النهضة التي بُذرت طموحاتها، تم اغتيالها من قوتين قاهرتين: الديكتاتورية والسلفية الدينية. وفيما كان الغرب يتقدم، كان العرب يقفزون الى الوراء. زارتنا أفكار وعقائد وقضايا وأهداف رائعة: الوحدة، العدالة، الديموقراطية، الاشتراكية، القومية، التنمية.. ولم يبق منها حتى الرماد. لم تمت وحدها. ارض هذه البلاد لا ترتوي إلا بالعنف والفقه والعصبيات. حتى ان تكون مواطناً في وطن، هذا مستحيل.
لماذا كان هذا الفشل أو لماذا هذا الانتحار؟
الشعارات التي رُفعت وصدّقناها اعتبرناها المفتاح السحري للأبواب الموصدة، بحيث أن انتصار هذه الأفكار، رهن بدخول دولة الشعب الى الحيز السياسي. لم يحصل ذلك، ليس لعدم تطابق هذه القيم والأهداف مع الواقع، بل لأن الواقع كان ضدها وهزمها بسهولة.
الديموقراطية هي آخر مطاف ثقافي ونضالي صادق. لا ديموقراطية البتة في مجتمعات تؤمن بالسحر السياسي. تكتفي برفع شعار الديموقراطية بينما المجتمعات غير مؤهلة لذلك البتة. الديموقراطيات تأتي في نهاية المطاف. وكنموذج لهذه السيرة؛ يتميز لبنان عن غيره من الكيانات بأنه بلد حريات. غلط. الحريات في لبنان ضد الديموقراطية مائة في المائة. لا ديموقراطية مع نظام طوائفي. مع تضاد ثقافي وتشلع اجتماعي، يستحيل أن تكون ديموقراطياً. الديموقراطية ليست ثمرة نشتريها من النصوص والاقتراحات. هي ثمرة تحتاج الى أرضية ثقافية متفاعلة. نحن نريد الثمرة التي لم تُزرع في البيئة. لذا، ديموقراطيتنا سامة ومسمومة وأرضية للفتنة. الديموقراطية لا تولد دفعة واحدة. يجب ان يتأهل المجتمع لحضورها.
العراق، يا حرام. من جحيم الديكتاتورية ورعب النظام الذي يجيد القتل والاغتيال علناً، الى عذابات التطيف والتسنن والتشيع الى جانب طموحات الأكراد. العراق الثري، العبقري، حاضن الحضارات منذ ما قبل الإسلام حتى ما بعد الإسلام.. هذا العراق، أصبح بلا شعب. انه قبائل. فلا تتوقعوا ابداً، ديموقراطية في العراق
عدم نجاح المسار الديموقراطي يعود الى عدد من العوامل:
أولاً؛ اعتبار الديموقراطية شعاراً لا مساراً. يكفي أن يتم رفع الشعار حتى يترجم واقعاً. هذا تخريف اجتماعي. الديموقراطية هي آخر مطاف مسيرة صعبة وشاقة ومحفوفة بالمصالح المضادة للحرية.
ثانياً؛ فقدان الحرية في المساحات العربية، ليس بسبب تخلي الجماعات عنها، بل لأن اغتصاب الحرية واعتبارها رجساً غربياً، يُعوّض عنه بالخضوع والاخضاع؛ خضوع طوعي لفقه الأديان، وإخضاع قمعي عسكريتاري ماحق.
ثالثاً؛ للديموقراطية الفباء خاصة بها. لا تحصل إلا بعد جيل مديد. ثقافة العلم والعلوم اولاً. ثقافة الإنتاج دائماً. ثقافة الحرية. ثقافة التجمع الطوعي، لا الاجتماع الوراثي والديني. ثقافة الوعي والانفتاح والتلاقي. ثقافة الاختلاف واحترامه. ثقافة النقد والنقد المضاد.
من دون كل هذا، لا يمكن للديموقراطية ان تفوز بالحضور. وكنموذج لهذه الديموقراطية الراسخة، لا نستطيع ان نجد نظاماً عربياً يوفر الحرية وشروط المشاركة وحرية الاختيار لتصبح واقعاً.
الديكتاتوريات العسكرية فادحة. الناس تطيع ولا تطاع، تسمع وتنفذ ولا تناقش. تبايع عالعمياني. تعيش خوف العقاب. العقاب في الأنظمة الديكتاتورية العسكرية والملكية والاماراتية والسلطانية، لا يمكن تصور بدائعه الاجرامية. الانسان العربي يملك لغتين: لغة علنية كاذبة، ولغة باطنية لا ترى النور، ولا يُسمع صوتها. الانسان الحر ممنوع. محذوف. خطير. ثمن الديموقراطية باهظ جداً.
الديموقراطية بحاجة الى صيانة وقوة. الديموقراطية حتى في الدول “العريقة بالحرية”، قد تكون ممارستها جهنمية، كـ”الديموقراطية الأميركية” في عهد المكارثية، و”الديموقراطية الفرنسية” في عهد الجمهورية الرابعة و”الديموقراطية الإيطالية” وقبلها الاسبانية…
غياب الديموقراطية، كان سبباً في انفجار “المجتمعات” (المجموعات أفضل) على مدار عقود. سوريا انفجرت وتشظت والتزمت أرومتها وطوائفها ومللها. لم تعد القومية ذات معنى. أما الحرية، فهذا حصرم في حلب. سوريا، معارضة وسلطة، ترتكب الحرام الوطني. ولأن سوريا لم تكن وطناً لأحرار بل ثكنة: تبلغوا وبلّغوا. وفي هذه التجارب السياسية لا محاسبة ولا عدالة ولا قضاء. السلطة هي الأب والابن ومسلسل الخلافة. العراق، يا حرام. من جحيم الديكتاتورية ورعب النظام الذي يجيد القتل والاغتيال علناً، الى عذابات التطيف والتسنن والتشيع الى جانب طموحات الأكراد. العراق الثري، العبقري، حاضن الحضارات منذ ما قبل الإسلام حتى ما بعد الإسلام.. هذا العراق، أصبح بلا شعب. انه قبائل. فلا تتوقعوا ابداً، ديموقراطية في العراق. أما الأردن، فهو ملكية مبرمة، والحكومات والانتخابات تحت سقف القدر الملكي. الملك هو صاحب القرار. واجهزته الأمنية أفضل من شعب يعض على وجعه.
لبنان، خراب طائفي، وسط “حرية”، لا تمت الى قواعد ممارسة الحرية. ويمكن استكمال الجولة على دول “الحريات المالية والتحويلية والتسويقية والتشويقية” في ملكيات وامارات الخليج. والناس، من كل حدب وصوب، مؤجرون لهذه الامارات، لقاء اجر سخي، وصمت هرمسي. وكل خروج عن الأوامر والطاعة، مصيره: عد الى بلادك، أو..
مصر، مر بها الربيع العربي. عبث. الجيش نافس الإسلاميين في ما بعد شهور الفرح بالحرية وامسك بالسلطة. الحرية في مصر ممنوعة. التفكير ممنوع، الثقافة محروسة بالعسس. الاعلام إملاء وإنشاء. دولة عظمى تخاف من شعبها. وشعبها خطير جداً، واسلاميوها عند كل منعطف. لا صراع بين ديموقراطيين ونظام. هناك صراع مخيف ودام بين حزب العسكر وحزب الآيات. هذه الدولة التاريخية الكبرى تعتبر الديموقراطية سامة ومسمومة. الأمر للسلطة. وعلى الناس الطاعة. اما السودان، فيبدو انه أكثر رحمة من الماضي. المواجهة في السودان، بين عسكر متخم، وشعب عنيد وشجاع.
الخوف من تحول الصراع، بين عسكر ومحترفي الآيات.
وكما في المشرق العربي، كذلك في المغرب العربي، باستثناء تونس التي تعيش مخاضاً ديموقراطياً صعباً بسبب استفراد الفرد “الملهم”، بالسلطة وبالقوة.
بعد كل هذا، وبعد هذا الوصف، ما الدواء الشافي؟
الديموقراطية مشروع صعب جداً. انها لا تتم بقرار ابداً. انها تنوجد من خلال مسار مديد. من خلال حامل اجتماعي. أي بعد اختمار وانتماء وتحرر واعتبار الحرية لا تصان إلا بالديموقراطية، ولا مواطنة من دون ديموقراطية، ولا سياسة البتة من دون ديموقراطية. السياسة ليست املاءً عسكرياً او دينياً او استعمارياً. السياسة الحقة هي ترجمة لمآلات الحرية في الاجتماع والسياسة. ما عدا ذلك، فان التشدق بالديموقراطية، لا يكون إلا على قبرها.
قيل إن الديموقراطية هي وليدة تفوق البورجوازية على سواها. هي الحامل الحتمي لهذا الانتماء. التاريخ يدلنا الى ان الديموقراطية والبورجوازية توأمان. قبل البورجوازية، كانت الديموقراطية غائبة.
ما الذي حصل في أوج “النهوض القومي”، بعد زوال الاستعمار والانتداب؟ لقد تم حفر قبر للديموقراطية وللبورجوازية معاً. الفكر القومي المتشدد، لا يحفل كثيراً بالحرية والديموقراطية. الانقلابات العسكرية، حفرت قبوراً على اتساع الخريطة العربية، لدفن الحرية والديموقراطية، (حكام العرب انصاف آلهة لا يحاسبهم أحد، بل يحاسِبون ويظلمون وهم مدعومون من غرب “ديموقراطي”).
وعليه، العرب أمام مستحيلات كثيرة، أبرزها: ان تنظر الى الانسان العربي، على انه مواطن، ومواطنته غير مقيدة، والحرية هواؤه واوكسجين حياته السياسية. في الأنظمة العربية، الشرطي أهم من المواطن.. والمرجعية المذهبية أهم من الايمان، الخ…
لبنان يختلف قليلاً عن محيطه العربي. لديه “حرية” غير منتجة. هي اشبه بالفوضى والفلتان. لا مجتمع مدنياً في العالم العربي. المجتمع اهلي، مللي، اقوامي، مناطقي، جهوي، اروماتي. شخصية المواطن العربي الحاف مفقودة. وشخصية المواطن اللبناني الحاف معدومة.. قلة من شذاذ البراءة والإنسانية والقيم، مقيمة في لبنان، ومنكوبة بأنها لا تجتمع على رأي أو برنامج. ضيعان المعرفة ان لم تترجم فعلاً.
اخيراً، لا بد من فضح المنظومات العربية من المحيط الى الخليج:
أنكم تستعبدون شعوبكم. تفككون مجتمعاتكم، تظلمون أبرياءكم. عبدة مال وسلطة وصفقات. الدولة عندكم ابليسية. علاقة الانسان معكم، علاقة ضحية بجلاد مستعد دائماً لممارسة الاستعباد والعنف اللاشرعي.
الديموقراطية مشروع صعب جداً. انها لا تتم بقرار ابداً. انها تنوجد من خلال مسار مديد. من خلال حامل اجتماعي. أي بعد اختمار وانتماء وتحرر واعتبار الحرية لا تصان إلا بالديموقراطية، ولا مواطنة من دون ديموقراطية، ولا سياسة البتة من دون ديموقراطية
أليس ملاحظاً ان الدول العربية، ليس فيها أكثرية وأقلية. انها فئوية وطائفية. لا انتخابات حقيقية، من هنا لا تجديد ولا تبديل. ولبنان “المتحرر”، نموذج واضح، لكون انتخاباته كذبة، ولا تغيير بعد كل جولة. لبنان مستنقع انتخابي. الناخب معتر. يظن انه يمارس الديموقراطية بهدف التغيير. والله، تتغير السماء والأرض، ولا تتغير السلطة في لبنان، إلا من السيء الى الأسوأ.. الى الجحيم.
الديموقراطية ثقافة قبل ان تكون فرعاً سياسياً ضرورياً.
يقول جورج طرابيشي في كتابه “حرطقات”: “الأنظمة العربية لا تتحمل انتخاباً حراً، ولا تتحمل رأياً حراً”.
إلى اللبنانيين نقول: “اثبتت التجارب، انكم لست احراراً ابداً. لأنكم عبيد رؤسائكم وطوائفكم وزعاماتكم ومللكم وأروماتكم”.
أنتم ماضٍ لم يمضِ. ولبنان، عاصٍ على أن يكون دولة. وقد لا يكون إلا كما هو: فوضى وافلاس وانهيار.
اننا نعيش النهايات.. ونستحق ذلك.
انما، وبعد كل ذلك، لا بد من الايمان، بأن الشعوب لا تموت وستعي ذات يوم انها جديرة بالحياة الحرة.