بعيداً عن العبارات “البلانكتية” الطافية، التي تفضل أغلب الأصوات إراحة نفسها بها من إرهاق الغوص في تعقيدات الأحداث. هيا بنا إلى نقطة انطلاق عشوائية:
في 9 يوليو/تموز 2022، أعلنت أوكرانيا عن إعفاء السفير الأوكراني إلى ألمانيا من منصبه الدبلوماسي، إلى جانب عدة نظراء له في دول أخرى كالهند، النرويج، المجر وجمهورية التشيك. لكن التركيز تكثف حول السفير آندري ملنيك لأسباب عدة. فقد كان صوت الرجل على ما يبدو مزعجاً للحكومة الألمانية في فترة عمله هناك، بدءاً من محاولة الضغط على ألمانيا لتوفير المساعدات العسكرية التي تطلبها أوكرانيا، من جهة وإلقاء اللوم على برلين لغياب الحسم والقوة في محادثاتها مع موسكو، وذلك قبل بدء العملية العسكرية الروسية في 24 فبراير/شباط 2022 من جهة ثانية. زدْ على ذلك تصريح السفير الأوكراني الذي دافع فيه عن ستيبان بانديرا، الرمز القومي الأوكراني، الذي يراه عديد الأوكرانيين في صورة البطل القومي الممثّل لمنبع الهوية الأوكرانية “المستقلة”!
هو نفسه، أي ستيبان بانديرا، يراه الكثيرون في دول أوروبية مختلفة منها أوكرانيا ذاتها، في صورة المتطرف الإرهابي الخائن، الذي تعاون مع الجيش النازي ضد الاتحاد السوفييتي وبولندا، والمتسبب في التطهير العرقي ضد البولنديين في مناطق ڤولينيا، إليسيا الشرقية، بوليسيا ولوبلين. الأقاليم التي حاولت فيها الأغلبية الأوكرانية، تحت لواء تنظيم القوميين الأوكرانيين OUN-B وبقيادة بانديرا، محو العرق البولندي، مخافة عودة السيطرة البولندية بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، على مناطق تقع في غرب أوكرانيا الحالية. فقُتل من العرق البولندي في هذه المجازر وأشهرها “مذبحة ڤولينيا”، ما يُقدّر بنحو 100 ألف شخص، وهو جانب من التاريخ الأسود المشترك بين أوكرانيا-بولندا، الذي لا تنفك وسائل الإعلام الروسية عن إثارته، لكن هل الأمر محض دعاية (بروباغندا) روسية لإعادة فتح جروح قديمة ولتأكيد بقاء الإسفين مثبتاً في مكانه بين هاتين الدولتين في طورهما الحالي؟ لنختبر هذه الفرضية.
***
التوجه القومي الشوفيني (النازي) المتطرف الذي يمثله ستيبان بانديرا في عيون البولنديين، لا يقتصر على هذه الدولة. فألمانيا التي طالما اشتكت من استخدام روسيا “كارت” صادرات الطاقة كسلاح، وتُدفع باستمرار باتجاه البعد عن روسيا، فتدفع فاتورة الحساب من استقرارها السياسي، استقلالية قرارها، ماكينات مصانعها ورضاء مواطنيها. هي ذاتها التي عانت من قبل تبعات خسارتها للحرب العالمية الأولى، ثم ولادة الفكر القومي النازي المتطرف ممثلاً بأدولف هتلر، ثم دفعت مرة ثانية فاتورة الحساب بعد خسارة الحرب العالمية الثانية. وقد تولّد في ألمانيا، داخلياً أو بتأثير خارجي أو كلاهما، لغة خطابة انعكست على ألسنة سياسييها، توجهات أحزابها، أصوات جماهيرها، أقلام مفكريها، نتاجات فنانيها، بل ومناهج تلاميذها وطلابها الدراسية، إلخ.. لغة تقف بالمرصاد لأي استدعاء أو تجدد للنزعات القومية المتطرفة التي أدت بهم إلى ما عانوا منه ودفعوا ثمنه مرتين.
لا استغراب إذن، في أن تعترض ألمانيا على تجدد (أو استمرار) ذات هذا التيار المتطرف بأوكرانيا. التي تجد سفيرها، يعبر على أرضها عن دفاعه عن الوجه الأكثر تمثيلاً لمثل هكذا فكر.. بانديرا!
هذا لسان حال ألمانيا في هذه النقطة، وهي التي تعاون بانديرا معها – في طورها النازي بالطبع-، فما بالنا بمن كانوا على الجانب الآخر من المذابح التي تسبب فيها الجيش النازي ومعاونوه، ومنهم ستيبان بانديرا، من أجل خدمة حركتهم الداعية لـ”استقلال” أوكرانيا على حساب الاتحاد السوفييتي، بولندا أو الكل كليلة.
لتفسير وضع كلمة استقلال بين ظفرين إذا ما سبقت اسم أوكرانيا، ماذا كان شخص بغيض كبانديرا ذاته سيقول، حين يجد على رأس الدولة التي مارس الإرهاب والخيانة حتى “يصنع استقلاليتها”، مجرد “ماريونيت” يتم التلاعب به واستخدامه بإسم دولة من المفترض أنها “مستقلة”. دولة تُصطَنعُ بها ثورة في أشهر ميادينها لعزل رئيس موالٍ لروسيا في 2014. حتماً سيتعجب هذا الإرهابي.. إلام آلت تجربة صنع الدولة التي كان يعتقد أنها ستصنع و”تستقل” بالإرهاب والتطرف القومي والعنصرية؟
ثم ماذا سيكون رأي ألمانيا، حينما تعرف أن السفير الأوكراني ملنيك، غادر أراضيها، ليحتل منصباً في وزارة الخارجية الأوكرانية؟ هل تعتقد أن الفكر “البانديري” عند السفير تم علاجه مثلاً؟ دعونا نبشرهم إذن، أن فكر التطرف الذي يمثله بانديرا، محفور في النفوس والعقول، على أعماق أغور بكثير من العمق الذي رأينا فيه ذلك الباب الذي يغلق مدخل أحد الخنادق المتعرجة التي يحتمي بداخلها الجنود/الميلشياويون الأوكرانيون، قبل أن تؤول السيطرة على هذه النقطة الدفاعية لروسيا ثانية، ليجدوا الباب وقد كتب عليه الأوكرانيون بلغتهم عبارة: “Бандер штаб”، أي مركز قيادة بانديرا!
***
تأكيداً على أن الأمر لا علاقة له ببروباغندا قادمة من موسكو، لمن فاته متابعة مواقف وتصريحات بولندية رسمية في الفترة الأخيرة، وحتى خلال فترة الحرب الجارية على أرض أوكرانيا. إليك بعض مما صدر منها:
انظر إلى تصريح رئيس الوزراء البولندي ماتيوس مورافيتسكي لوكالة PAP، الذي يقول فيه:
“نحن ننتقد بشدة أي تمجيد لستيبان بانديرا (…) وفي محادثتي القادمة مع وزير الخارجية الأوكراني سأقولها وأقولها بوضوح”.
جاء هذا التصريح رداً على تغريدة نشرت على الحساب الرسمي للبرلمان الأوكراني (Verkhovna Rada) بموقع تويتر في 1 يناير/كانون الثاني 2023، تظهر فيها صورة القائد العام للقوات المسلحة الأوكرانية، فاليري زالوجني، في لقطة سيلفي التقطها لنفسه، تظهر فيها خلفه لوحة مرسومة لستيبان بانديرا. مع عدة فقرات مقتبسة من كتب ألفها ذات القومي المتطرف! ليقوموا بحذف التغريدة بعدها نتيجة لرد الفعل البولندي.
إلى تصريح أحد نواب رئيس البرلمان الأوروبي، ريتشارد شارنِكي (بولندي)، الذي حمل تحذيراً واضحاً في 7 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حينما قال: “حقيقة أن العلاقات البولندية-الأوكرانية اشتعلت هو خطأ كييف وهذا بمثابة الهدية لبوتين، للكرملين”.
كما كان تعليق وزير خارجية بولندا الأسبق، ويتولد فاتشيكوفسكي، على إخلال أوكرانيا بتفاهمات مع بولندا تخص البحث عن جثث ضحايا مجزرة ڤولينيا في غرب أوكرانيا، شاهداً على مدى إنغلاق المواقف بسبب الخلفيات التاريخية، وإن كان الموضوع يتعلق بما يمكن أن يستهين البعض به. فقد قال ويتولد: “نحن لسنا في نزاع مع أوكرانيا، بسبب عدم تحرك الأمور على النطاقات السياسية، الدبلوماسية، العسكرية والاقتصادية إلى الأمام.. ولكننا، لاحظنا أن أوكرانيا كانت تتراجع عن بعض الترتيبات، بل وتنسحب من أخرى، على سبيل المثال تلك التي تتعلق بعمليات استخراج الجثث”!
من يتناوشون حول قضايا مثل تلك، ماذا تتوقع أن يكون منظور النقاشات فيما بينهم، وماذا يمكن أن تكون الشروط التي ستضعها بولندا على طاولة النقاشات، لعرقلة انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي؟
رغم كل ذلك.. وربطاً بألمانيا، ما تابعناه في الفترة الأخيرة، خاصة منذ بدء الحرب الأوكرانية، يوضح أن توجه الحزب الحاكم في بولندا (القانون والعدالة، PiS)، هو الضغط على ألمانيا لقطع علاقاتها وصادراتها من روسيا، والاصطفاف في طابور العداوة الذي “أمرت” به أمريكا.
وإذا ما تعمقنا في تاريخ العلاقات البولندية-الألمانية، لن ننتهي منه هذا الشهر. لكن الشاهد، إن تاريخ وخلفيات العلاقات الدولية، لا يمكن أن يستخدم فيه أسلوب النظر تحت الأقدام، ولا الاستهانة بانعكاساته على الحاضر، وإن بدت بعض منابع خلافته فرعية وتافهة اليوم. فهي لا شك تعبر عن نزاعات وآلام تاريخية لا يمكن إغفالها، وتضارب في مصالح حالية لن تُحل بصيحة “اصطفاف” من أمريكا!
***
للمناسبة، أصدر وزير خارجية بولندا الأسبق (ويتولد) أكثر التصريحات دلالة على الموقف البولندي-الأوكراني، بتاريخ 10 نوفمبر/تشرين الثاني 2022، حين قال لجريدة “زينيك ديلي” البولندية الآتي:
“لن نسمح أبداً بالمساواة بين الجيش الأوكراني المتمرد، التشكيل العسكري القومي بالحرب العالمية الثانية، وبين جيش الوطن، حركة المقاومة البولندية الرئيسية خلال الحرب”. وفي رد آخر قال: “أشياء متنوعة يمكن أن تحدث خلال أي حرب.. لكن جيش الوطن (البولندي) لم يكن لديه أبداً سياسة إبادة مدنيين في الأرض التي يحارب فوقها المحتل”.
وأكد في اللقاء الصحفي ذاته أن بلاده “لن تستسلم”، ملوحاً بأن أوكرانيا تحتاج إلى “محامٍ يقف بجانبها”، وأنه يمكن لبولندا أن تستمر في لعب هذا الدور. لكنه شدّد على الموقف البولندي من كييف قائلاً: “الآن نقولها بوضوح: التدخل الروسي في بلادكم لا يمكن أن يكون عذراً لتأجيل تسوية المشاكل وتأخير اصلاحاتكم. لقد انتظر من سبقوني بسلبية، آملين في أن تحل كل المسائل نفسها بنفسها”.
ثم أردف: “لا زلنا صابرين لكن دولاً أوروبية أخرى، مثل المجر ورومانيا، بدأتا بالفعل في العمل ضد المصالح الأوكرانية. على سبيل المثال، لن يكون هناك اجتماع لمفوضية أوكرانيا-الناتو في ديسمبر/كانون الأول على مستوى وزراء الخارجية بسبب الفيتو المجري. لكن اجتماعاً مثيلاً سيتم عقده مع جورجيا”!
أعتقد أن كل ما يُلّوح به الرجل لا يحتاج إلى شرح. وما كانت تلك الأمثلة إلا نماذج مختصرة، يمكن للمتابع التوسع بها لرسم المشهد الأوسع.
***
ثمة أخبار متناثرة لا بأس من الإستشهاد بها. تهديدات وجهتها ميليشيات نازية مسلحة بأوكرانيا، لمن ينتمون للعرق المجري بإقليم زاكارباتيا تحديداً، بأنهم سيقومون بإبادتهم هم وأبنائهم. وقد نشر أحد هذه الفيديوهات غير مؤكدة المصدر عبر حساب بموقع Telegram، في ليلة رأس السنة، يظهر فيه ميليشياوي مقنع يقف مُطلقاً هذه التهديدات، أمام لوحة طريق كتب عليها اسم مدينة “بيريهوفي Берегове”، الواقعة في إقليم زاكارباتيا، غرب أوكرانيا. أي على بعد أقل من 10 كم من أقرب مدينة لها داخل الحدود المجرية وهي “بيريجسوراني Beregsurane”، ذات المدينة التي وقف فيها رئيس وزراء المجر فكتور أوربان، ليعلن بمؤتمر صحفي في إبريل/نيسان 2022، ترحيبه بجميع “المواطنين والمقيمين بشكل قانوني في أوكرانيا بغض النظر عما إذا كانوا يخضعون للتجنيد العسكري في القوات المسلحة الأوكرانية”.
نسمع الآن أصواتاً أوكرانية متطرفة، تتهم المجر بالتدخل في الشئون الداخلية لأوكرانيا، ونرصد تصريحات تحمل اتهاماً للقنصل المجري بتقديمه جوازات سفر مجرية، لمواطنين أوكرانيين في 2018. يبدو أن من كانوا يحصلون على جوازات سفر مجرية منذ ذلك الوقت، لم يعد لديهم خيار الآن في أن يلجأوا إلى المجر، ليأخذوا وثائق سفر ذات الدولة، خاصة الذين ينتمون لها عرقياً. فهل انحسرت خيارات أوكرانيا بالفعل، بين فقدان إقليم ترانسكاراباثيا (زاكارباتيا أوبلاست)، أو أن تخسر 150 ألفاً من مواطنيها من ذوي العرق المجري؟
***
فجأة وجدت أوكرانيا نفسها على المذبح الجيوسياسي الدولي. وبينما يعطيها “حلفاؤها” حقن المنشطات ويعلقون لها الأمصال حتى تستمر في البقاء واقفة، تجد أوكرانيا نفسها حين تطلب أسلحة معينة، خاصةً طويلة المدى منها، أمام تمنّع ومخاوف أمريكية وأوروبية، لا سيما حينما يرونها تُسقط درونز انتحارية (Geranium-2 / Shahed-136) روسية/إيرانية، قيمة الواحد منها لا تتعدى الـ 20 ألف دولار، باستخدام صواريخ S-300 سوفييتية الصنع، سعر الواحد منها 140 ألف دولار، أو صواريخ سطح-جو أمريكية (NASAMS) سعر واحدها 500 ألف دولار!
وبرغم التلويح المندرج ضمن سياسة حافة الهاوية Brinksmanship الذي يتبناه “صقور” أمريكا، بإرسال المزيد من أنظمة الأسلحة، فإن الولايات المتحدة تبدو قلقة من تهور أوكرانيا، الأمر الذي قد يتسبب في رد فعل نووي روسي! ما يعني باختصار أن طريق “انتصار أوكرانيا” المزعوم، تعلوه لافتة تحمل كلمات: “Radiation Hazard: Victory Not Allowed”..
فبين ما يمنع انضمام أوكرانيا للاتحاد الأوروبي، ومنه ما ينبع من توجهات بعض مواطنيها أنفسهم ممن انتخبوا رئيسا مثل “يانوكوفيتش” سابقاً. وما يُرسم لها من خط أحمر على يديّ روسيا بعدم الانضمام لحلف الناتو من جهة أخرى. وبين ما منع نجاح تجربة الدولة في الاستقرار على وضع سياسي ينضبط عليه العقد الاجتماعي، دون تشطّي يتسبب فيه إرث العنصرية والنعرة القومية المتطرفة داخلياً.
بين كل هذه العراقيل والحواجز، حشرت أوكرانيا نفسها فقُسّمت، وصار عاليها سافلها، من أجل ماذا؟ منافسة اقتصادية؟ مصالح دول؟ استقلالية شعوب؟ أي منافسة على مصالح تلك التي تدفع القطب الأمريكي للوصول إلى هذا المدى من “البلطجة” والتعدي على استقلالية أوكرانيا المدعاة، وأمن شعبها الذي لا ذنب لأغلبيته فيما يحدث؟ ثم يلتف هذا القطب ليحاول صف الجميع ببجاحة لا تقارن، في منظومة “ردح” لروسيا لأنها “تبلطجت وتعدت” على أوكرانيا!
وأي “استقلالية” تلك التي يخطبون فينا بشأنها، وأصابعهم تحرك رؤساء دولٍ كالدُمى الراقصة من أجل “بلطجة المصالح”؟
وبينما يتجه بعض المتابعين والمحللين لخلطة سيئة المذاق، من المبالغات والرهانات المبالغ بها، عن اكتساح روسي من جانب، أو نصر مبين لأوكرانيا و”حلفائها” من جانب آخر وأحاديث عن ديموقراطية، استقلالية، وسيادة، في عبارات “بلانكتية” تُبهم أكثر مما تكشف. فإن هذا كلهُ عبارة عن أوهام مخدِرة تعيش عليها الشعوب، وعلى رأسها أكثرهم خدعةً للذات، الشعب الأمريكي، الذي يرتكب باسمه وتمول بأموال ضرائبه، جُلّ هذه المهالك.
ثم يأتي من يقول لك أن فلاديمير بوتين “تهوّر وأخطأ”! يا أخي، يا ليت دولاً تتحدث اللغة التي تقرأها الآن، كانت قد تهورت وأخطأت من زمان.
رب تهوّرٍ من أجل السيادة والكرامة، أفضل من خنوعٍ لم يحفظهما لأممٍ احترفت دونَ الفعلِ.. الكلامَ!
يا أخي.. “تحياتي”!