثَّق.

(*) بالتزامن مع “أوريان 21“.

Print Friendly, PDF & Email
سارة قريرة

صحافية، حاصلة على شهادة الدكتوراه في الأدب الفرنسي، مسؤولة عن الصفحات العربية لموقع أوريان 21.

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  الخاسر.. والخاسر في أحداث الطيونة!