رمى رئيس مجلس النواب اللبناني نبيه بري خلال الأسبوع الماضي قُفاز التحدي السياسي والنيابي في وجه القوى المعارضة له ولحلفائه، وأعلن ان مرشحه لرئاسة الجمهورية هو رئيس تيار المردة سليمان فرنجية. لم تمضِ أيام قليلة حتى لاقاه الأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله بالتأكيد على دعم حزبه لترشيح فرنجية.
لم يكن تبني فرنجية هو المفاجأة لأنه كان معروفاً للقاصي والداني. اللافت للإنتباه هو التوقيت والطريقة والرسائل التي أراد “الثنائي” توجيهها للداخل والخارج. ومن يتابع مواقف بري ونصرالله يدرك جيداً انهما لا يمكن أن يقدما على مثل هذه الخطوة لولا أنهما يتحصنان بأصوات نيابية توفر فرصة وازنة لمرشحهما. ويحتاج المرشح إلى نيل 86 صوتاً مع نصاب لا يقل عن 86 في الدورة الأولى، أما في الدورة الثانية، فيكفيه الحصول على أصوات 65 نائبا من اصل 128 عدد اعضاء المجلس النيابي، ولكن بشرط توافر نصاب أكثرية الثلثين (86 نائباً).
أين هو التحدي؟
لقد دأب رئيس حزب القوات اللبنانية سمير جعجع منذ الجلسة الاولى التي عقدها المجلس النيابي لانتخاب رئيس للجمهورية على القول إن نوابه لن يُعطّلوا النصاب القانوني لاي جلسة نيابية حتى ولو كان من المؤكد ان ينتخب فيها مرشح قوى الثامن من آذار لرئاسة الجمهورية، وعلى مدى 11 جلسة مخصصة لانتخاب الرئيس في الاشهر الخمسة المنصرمة كانت النتائج في كل جلسة هي نفسها تقريباً بالنسبة لمرشح قوى المعارضة النائب ميشال معوض والتي لم تتجاوز 47 صوتا فيما كانت اصوات قوى السلطة (نواب بري وحزب الله وحلفائه) تتشتت بين الاوراق البيضاء، واصوات لمرشحين غير جديين، ليقوم بعدها “الثنائي” مع حلفائه بتطيير النصاب المطلوب لمواصلة الجلسة وهو 86 صوتا.
وفي ظل رفض الحليف المسيحي لحزب الله، أي التيار الوطني الحر بقيادة النائب جبران باسيل، تأييد فرنجية، سارعت قوى المعارضة المسيحية الى الاستفادة من هذا الرفض لتضع موضوع الميثاقية عائقاً امام فرنجية باعتبار انه كيف يمكن انتخاب رئيس مسيحي للبلاد في ظل رفض الكتل المسيحية الاكبر له، وهي كتلة باسيل (21 نائباً) وكتلة جعجع (19 نائباً) وكتلة حزب الكتائب برئاسة النائب سامي الجميل (4 نواب)، وهنا يمتلك بري ورقة قوية بوجه هذا الطرح، فعند انتخابه رئيسا للمجلس النيابي في شهر يونيو/حزيران الماضي، صوّتت هذه الكتل المسيحية ضده، كما انها لم تعط اصواتها لاي شيعي آخر، وبالتالي فان بري حصل على 65 صوتا غالبيتهم من المسلمين الشيعة والسنة والدروز (النواب الشيعة في البرلمان وعددهم 27 نائبا هم أعضاء في كتلتي حزب الله وحركة امل ما عدا جميل السيد). وعندما اجرى رئيس الجهورية ميشال عون الاستشارات النيابية الملزمة لتكليف رئيس الحكومة لم تعطِ الكتل المسيحية المذكورة أصواتها لنجيب ميقاتي كما لم تعط صوتها لأي مرشح سني آخر. اذ هل يعقل ان النواب المسيحيين المعارضين لبري لم يجدوا شيعيا واحدا يصلح لأن يكون رئيسا للمجلس النيابي ولم يجدوا شخصية سنية واحدة تصلح لأن يتبنوا ترشيحها لرئاسة الحكومة؟ واين الميثاقية في الامر؟ واين الحرص على العيش المشترك بين المسلمين والمسيحيين؟
بات واضحاً أن تحالف أمل حزب الله استطاع ان يُحيّد القوى المعارضة لمرشحه فرنجية محلياً، وبات عليه الآن معالجة المعارضة الخارجية. وهنا بيت القصيد، فاعلان بري ترافق خارجياً مع بداية تقارب سعودي سوري بعد التقارب الإماراتي والعُماني مع دمشق، وكما هو معروف فان فرنجية حليف موثوق لبشار الاسد، فهل سيكون انتخاب فرنجية باكورة التقارب السعودي ـ السوري؟
امام هذا الواقع بدت الكتل المسيحية في موقفها هذا وعلى الرغم من التعارض الاستراتيجي بين مكوناتها كمن حفر حفرة لاخيه وهو يقع فيها الان، فكما تراني يا جميل اراك، اذ ما حلّلته هذه القوى لنفسها لا يمكنها ان تحرمه على غيرها. من هنا كان تصريح النائب علي حسن خليل، المعاون السياسي للرئيس بري، بان تحالف قوى الثامن من اذار سينتخب رئيس الجمهورية بـ 65 صوتا بمعزل عن عدد النواب المسيحيين الذين سيقترعون له، اي بمعزل عن مواقف غالبية القوى المسيحية في البرلمان. وبين تصريح خليل واعلان بري ترشيح فرنجية ومن ثم تأكيد نصرالله دعمه لهذا الترشيح، مرّر رئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي (حليف بري) في مقابلة تلفزيونية نتيجة احصائية تظهر ان عدد المسيحيين في البلاد يبلغ 19.4 في المئة من اجمالي اللبنانيين، وهي رسالة شديدة اللهجة للقوى السياسية المسيحية، وتحمل في طياتها الكثير من الكلام غير المباح. وجاء توضيح بعض القوى المسيحية أسوأ مما قاله ميقاتي عندما ردّت بأن عدد المسيحيين يصل إلى حوالي 33 %!
رُبّ قائل إن سمير جعجع كان اول من استشعر ان بري يقترب من الحصول على 65 صوتا مؤيدا لفرنجية، فسارع عبر جريدة “الشرق الأوسط” الى التراجع عن موقفه في تأمين النصاب حتى لو كان ذلك سيؤدي الى نجاح مرشح قوى الثامن من آذار. وقد كان لافتاً للإنتباه تصريح نائب رئيس المجلس النيابي الياس ابو صعب بعد عودته من زيارة رسمية الى الولايات المتحدة الأميركية، وقال فيه انه اذا توقف انتخاب فرنجية على نائب واحد فانه سيعطي صوته لفرنجية، وهذا موقف يتعارض مع موقف الكتلة النيابية التي ينتمي اليها، أي كتلة التيار الوطني الحر بقيادة باسيل الذي قالها مرارا وتكرارا انه لن يعطي اصواته لفرنجية.
هذا السيناريو يضع القوى المسيحية المعارضة أمام مأزق جدي، فمرشحها ميشال معوض استنفذ كل محاولات رفع رصيده، وليس بيد هذه القوى على ما يبدو خطة “باء”، أما “الثنائي الشيعي”، وبعدما إقتحم المشهد بـ”الخطة الف”، فإذا بات يمتلك النصف زائداً واحد لانتخاب فرنجية، وهو أمر يحتاج إلى تدقيق، هل سيؤدي إنتخابه إلى إنتهاء مأزق لبنان السياسي والإقتصادي والمالي والنقدي والإجتماعي؟
هنا يأتي دور الخارج، فمن الواضح ان لبنان بات في وضع لا يمكنه النهوض من أزمته البنيوية من دون مساعدة خارجية، والخارج ليس جمعية خيرية بالطبع وله شروطه التي تبدأ بمن سيتولى رئاسة الحكومة والقوى التي ستتشكل منها الحكومة وحجم كل قوة وبرنامج عمل الحكومة بدءاً من موضوع سلاح حزب الله وانتهاء بالاصلاحات المالية والاقتصادية المطلوبة. هذا داخلياً، اما المطلوب خارجياً، فهو أمر آخر.
ولا شك أن “ثنائي حزب الله ـ أمل” لديه تجربة كبيرة في اللعبة الداخلية يستطيع معها التأقلم مع ما تتطلبه أي تسوية لكنه يعرف أن العقدة هي في تعامل القوى الخارجية وتأثيرها الكبير على الوضع الداخلي من خلال قوى لبنانية وازنة ومن خلال تجارب رؤساء الجمهورية في العقدين الماضيين، وبالتالي، أي رئيس جمهورية محسوب على قوى الثامن من اذار ستتم عرقلة عهده من قوى الرابع عشر من آذار واي رئيس من قوى الرابع عشر من اذار ستتم عرقلة عهده من قوى الثامن من اذار، وللتأكيد على هذا الامر فان الرئيس ميشال عون لم يشهد تجربة حكومية مكتملة سوى على مدى عامين ونصف العام من عهده الممتد ست سنوات.
من خلال كل ما سبق، بات واضحاً أن تحالف أمل حزب الله استطاع خلال فترة الاشهر الخمسة المنصرمة ان يُحيّد القوى المعارضة لمرشحه محلياً، وبات عليه الآن معالجة المعارضة الخارجية. وهنا بيت القصيد، فاعلان بري ترافق خارجياً مع ملامح بداية تقارب سعودي سوري بعد التقارب الإماراتي والعُماني مع الحكومة السورية، وكما هو معروف فان فرنجية حليف موثوق للرئيس السوري بشار الاسد، فهل سيكون انتخاب فرنجية باكورة التقارب السعودي ـ السوري؟
بطبيعة الحال، لن تعطي السعودية بركتها لفرنجية من دون مقابل والمقابل الذي تطلبه هو أولاً وقبل كل شيء في اليمن، حيث تتهم حزب الله بلعب دور داعم للحوثيين، فهل حزب الله ومن خلفه إيران باتوا جاهزين لدفع الثمن الذي تطلبه السعودية في اليمن؟
إن الحراك السياسي المعلن بين السعودية وايران والاخيرة مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية يوحي بأن الأمور ما تزال في بداياتها والطريق طويلة وشائكة لمعالجة كل الأمور، من هنا فإن تسويق فرنجية خارجياً لن يكون بالسرعة التي حصل فيها تسويقه داخلياً، وبالتالي فإن رحلة معاناة الشعب اللبناني ما يزال أمامها نفق طويل ومظلم.