إنتخابات تركيا 2023.. عودة أردوغان أم أتاتورك؟

يميل الأتراك بطبعهم إلى المبالغة. أغلب القضايا يذهبون بها إلى مداها الأقصى، في الحب والضيافة والتاريخ والتصوف والعلمانيّة والعسكرة، والأهم في القوميّة. من يستمع إلى الأتراك وإعلامهم يستشعر بأنّ تركيا ليست محور العالم وشاغله، بل محرّكه أيضًا.

شخصيًا، أستطيع تفهم هذا السلوك، فهؤلاء ورثة إمبراطوريّات عديدة آخرها وأعظمها السلطنة العثمانيّة. من هنا لن تستغرب ما تسمعه من الأتراك حول أهميّة الإنتخابات المقررة في الرابع عشر من أيار/مايو لهذا العام.

من السهولة استعادة بعضٍ من التاريخ القريب، لندرك موقع تركيا الجيوسياسي، تحديدًا محاولة احتواء الإتحاد السوفياتي سابقًا ومحاصرته، وبالتالي إسقاطه. لم يكن دور تركيا هامشيًا، كانت في قلب صناعة التحوّل، مع ما حملته العملية من تحديات كبيرة وصلت إلى عتبة التهديد النووي.

تركيا الجديدة تلعب، اليوم، دورًا فاعلًا، في تحديد موازين القوى العالمية الجديدة. بالأمس كانت ساحة الإحتواء والمحاصرة والتهديد للجار السوفياتي، بينما تكلم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين من كازاخستان في الخريف الماضي عن دور محوري لتركيا في خطوط إمدادات الغاز، أي تحويلها إلى نقطة مركزية لعصب الحياة الروسي..

وتكمن أهميّة الإنتخابات القادمة في أنّها ستُحدّد هويّة تركيا ومسارها، فإمّا تعود إلى المربع الأتاتوركي وإن بزيٍ ومظهرٍ جديد، أو ستُثبِّت الأردوغانيّة أقدامها وتُكمِل مشروعها، مع ما تتطلّبه من براغماتيّة، يُبدع رجب طيب أردوغان في استخدامها وتطويعها.

باختصار، المسألة في جوهرها لم تعد قضيّة صراعٍ على السلطة، بل هي كما يُلخّصها الكاتب والباحث الإستراتيجي التركي كِرِم أوكتِم في مقدمّة كتابه “تركيا الأمّة الغاضبة”، بأنّها صراعات على التاريخ والهويّة، وضد التمييز الممارس ضدّ الفقراء والنساء، وحول الإنضمام إلى أوروبا ومكانة البلاد في العالم، فجذور تلك الصراعات، وأثرها على الشّعب التركي، يمثّل جوهر القِصّة.

الخريطة الداخلية لتركيا

ما من أحدٍ يُشكّك بالنقلة النوعية التي قام بها “حزب العدالة والتنمية”، في موقع تركيا، والحديث هنا ليس عن الظروف والتقييم والأسباب والمآلات، بل عن توصيف الواقع والمتغيرات كما هي. فمنذ وصول “حزب العدالة” إلى السلطة، صُنعت أبرز التحولات: تطورٌ مطّردٌ في الإقتصاد؛ ثقل سياسي في المنطقة والعالم؛ فهمٌ دقيقٌ للجغرافيا والتاريخ؛ خطابٌ قوميٌ يخدم الأهداف الداخلية، وإسلامي يخدم الخطط التوسعيّة في المنطقة، وبراغماتي يخدم العلاقات الدولية. لكن خلف هذه الصورة الوردية تختفي حقيقة يُراد لها أن تبقى في الظل، فقصة النجاح الإقتصادي النسبي “قد حجبها الضعف المؤسسي، وتواتر الأزمات، الصراع الديني، الشّقاق العِرقي ـ القومي، العنف والمناورات السياسية”، كما يقول أوكتِم.

لا مجال للعودة هنا إلى الزمن العثماني، لكن هناك التباس حول الإنقلاب الثقافي والإجتماعي الذي قام به مصطفى كمال أتاتورك، خاصة على صعيد علمنة الدولة. بحسب أوكتِم قدّمت الكماليّة الكثير من الرطانة الكلاميّة عن الأفكار المدنية للهوية التركيّة، غير أنها في الممارسة العمليّة خلقت “جماعاتٍ” من الآخرين الذين حُرِموا من حقوق المواطنة الكاملة، تحديدًا الأكراد والعلويّون والأقليّات غير الإسلاميّة، الذين تعرّضوا للتهميش بطرقٍ مختلفة. لقد جاءت الكماليّة نتيجة فشل آخر محاولات الإمبراطوريّة العثمانيّة تقديم فكرة علمانيّة إدماجيّة للمواطنة، مبنيّة على “اتحاد العناصر العرقيّة”، وقد أصبحت القوميّة التركية ـ الإسلاميّة، خاصّة بعد حروب البلقان (1912 ـ 1914)، والنظرة الداروينيّة لزعماء “جمعيّة الإتحاد والترقي”، هي القواعد التي أرست معالم القوميّة التركيّة عند مطلع القرن العشرين، وبالتالي أسّست للكماليّة.

ما يجب إستخلاصه بعد محاولة الإنقلاب، أنّ قوّة أردوغان تراجعت، ولم يعد بإمكانه الحسم وحيدًا، بل بات رهينة تصويت “حزب الحركة القوميّة”، بل أكثر من ذلك، قرر “حزب العدالة والتنمية” مؤخراً خوض مفاوضات مع عددٍ من الأحزاب الصغيرة وقدّم إليها عروضًا بالإنضمام إلى “تحالف الجمهور”، وخوض الإنتخابات القادمة معًا

لم تسمح المؤسّسة الكمالية بهضم الأكراد والعلويين واستيعابهم في الحياة السياسيّة إلّا في حالة واحدة: إنكار أصولهم العرقيّة والدينيّة. هذه تناقضاتٌ استمرّت وتفاقمت حتى مع وصول “حزب العدالة والتنمية”، فرأس الدولة وزعيم أكبر حزب سياسي، على سبيل المثال، لا يتورّع عن “التشهير” بأصول خصمه العلويّة والتحريض عليه. أمّا خصومه الأكراد، فهو لم يتردّد في زجّ زعيمهم وكلّ من تجرّأ على مواجهته سياسيًا في السجون. ثمة المزيد من التناقضات في بنية المجتمع التركي السياسية والثقافية والدينية والقومية والإجتماعية كاستعار الصراع بين التيار الإسلامي والتيار العلماني؛ التيار الأطلسي والتيار الأوراسي (دوغو بيرينجيكمن من أبرز رموزه في تركيا)، وهذه التناقضات ـ وغيرها ـ ربما تجد في الإنتخابات المقبلة فرصة لحسم بعضها وليس كلها بالضرورة.

تبعات الزلزال

من الصعب فصل تبعات الزلزال التركي الذي وقع في السادس من شباط/فبراير الماضي وارتداداته على البناء السياسي والإجتماعي في تركيا. وللتوضيح أكثر، فإن المنطقة التي ضربها الزلزال مؤخرًا هي ذات غالبيّة علويّة وكرديّة، وكما هو معلوم، فإنّ غرب الأناضول ينتخب بطريقةٍ مُختلفةٍ عن الوسط والشّرق، ومن هنا ينطلق رهان تحالفي “الجمهور” و”الأمّة” في تركيا على تأثير تبعات الزلزال في صناديق الإقتراع. ولعل رهان السّلطة، هو أن يضعف التصويت في تلك المناطق بسبب آثار الزلزال وتشتت الملايين، وانهماك أغلبية المواطنين في أدنى شؤون حياتهم وحاجياتهم من دون إغفال إحتمالات إفتعال أحداث أمنية تكون وظيفتها قطع الطريق على إحتمالات التصويت. أمّا رهان الطرف الآخر، فهو على إستثمار غضب النّاس ومحاولة إفراغه في صناديق الإقتراع ضدّ السلطة القائمة.

إقرأ على موقع 180  "المغامرة" السورية.. حبل نجاة لأردوغان!

وتُشير العديد من المؤشرات إلى صعوبة اللحظة السياسية، فهذه الإنتخابات هي الأصعب والأكثر مصيريّة لـ”حزب العدالة والتنميّة” وزعيمه شخصيًا. ففي العام 2002 خاض “حزب العدالة” الإنتخابات منفردًا، وحَكَمَ منفردًا، لكنّ أثر عبد الله غول على هذا الصعود كان واضحًا بل حاسمًا. في لحظة صعود أردوغان، سخّر الأخطبوط المالي والسياسي والديني والتعليمي كلّ إمكاناته من أجل فوز “العدالة والتنمية”. لاحقًا حصل الخلاف والشقاق، وبلغ ذروته في محاولة الإنقلاب الفاشلة عام 2016. ما يجب إستخلاصه بعد محاولة الإنقلاب، أنّ قوّة أردوغان تراجعت، ولم يعد بإمكانه الحسم وحيدًا، بل بات رهينة تصويت “حزب الحركة القوميّة”، بل أكثر من ذلك، قرر “حزب العدالة والتنمية” مؤخراً خوض مفاوضات مع عددٍ من الأحزاب الصغيرة وقدّم إليها عروضًا بالإنضمام إلى “تحالف الجمهور”، وخوض الإنتخابات القادمة معًا، وذلك نتيجة إدراكه حدّة الإستقطابات وأهميّة الصوت الحاسم.

 هذا في السياسة، أمّا في العسكر، فقد وجد أردوغان في الجناح الأوراسي داخل المؤسّسة العسكريّة ضالته، فدعم وتحالف مع هذا الجناح على حساب الجناح الأطلسي الذي كان ركيزة الجيش التركي منذ الحرب العالمية الثانية، وحتى محاولة الإنقلاب الأخيرة. بقاء أردوغان على رأس السلطة إذًا لم يعد كما ذكرنا سالفًا عبارة عن صراع على السلطة وحسب، بل معركة لتحديد الهوية والتاريخ، إضافةً إلى المستقبل.

 

إسطنبول الذكريات والمدينة

شكّلت إسطنبول تحديدًا نقطة التحوّل في مسيرة رجب طيب أردوغان؛ مسيرة لا يمكن إنكار دور “الأستاذ” نجم الدين أربكان في رسم خيوطها وأهدافها. بدأت القصّة بعد انهيار السلطنة، وانتقال العاصمة من إسطنبول، عاصمة الشرق والغرب، إلى أنقرة. يصف الروائي التركي أورهان باموك واقع المدينة في روايته “إسطنبول الذكريات والمدينة” بعد سقوط السلطنة، فيُشير إلى انحدار موقع هذه المدينة التي كانت إلى زمنٍ طويلٍ أقوى مدن الأرض على الإطلاق. يقول باموك “كانت سوداويّة هذه الحضارة المحتضرة (العثمانيّة) تُحاصرنا. وكلّما عظمت الرّغبة في التغريب والتحديث، كلّما عظمت الأمنية اليائسة في التخلّص من كلّ الذكريات المريرة عن الإمبراطوريّة المنهارة، مثلما يُلقي عاشقٌ مهمومٌ ملابس حبيبته الضّائعة وأشياءها وصورها”.

ما فعله أردوغان، أنّه أعاد لإسطنبول رونقها وسحرها وابتسامتها، وبعضًا من تاريخها ومكانتها، لكنّها في المقابل، كانت الجواد الذي امتطاه أثناء خوضه جميع معاركه السياسيّة. في العام 2019 خسر أردوغان جواده الرّابح، ولم يكتفِ بالخسارة الأولى، بل أكّد خسارته مع فرضه إعادة الإنتخابات. إنه مؤشّرٌ واقعيٌ ودقيقٌ، لكن من يقرأ سيرة الرجل ومن يتتبعها، سيعرف أنّ هذا الرّجل الذي كان يومًا حبيس سجون الدولة الكمالية، خرج منها منتصرًا وأعاد هندسة الدولة على الطريقة الأردوغانية، شخصيّة من الصعب جدًا أن تُهزم، وهزيمته بحدّ ذاتها، لو حصلت، ستكون شرفًا للمنتصر.

Print Friendly, PDF & Email
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  التشبيه وشكل الله.. نقاشٌ لا طائل منه (9)