كيليتشدار أوغلو رجل الخيبات.. هل يفعلها ويهزم إردوغان؟

كمال كيليتشدار أوغلو. الثاني دائماً في مسيرته الحزبية والسياسية، لكنه اليوم أمام مفترق خطير. صحيح أنه قد يُثبّته في هذه المرتبة إلى الأبد، كعلامة نحس أزلية، لكن ربما تضرب حظوظه برغم الوقت الضيق أمام منافسه رجب طيب إردوغان الذي يقاتل في معركة هي الأهم مقارنة بما سبق أن واجه من معارك.

بات رجب طيب إردوغان على مسافة خطوة واحدة من أن يكون الرجل الأهم في تاريخ بلاده الحديث. تبقى أمامه معارك قليلة، كالفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، ليحجز بذلك صورة استثنائية لنفسه في كتاب “تاريخ تركيا”. ثمّة من يرى أنّه تخطى مصطفى كمال “أتاتورك” بالأهمية والأثر، فيما يُكابر آخرون على هذه “الحقيقة”، ويرون أن هناك رجلاً واحداً فريداً يمكنه الحفاظ على مكانة وصدارة أتاتورك في ذلك الكتاب. ليس هذا الرجل سوى كمال كيليتشدار أوغلو، رئيس حزب “الشعب الجمهوري” المعارض.

لم يعنِ ترؤس كيليتشدار أوغلو المركز الأوّل في الحزب اليوم تبوّؤه الصدارة في أي تنافس آخر، إذ حلّ ثانياً في كل ما تبقى. هو الزعيم الدائم لأكبر جهة معارضة والمنتقد الدائم لإردوغان، وهو الرئيس الثاني في الأهمية في تاريخ حزبه بعد زعيمه على مدار نحو 15 عاماً، رئيس الوزراء ووزير الخارجية الأسبق دنيز بايكال. كما أنّه كمالي المشرب والهوى، ورأى في مصطفى كمال زعيماً علمانياً فقط، وليس قومياً بالقدر الكافي.

***

ليست “الكمالية” سوى توليفة للأفكار “الحداثية” التي كانت قائمة قبل تأسيس الجمهورية عام 1923. في ذلك الحين، تمحورت تلك الأفكار المنتشرة في الفضاء التركي العام حول العلمانية بعدما حملتها البرجوازية المدينية في وجه سطوة المؤسسات الدينية في السلطنة العثمانية، كما تمحورت حول القومية التي حملتها رياح الأفكار الأوروبية ومفكريها الأتراك أمثال ضياء غوكالب.

ارتكزت التوليفة الكمالية (أو الأتاتوركية) على هاتين الفكرتين، وشقّت طريقها نحو أفكار الشعب التركي في الزمن الحالي، بعدما جسّدها مصطفى كمال نفسه في السلطة، ومن ثم الذين عملوا للحفاظ على إرثه. لم يعنِ ذلك أن كل الأحزاب والشخصيات التركية حملت كامل الإرث الكمالي، إنما اقتسمت إرثه الفكري في ما بينها. فمنهم من تطرّف بقوميته وأهمل العلمانية، ومنهم من حافظ على توازن دقيق بين الفكرتين، بينما كان كيليتشدار أوغلو ممن تطرّفوا في علمانيتهم على حساب الفكر القومي.

***

هدفُ رئيس حزب الشعب الجمهوري المركزي والملحّ الآن يتركز على منع الرئيس الحالي من الفوز في الانتخابات الرئاسية المقبلة، حتى إن اضطر إلى التعاون مع خصوم الأمس، أو المختلفين معه أيديولوجياً أو سياسياً. فخسارته الانتخابية ستعني نهايته سياسياً، فيما سيكون النصر باباً يفتح أمامه أفق ردِّ الجمهورية التركية إلى هويتها الكمالية. يحمل الرجل خطتين: الأولى، جمع قوى المعارضة كلّها لمنازلة إردوغان وهزيمته؛ الثانية، تقتصر على طرح نفسه مرشحاً رئاسياً..

***

منذ ولادته عام 1948، عانى كيليتشدار أوغلو من تبعات الشؤون السياسية، فتنقّل مع والده نازحَين من قرية إلى أخرى، ومن مدينة إلى أخرى، بسبب تداعيات أحداث ثورة درسيم (تونجلي) التي وقعت عام 1937. ففي تلك الولاية، قادت الطائفة العلاهية التي ينتمي إليها كيليتشدار أوغلو ثورة ضد حكم مصطفى كمال الساعي إلى تذويب قهري للهويات الدينية والطائفية والقومية في هوية واحدة.

رفض باني الجمهورية أن تتمرد ولاية وبضع مدن عليه، فاستخدم فوّهات المدافع وبنادق عسكره لتدمير الولاية ومدنها. بعد هدوء رياح الثورة، راح الحكم الكمالي يمارس أنواعاً شتّى من التدابير بحق سكانها العلاهيين، وأبرزها التهجير القسري، كما وقع مع كيليتشدار أوغلو وأبيه.

بعد خيبة الترحال جاءت فرص مهمة للشاب الصغير، تمحورت حول التعليم. فتنقّل من مدرسة إلى أخرى حتى حط رحاله في جامعة “غازي” المرموقة في أنقرة ليتخصص في شؤون الاقتصاد والإدارة والمالية.

لم يورثه والده سوى بعض النصائح حول التجارة وأهمية العِلم، وبعض الممارسات المرتبطة بثقافة العلاهيين القائمة على تقديس الإمام علي، والممزوجة بمفاهيم خاصة بالطريقة الصوفية البكتاشية، وكذلك رفض التمييز بين طائفة وأخرى.

***

في الجامعة، لم ينتسب كيليتشدار أوغلو إلى حزب أو يلتزم بعقيدة، إنما راح يهتم بالأفكار العلمانية التي غزت تركيا في سبعينيات القرن الماضي. ولكونه علاهياً ومن أقلية دينية، لاقت الأفكار العلمانية صدى في قلبه، فدوام علمانية الحكم يعني تأمين التساوي بين أبناء مذهبه والأكثرية السنّية التركية. وتماماً كما الحال عند معظم الأقليات الدينية في الشرق الأوسط، كانت الفكرة العلمانية في عمقها أداة طائفية مستترة لمقارعة الأكثرية المختلفة في الدين والإيمان والتساوي معها.

لم يبتعد كيليتشدار أوغلو كثيراً عن نصائح والده غير المهتم بالأحزاب والقضايا الكبرى، فأهمل منذ تخرجه عام 1971 عالم السياسة، واختار طريق الوظيفة الرسمية وتسلُّق السلّم خطوة خطوة: من محاسب صغير في وزارة المالية، إلى مشارك في بعض الدورات التخصصية المرتبطة بعالم المال، وصولاً إلى رئاسة مديرية العائدات في الوزارة، إلى أن صار رئيساً لمؤسسة الضمان الاجتماعي.

شيئاً فشيئاً توسعت شبكة علاقاته وتنوّعت وكبُرت معرفته في الإدارة التركية وبنيانها الداخلي وشبكات المصالح فيها. ومع تحقيق أهدافه الوظيفية والتمتع بمستوى مقبول من الرفاهية المادية، ما عادت الوظيفة و”خدمة الدولة” كما كان يقول مصطفى كمال تعنيان لكيليتشدار أوغلو كثيراً. بل راح بطريقة ماكرة “يحارب” السلطة التي تريد تغيير هوية الدولة عبر تنظيمه سلسلة من الإضرابات والاعتصامات لموظفي الدولة استمرت أشهراً طويلة.

حدث ذلك في العامين 1996 و1997 خلال حكم “أبو الإسلام السياسي” نجم الدين أربكان المتربع على رئاسة الحكومة التركية، ومحاولته “أسلمة” الدولة، فكان أن انتفض كيليتشدار أوغلو على “الإسلام السياسي” ودافع عن العلمانية، باستخدام المطالب الوظيفية ونضال نقابات موظفي الدولة سلاحاً ضد الحكم.

مع نجاح إضراباته في إضعاف أربكان، ثم انقضاض الجيش التركي على حكم رئيس الحكومة بالقوّة، تخلى كيليتشدار أوغلو عن الوظيفة العامة ودخل عالم السياسة لينتسب عام 1999 إلى الحزب “الديموقراطي اليساري”، بعدما قطع رئيسه ورئيس الحكومة الذي خلِف أربكان، بولنت أجاويد، وعداً له بتبني ترشيحه في الانتخابات النيابية. انتهت هذه الفرصة السياسية بخيبة جديدة، إذ عجز كيليتشدار أوغلو عن الترشح بعد رفض معظم أعضاء الحزب له ولترشيحه، برغم تأييد أجاويد المولع بنضال القوى النقابية والحركات العمالية.

***

مع إغلاق باب تجربة ترشحه للبرلمان عبر “الديموقراطي اليساري”، لاحت لكيليتشدار أوغلو فرصة جديدة على شكل دعوة شخصية وجهها دينيز بايكال إليه للانضمام إلى صفوف “الشعب الجمهوري”. في بداية الألفية، كان “الديموقراطي اليساري” و”الشعب الجمهوري” على تناقض كبير برغم تقاربهما الأيديولوجي. يعود ذلك إلى أن الحزبين “المَرضي” عنهما من الجيش والدولة العميقة يتنافسان على الجمهور نفسه، ويهدفان إلى الحكم والبقاء فيه.

أما كيليتشدار أوغلو، فلبّى دعوة بايكال إلى “الشعب الجمهوري” الذي سيرأسه لاحقاً، وهو الحزب الذي يقدّم نفسه كحامي إرث الجمهورية العلمانية، ويدّعي استكمال أعمال مصطفى كمال، أي الرجل الذي دمّر ولاية درسيم وهجّر والد كيليتشدار أوغلو إلى مدن الأناضول الكبيرة وقراها الكثيرة!

إقرأ على موقع 180  مصارف لبنان: نحن الأقوى.. بلطوا البحر!

***

مع حزبه الجديد، بات كيليتشدار أوغلو عضواً في البرلمان عام 2002، ثم فاز في الانتخابات البرلمانية مجدداً بعد خمس سنوات، وترأس كتلة الحزب النيابية. لكنه بقي في المعارضة لأن “العدالة والتنمية” الذي يرأسه إردوغان كان في تلك المرحلة قد تسيّد على الحكم وفي صعود شعبي كبير ومستمر.

خلال تلك السنوات، بدأ كيليتشدار أوغلو حربه على إردوغان وحزبه، وبات محط اهتمام إعلامي كبير لأنه عمل على كشف عدد من قضايا الفساد المرتبطة بالحزب الحاكم ونوابه ومسؤوليه. شهرته الحقيقية كانت نهاية 2008 بفضل جدال تلفزيوني مباشر خاضه مع نائبي رئيس الحزب الحاكم شابان ديشلي ودنغير فيرات في قضايا فساد عرضها بالوثائق والمعلومات، ما أدى إلى استقالتهما من منصبهما خلال أيام.

***

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يتحضر كيليتشدار أوغلو ليضرب ضربته الأخيرة. عمل الرجل حتى الآن على محاولة جمع أحزاب المعارضة كلها في لقاءات متتالية لتتوحّد وتُنازِل إردوغان وحزبه انتخابياً. لاح بريق أمل في أن اتفاقاً أولياً قد تم التوصل إليه بين أحزاب المعارضة، لكن سرعان ما ظهرت الخلافات في ما بينها إلى العلن

كيليتشدار أوغلو العلماني العقيدة، والعلاهي الهوية، والمعارِض في السياسة، بات تلقائياً على نقيض إردوغان وحزبه وما يمثلانه. فبالنسبة إليه هؤلاء شوّهوا الهوية الأصلية للجمهورية التركية، وحطموا ما أنجزه أتاتورك، وصغّروا إرثه التاريخي، وكثفوا العنصر الديني السنّي في المجتمع والدولة والنظام السياسي والإعلام والتربية.. وهو يريد إعادة الساعة إلى الوراء ورد الجمهورية إلى أصلها الكمالي والعلماني ووجهها الغربي.

فرصة الشهرة الإعلامية والسياسية التي أمنتها الفضائح المالية لمسؤولي الحزب الحاكم تلتها خيبة جديدة تمحورت هذه المرة حول هزيمة كيليتشدار أوغلو في انتخابات بلدية إسطنبول التي ترشح لها عام 2009 محققاً رقماً متواضعاً أمام مرشح الحزب الحاكم.

لم تطل الخيبة كثيراً، فبعد الانتخابات بأشهر قليلة ظهرت في الإعلام التركي فضيحة جنسية طاولت رئيس “الشعب الجمهوري”، بايكال، الأمر الذي أجبره على الاستقالة من رئاسة الحزب وعالم السياسة. في تلك المرحلة، لاحت فرصة أساسية أمام كيليتشدار أوغلو، فاستفاد كثعلب ماكر من حالة الانقسامات والفوضى في صفوف الحزب المعارض، ثم من التسوية الداخلية التي انتهت بانتخابه رئيساً للحزب، وهو المنصب الذي لا يزال يرأسه حتى اليوم.

***

منذ الانقلاب العسكري عام 1980، وحلّ الأحزاب لسنوات ثلاث ثم عودتها من جديد، بات “الشعب الجمهوري” مؤلفاً من أربعة تيارات أو شبكات مصالح مختلفة تحتم على من يريد ترؤس الحزب أن يجد توليفة متينة تؤمن تعايش التيارات المختلفة: تيار علاهي متطرف علمانياً، تيار نقابي يساري الهوى، تيار مرتبط بشكل أو بآخر بالمتقاعدين من المؤسسات العسكرية والأمنية، تيار شبابي يتماهى مع أفكار أتاتورك “الدولتية” القائمة على تعزيز مكانة القطاع العام وتحديثه.

عملياً يمثل كيليتشدار أوغلو تلك التيارات الأربعة، فهو علاهي وعلماني وذو تجربة في الدولة ومؤمن بمؤسساتها، كما أنه ليس هرماً، وقادر على لجم “شطحات” القياديين السابقين في المؤسسات العسكرية والأمنية.

***

خلال ترؤسه الحزب، زادت شعبية “الشعب الجمهوري” قليلاً، لكنه لم يستطع الانتصار على “العدالة والتنمية”، لا في الانتخابات النيابية ولا الرئاسية، ولا حتى في تعديل الدستور والنظام الرئاسي أو الاستفتاءات الشعبية التي تقام بين مدة وأخرى. جلّ ما فعله كيليتشدار أوغلو أنه خسر في السياسة في مواجهة إردوغان لكنه تربع على منصب “زعيم” المعارضة عقداً وأكثر، وأبقى حزبه في المرتبة الثانية في الشعبية وفي عدد النواب منذ توليه رئاسته حتى اليوم.

يرى كيليتشدار أوغلو أن إردوغان ذهب بعيداً في تغيير هوية الدولة، هوية الشعب وهوية البلاد ككل. لم يؤسلم الدولة فحسب، بل عمل على “خلق جيل تقي” على حد قول إردوغان نفسه عام 2014. كما غيّر وجه البلاد ونقلها للاهتمام بالشرق الأوسط واعتبار نفسها جزءاً منه، بدلاً من أن تسعى لتكون أوروبية أكثر كما أرادها مصطفى كمال.

في النقطة الأخيرة تحديداً، يختلف كيليشتدار أوغلو جذرياً مع غريمه السياسي، إذ يرى أن تركيا يجب أن “تسحب نفسها كطرف من مستنقع الشرق الأوسط ونزاعاته”، وعليها “أن تقدم نفسها كطرف لا يهدف إلا للسلام.. وتعزيز التعاون الحضاري الدائم مع أوروبا”.

***

في قضايا الداخل، لا يرى كيليتشدار أوغلو أن هناك شيئاً مهماً اسمه “المسألة الكردية” لكي تُحل، بل على الدولة أن تستعمل قوتها العسكرية “للقضاء على الأحزاب والمنظمات الإرهابية”. فيما على البرلمان العمل على قوننة بعض الإصلاحات التي تفيد الشعب الكردي و”تؤكد الأخوة بين أبناء البلد الواحد”، كما قال بداية هذا العام.

لا يملك كيليشتدار أوغلو كثيراً من العلاقات السياسية الخارجية المتينة والمستدامة. جلّ ما لديه هو صداقات مع بعض أحزاب أوروبا اليسارية بوصفه رئيساً لحزب يساري ونائب رئيس منظمة “الاشتراكية الدولية” التي تضم أحزاباً يسارية من كل دول العالم. هذه العلاقات لا تكفي لمقارعة إردوغان الذي يملك شبكة ضخمة من الصداقات والمصالح مع حكام الدول الكبرى كروسيا وأميركا وغيرها.

***

مع اقتراب موعد الانتخابات الرئاسية والبرلمانية، يتحضر كيليتشدار أوغلو ليضرب ضربته الأخيرة. عمل الرجل على جمع أحزاب المعارضة كلها في لقاءات متتالية لتتوحّد وتُنازِل إردوغان وحزبه انتخابياً، وكان له ما أراد بتبنيه رسمياً أمس (الإثنين) من أحزاب المعارضة التركية. قبل ذلك، أعلن كيليتشدار أوغلو: “أنا مستعد لخوض الانتخابات الرئاسية في حال حصول توافق على اسمي”، علما أنه أطلق برنامجاً سياسياً بعنوان “نحو القرن الثاني”، يتضمن رؤيته ورؤية حزبه السياسية والاقتصادية والثقافية والاجتماعية والتربوية التي يريد تنفيذها في المستقبل القريب عند الوصول إلى الحكم.. “فرصة العمر”، بعد توحيد قوى المعارضة، لا تعني بالضرورة أنه سيطيح برجل تركيا القوي ويعيد المجد الكمالي المهشَم على يد حزب العدالة والتنمية الذي لا يزال يتمتع بشعبية مهمة برغم تراجعها في الأشهر الماضية.

***

برغم قرار أحزاب المعارضة بدعمه، فإن نتائج مسيرة كيليتشدار أوغلو وتجربته التاريخية والسياسية لا توحي إلا بالخيبات واقتناص الفرص الضائعة. بهذا المعنى، ربما لن تكون الانتخابات المقبلة إلا خيبة جديدة تضاف إلى سجل الرجل المحكوم عليه أن يكون الأخير في كل سباق.

Print Friendly, PDF & Email
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  الشرق الأوسط ما بعد أميركا: حروبنا الآتية (1)