“(…) لم يعد لدى سكّان الشيخ مقصود وتل رفعت في شمال غرب سوريا القدرة على تلبية احتياجاتهم الأساسية، إما بسبب ارتفاع الأسعار أو نقص السلع. إن الحظر المفروض على الأدوية والحليب المجفّف والمازوت في نقاط التفتيش له توابع كارثية على السكان. فلم يعُد المصابون بأمراض مزمنة يجدون عقاقيرهم، وتوفّي العديد من الأطفال في الأسابيع الماضية جرّاء انخفاض في حرارة الجسم، في حين أن آخر مستشفى – الذي لا يزال صامداً في تل رفعت بفضل دعم الهلال الأحمر الكردي – مهدّد بغلق أبوابه بسبب نقص المواد الطبية اللازمة. وقد بات التحصيص والخوف الدائم من الغد يغلب على الواقع اليومي، لا سيّما وأن الليرة السورية تعاني تضخّمًا غير مسبوق.
ووفقًا لمجلس سوريا الديمقراطية1 والمجلس المدني لمدينة تل رفعت، يهدف الحصار الاقتصادي إلى إجبار الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا على تقديم تنازلات. فالحكومة السورية لا تعترف باستقلال أقاليم شمال شرق سوريا، ولا باستقلال قوات سوريا الديمقراطية. منذ عام 2012، يأبى بشار الأسد الاستجابة لمطالب الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا بالتفاوض حول تلك المسألة. يقول جيان، عضو مجلس سوريا الديمقراطية بحلب بحي الشيخ مقصود: “تفرض الحكومة السورية معابر حدودية حتى تتمكن من إشباع رغبتها الأساسية” وهي استعادة السيطرة على تل رفعت والشيخ مقصود.
من هذا المنظور، يعد تفتيت الأقاليم الغربية الخاضعة لسيطرة الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا ورقةً رابحة شديدة الأهمية في يد الحكومة السورية. تفصل بين منطقة تل رفعت الجنوبية وحي الشيخ مقصود الكردي عشرة كيلومترات فحسب. إلا أن قطعة الأرض تلك تقع تحت طائلة الحكومة السورية، مثلها في ذلك مثل الأراضي التي تفصل حلب عن منبِج، إحدى المناطق ذاتية الحكم في شمال شرق سوريا. والنتيجة أن نقاط العبور الممتدة على محور منبج – حلب – تل رفعت تقع تحت رحمة النظام، وتم إحاطة تلك المناطق بنقاط تفتيش.
وتنفذ الفرقة الرابعة عمليات التفتيش على الأرض، وهي من وحدات النخبة في الجيش السوري الموالية لإيران. وإلى جانب تنفيذها للحصار الاقتصادي المفروض من النظام، فهي تقوم بعمليات نهب وسرقة (…).
التهديد التركي
تعتبر تركيا حزب الاتحاد الديمقراطي، وهو حزب الأغلبية داخل الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا، امتدادًا لحزب العمال الكردستاني وتهديدًا لأمنها الداخلي. وتستهدف أنقرة إقامة منطقة عازلة بعمق 30 كم على امتداد الشريط الحدودي السوري التركي، حيث تقع المدن ذات الأغلبية الكردية. اجتاحت تركيا عفرين في 2018، بالإضافة إلى المنطقة الواقعة بين راس العين وتل أبيض في 2019. وهي تنظر إلى تل رفعت باعتبارها آخر أهداف عملية “غصن الزيتون”2، وفقًا لوكالة أنباء “الأناضول” التابعة للحكومة التركية. ويكمن أحد الدوافع التي تستخدمها تركيا لشرعنة عمليتها العسكرية في المنطقة في المكوّن الديموغرافي لتل رفعت، التي تتكوّن بشكل أساسي من العرب. فوفقًا لوكالة أنباء الأناضول، فرّت العديد من العائلات العربية من المنطقة منذ تأسيس الإدارة الذاتية لشمال وشرق سوريا في 2016. بيد أن مناطق شمال شرق سوريا أصبحت في واقع الأمر ملاذًا للكثير من العائلات العربية التي فرّت من النظام من ناحية، ومن الميليشيات الموالية لتركيا من ناحية أخرى. حيث تقدّر أعداد النازحين من إدلب إلى شمال شرق سوريا بأكثر من 100 ألف مواطن.
قد يؤدّي غزوٍ عسكري تركي جديد إلى زعزعة استقرار الهياكل السياسية والعسكرية المحلّية، والتي لعبت كعضوٍ في التحالف الدولي دورًا أساسيًّا في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. وتؤكّد قوات سوريا الديمقراطية على العلاقة بين الأعمال الإرهابية التي وقعت في شمال شرق سوريا والميليشيات الموالية لتركيا التي تسيطر على الأراضي المحتلّة
تل رفعت منطقة استراتيجية
يقول كل من جيان ومحمد عنان: “تعد تل رفعت بوابةً إلى حلب”. حيث تعتبرها تركيا منطقة استراتيجية، ذلك أنها تمكّنها من الوصول إلى العديد من الطرق المهمة اقتصاديًا عبر حلب، وهي الطرق التي تربط شمال غرب سوريا بالمناطق الساحلية السورية، مرورًا بحماة وإدلب. يقول محمد عنان: “هناك حرب اقتصادية تُشَنّ على طريق إم 4”، في إشارة إلى الطريق السريع الذي يقطع الأراضي السورية من الغرب إلى الشرق، ويربط حلب بمدينة اللاذقية المرفئية. إن إقامة حدود بين مدن أعزاز وتل رفعت وإدلب ستمكّن تركيا من امتلاك مراكز اقتصادية هامة بالقرب من حدودها. علاوةً على ذلك، فإن المعبرين الحدوديّين باب السلامة بأعزاز وباب الهوى بالقرب من إدلب يقعان حاليًا في المناطق المحتلة من الميليشيات التي تدعمها تركيا. هكذا تلعب أعزاز دورًا محوريًّا في الدعم اللوجِستي الذي تقدّمه تركيا للجماعات المتمرّدة.
نفّذت تركيا اجتياحها البرّي للأراضي السورية في غرب الفرات بعد حصولها على موافقة روسيا وإيران المسبَقة. ولكن في الثالث والعشرين من نوفمبر/تشرين الثاني 2022، وبينما كانت تركيا تنفذ سلسلة من عمليات القصف في كافة مناطق شمال شرق سوريا، أعلن ممثّلو روسيا أنهم لم يعطوا تركيا الضوء الأخضر للقيام بهجومٍ برّي. إلا أن توافق تركيا مع أهداف روسيا، والتي تأمل تطبيع العلاقات بين الدولتين، يمكن أن تؤدّي إلى حصول تركيا على بعض التنازلات، وبالتالي يمكن الحصول على ضوءٍ أخضر للقيام بعمليةٍ جديدة في هذا الإطار.
خلايا نائمة
بالإضافة إلى خطر الاجتياح، ولّد القصف الجوّي اليومي والمكثف في نوفمبر/تشرين الثاني 2022 لدى المواطنين خوفًا من استيقاظ خلايا تنظيم الدولة الإسلامية (داعش) النائمة. وتقول روكسِن محمد، المتحدثة الرسمية باسم وحدات حماية المرأة: “يستفيد تنظيم الدولة الإسلامية من الهجمات التي تشنّها تركيا؛ حيث تنتظر الخلايا النائمة فرصةً مواتية لتتمكّن من القيام بخطوتها. على سبيل المثال، تمكّنا مؤخّرًا من إيقاف خليةٍ بالقرب من تل حميس، كانت تستعد لشنّ هجومٍ على المخيّمات. كان أعضاؤها يحملون أسلحةً وأغراضًا لوجستية لازمة للهجوم. تلك التوقيفات تدل على أن هجومًا جديدًا من تركيا أو من خليةٍ نائمةٍ أخرى كافيًا لتعاود تلك الخلايا نشاطها”.
ويتركّز نشاط الخلايا النائمة بشكلٍ أساسي في الجزء الشرقي من منطقة دير الزور، على امتداد الحدود السورية التركية. وفي آخر شهر ديسمبر /كانون الأول 2022، أوقفت وحدات مكافحة الإرهاب ثلاثة أشخاص متّهمين بانتمائهم إلى تنظيم داعش، ونجا مدير مستشفى بدير الزور من محاولة اغتيال. وفي 26 ديسمبر/كانون الأول، فقد أحد عناصر أمن الإدارة الذاتية حياته بالقرب من دير الزور، بعد هجوم على مقر أمني داخلي. كما نُفِّذ في نفس اليوم هجوم آخر في الرقّة، استهدف مركزًا أمنيًا داخليًّا بالقرب من سجنٍ يضم حوالي 900 عنصر من داعش. وقد قُتِل منهم اثنان، بالإضافة إلى عنصرين من قوات سوريا الديمقراطية وأربعة عناصر من قوات الأمن الداخلي. وقد فُرِض حظر تجوّل شامل على مدينة الرقة وأغلِقَت الطرق المحيطة لعدة أيام في أعقاب الهجوم. يقول أحد سكان دير الزور: “أشعر بقلقٍ شديد، فنحن نجهل متى أو كيف ستشنّ الخلايا هجومها”.
بالإضافة إلى كونها كارثةً إنسانية، قد يؤدّي غزوٍ عسكري تركي جديد إلى زعزعة استقرار الهياكل السياسية والعسكرية المحلّية، والتي لعبت كعضوٍ في التحالف الدولي دورًا أساسيًّا في هزيمة تنظيم الدولة الإسلامية. وتؤكّد قوات سوريا الديمقراطية على العلاقة بين الأعمال الإرهابية التي وقعت في شمال شرق سوريا والميليشيات الموالية لتركيا التي تسيطر على الأراضي المحتلّة. علاوةً على ذلك، يتعرّض السكّان المحلّيون للسلب والاعتقالاتٍ التعسُّفية والتعذيب”.
(*) النص كاملاً على موقع “أوريان 21“.