ماذا تكتب يا حنّا؟

لم يشتهر إنسانٌ في التاريخ كالعالِم الألماني ألبرت أينشتاين. فلقد حقّق شهرةً استثنائيّة، علماً أنّ غالبيّة البشر لم يعرفوا مَن يكون، ولم يفقهوا طبيعة عمله ونظريّاته. بخاصّة، نظريّة "النسبيّة". بعد وصول هتلر إلى السلطة، فرّ أينشتاين إلى أميركا. فاستقبله الأميركيّون كفنّانٍ كبير. عندها قال جملته الشهيرة: "هؤلاء إمّا أنّهم مجانين، أو يعتقدون أنّ النسبيّة حفلة موسيقيّة".

عندما كان في الـ 16 من عمره، طرح ألبرت أينشتاين على نفسه السؤال الذي سيُهيمن على تفكيره خلال السنوات العشر القادمة. وسيشكّل نقطة تحوّلٍ في حياته وحياة البشريّة جمعاء. سؤاله كان: “كيف سيبدو شعاع الضوء إذا كان بإمكانك الركض بجانبه؟ فإذا كان الضوء عبارة عن موجة، فيجب أن يظهر شعاع الضوء ثابتاً مثل موجة مجمّدة”. لم يكن أينشتاين يتوقّع أنّ هذا السؤال، الذي لمع في رأسه عام 1911، سيقوده إلى وضع نظريّته الأشهر :”النسبيّة العامّة”. لن ندخل، بالطبع، في معادلات تلك النظريّة التي أدخلت على القوانين العلميّة ما أسماه أينشتاين “البُعد الرابع”، أي الزمن.

يشرح عالِمنا الشقّ الأبرز في نظريّته: “الزمن غير محدَّد. ومن ثمّ يصبح المكان كذلك. والحركة. والقانون العامّ. وكلّ الأجسام الكونيّة”. صحيحٌ أنّ “أبو النسبيّة”، كما لُقِّب، قد أشعل ثورة حقيقيّة في علم الفيزياء. وكسر كلّ الثوابت التي أسّسها الأب الأوّل نيوتن. وغيّرت رؤاه من إدراكنا، للزمان والمكان. وأفضت أبحاثه إلى أبحاثٍ جديدة في الطاقة والإشعاع والضوء والحركة والمجسّمات. وخرجت بمفاهيم جديدة. مثل تمدّد الزمن. والثقوب السوداء. والأمواج الجاذبيّة. مفاهيم نعيش اليوم تطبيقاتِها في التكنولوجيا النوويّة وغيرها. لكنّ “جوهرة تاج” نظريّة النسبيّة، هي كشفها وَهْم الثبات في الحياة.

بحيث لم يعـد ثابتاً ومؤكَّداً إلاّ الموت وفكرة “النسبيّة” ذاتها. إذْ أنّ كلّ شيء، بحسب عالِمنا الكبير، يتغيّر. وكلّ تغيُّرٍ هو نسبي. بل، كلّ شيءٍ بات نسبيّاً. تجاوزت نظريّة أينشتاين حدود الفيزياء بكثير. واستحالت إلى فلسفةٍ ووجهة نظر. فلقد أضحت “النسبيّة” مفهوماً ينسحب على الأفكار والمواقف والاعتقادات والمشاعر والحقوق والواجبات و.. كلّ شيء تقريباً. فأخلاق الناس صارت نسبيّة. وأفكارنا الخاصّة نسبيّة. ومشاعر البشر نسبيّة. وثقافة الشعوب نسبيّة. وعدالة القوانين نسبيّة. والمواقف التي نتبنّاها نسبيّة. والكرامة والذلّ والذكاء والغباء والكذب والحقيقة والمصداقيّة والخيانة والمقاومة والظلم و… جميعها “مصطلحات” تعتمد على فهمنا وتقييمنا “النسبي” لها. ورأينا بها. وتأثيرها علينا. وقدرتنا على تحمّلها. ووجودنا في موقف الفاعل أو المراقب لها.. وكلّها مفاهيم ماذا؟ نعم، مفاهيم وأمور نسبيّة. تماماً، كما تتأثّر سرعة نجم. أو كتلة هوائيّة. أو حجم الأجسام، بموقع المراقب وحركته في نظريّة أينشتاين الشهيرة.

لقد ترك التاريخ عظاتٍ وعبراً لدى اللبنانيّين. وكرّر نفسه كثيراً، أيضاً. لكنّ هذا الشعب لم يتعلّم منه شيئاً. وكأنّ الحريّة، كحياة وفكرة، غريبة عليه. وكأنّ التمرّد والثورة، كحياةٍ وفكرة، صعبة عليه. هل وصلنا إلى نقطة الّلاعودة؟ “نقطة الّلاعودة”. كم هو توصيفٌ صادم! كم أنّها جملة موحشة!

في الحقيقة، ارتحتُ “نسبيّاً” عندما فكّرتُ بأفكار أينشتاين. إذْ وجدتُ تفسيراً لأمورٍ كثيرة يُعذّبني مجرّد التفكير فيها. أمور، تحدث في لبنان ومع اللبنانيّين لا أستطيع أن أفهمها. أو أن أبرّر أسباب حصولها. فكنتُ واثقة أنّنا، كشعب لم يتعلّم حرفاً من أطروحاتٍ كُتِبَت بالدماء والنار والدموع، قد فقدنا من كرامتنا وتضامننا الإنساني وإحساسنا بإنسانيّتنا الشيء الكثير. حتّى أنّنا أصبحنا نتعوّد على الإذلال المحيط بنا. لنا ولغيرنا. وصرنا نقبل ونتقبّل، شتّى صنوف العنف والتعامل غير الإنساني الذي نُعامَل نحن به. أو يُعامَل غيرنا به. على مرأى منّا في حياتنا اليوميّة. أو حين نقرأ عنه. أو نراه على شاشات التلفزيون. صرنا نعتبر تعذيب السجين أثناء التحقيق معه، أو موت المريض على باب المستشفى، أو تنقيب الطفل عن كسرة خبز في أكوام النفايات، أو ركل الجندي بأقدام أزعر، أو… أو…، كلّها أمور عاديّة ومفروغ منها. تحصل أينما كان. ومع كثيرين غيرنا. صارت قدرة هذه الأمور على التأثير فينا، مسألة نسبيّة. لا تؤدّي إلى التناقض فحسب، بل إلى استنتاجاتٍ أخلاقيّة كريهة للغاية. لا تفعل سوى توفير الأعذار لأيّ سلوكيّات على هذه الشاكلة!

حين سُئِل الكاتب والأديب المصري يوسف إدريس: “متى تثور؟”، أجاب قائلاً: “أنا أثور على المستوى الشخصي، عندما أشعر أنّ كبريائي خُدِشَت أو جُرِحَت عن عمد”. يا إلهي..! على تكسُّر الخدوش على الخدوش. وتكسُّر الجراح على الجراح، في كبرياء الشعب اللبناني! فلقد أضحت الإهانة وضعيّة عاديّة لا يتنبّه هذا الشعب لوجودها. وإنْ تجاوز منسوبها “الحدّ المُعْتاد”! فحتّى قياس منسوب الحدّ، وما إذا كان عالياً أو منخفضاً، هو أمر نسبي لدى هذا الإنسان اللبناني وذاك الإنسان اللبناني. أَوَلَم يُعيّروننا، بأنّنا ثرنا في 17 أكتوبر 2019 رفضاً لزيادة بضع سنتيمات في تعرفة الـ WhatsApp، ونمنا في الكهف بينما الدولار الأميركي يناطح السحاب؟ بلى عيّرونا. تستمرّ، يا أصدقاء، عمليّة إذلال وتدجين اللبنانيّين. خُلِقَت عندهم حالة من التعوّد. أضعفت قدرتهم على الإحساس بالنيْل من كرامتهم. فاستبدَّ تقبُّل الإهانة بعقولهم. وعشَّش في سُوَيْداء أرواحهم. وبعد؟

إقرأ على موقع 180  معادلة "ف ـ ا ـ س" بديلاً للسين سين

تمرّ أيّام حنظليّة عليهم، مع اشتداد حصار عصابات الحُكم ومافياته للبنان. فهذا الحصار، وفضلاً عن استمرار بقاء كلّ “مسؤولي” الدولة في مواقعهم، هو أبرز معالم العدوان علينا. ويتعامل المواطن اللبناني مع الحصار، من موقع المهزوم. من موقع مَن يردّ على الإذلال والطغيان والإملاءات، بواقعيّة. من موقع مَن يتظاهر بالنقمة ويحترف التظلّم. ليس هذا خطأً أو سوء تصرّف. إنّه نهج لا ردّة فعل. إنّه وعي وليس سلوكاً طارئاً. إنّه ثقافة وليس انحرافاً بسيطاً في المسار. إنّه نظرة إلى النفس تستدعي قلّة الاحترام من الآخرين. ما يحصل مع هذا الشعب وما سيحصل معه في الآتي من الأيّام، أيضاً، هو تعبيرٌ عن اتجاه “أصيل” في تاريخ لبنان وسيرة شعبه.

فالقسمة العاموديّة غدت واضحة وحادّة في بلادنا. زمرة قاتلة وشعب مقتول. لا توجد منطقة وسطى بين المنطقتيْن. ومع ذلك، تبقى عقليّة “نسبيّة الذلّ والإهانة”، هي المتحكّمة اليوم بإدارة موقف اللبناني من الحصار المستمرّ لطغمة حُكّامه. وهو موقفٌ، للإشارة، يتميّز بالميل إلى استجداء الحقوق. وهو تأقلمٌ مقيت، مع إجرامٍ بات مطلقاً لا نسبيّاً. لقد ترك التاريخ عظاتٍ وعبراً لدى اللبنانيّين. وكرّر نفسه كثيراً، أيضاً. لكنّ هذا الشعب لم يتعلّم منه شيئاً. وكأنّ الحريّة، كحياة وفكرة، غريبة عليه. وكأنّ التمرّد والثورة، كحياةٍ وفكرة، صعبة عليه. هل وصلنا إلى نقطة الّلاعودة؟ “نقطة الّلاعودة”. كم هو توصيفٌ صادم! كم أنّها جملة موحشة! “الّلاعودة”، هي النقطة التي نُساق إليها، في الكثير من الأحيان، رغماً عنّا. نُساق إليها، من دون دافع أو تبرير أو تساؤل أو حتّى البحث عن المسبّب!

كلمة أخيرة. يروي الكاتب السوري حنّا مينه، الآتي: “حين كانت تسألني أمّي، ماذا تكتب يا حنّا؟ كنتُ أكذب عليها وأقول: قصّة القدّيس بولس. فترسم الصليب على صدرها وتقول: يتمجّد اسمه، برافو يا ابني، لا تنسى أن تطلب منه أن يغيّر حالتنا التعيسة. وهكذا كنتُ وأمّي ننشد الشيء نفسه: تغيُّر الحال. لكنّ أمّي كانت تطلبه في السماء، وأنا كنتُ أطلبه في الأرض”. إقتضى التمييز.

Print Friendly, PDF & Email
وفاء أبو شقرا

أستاذة في كلية الإعلام في الجامعة اللبنانية

Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
online free course
إقرأ على موقع 180  مدينة عكا.. هل تعود لبنانية؟