بعد شهر واحد من زلزال تركيا، دارت عجلة التنافس المحموم على السلطة من جديد، وطبعاً بمقدار أكبر من الانتخابات الماضية. يريد حزب «العدالة والتنمية» ضمان استمرار رئيسه رجب طيب إردوغان في الحكم لولاية أخيرة، فيما يريد أخصامه الذين أسّسوا إئتلافاً من ستة أحزاب معارِضة، ورشّحوا كمال كليجدار أوغلو، إزاحته عن كرسي السلطة.
تتنافس الأحزاب التركية على أصوات نفس الجمهور تقريباً، إذ أن كل حزب يحظى بقاعدة شعبية ثابتة ومؤدلجة يصعب خرقها من القوى المنافِسة. ففي دراسة أجرتها شركة «متروبول» لاستطلاعات الرأي، وجدت الشركة التركية الأشهر أن 7.8 بالمئة فقط من المستطلعين لم يقرروا بعد لمن سيعطون أصواتهم، فيما جلّ هؤلاء هم من النساء.
وتشكّل النساء القوة الانتخابية الأكبر التي تتنافس الأحزاب عليها، وهو الأمر الذي يظهر من خلال الحملات الانتخابية والدعائية الموجّهة إليهنّ. بعد وقوع زلزال السادس من شباط/فبراير، راحت الأحزاب تُقدّم المساعدات الغذائية والصحية إلى المشردين ولا سيما النساء والأطفال، فيما كانت المنظمات النسائية التابعة للأحزاب، وخاصة حزب «العدالة والتنمية» الحاكم وحزب «الشعب الجمهوري» المعارض، من أبرز المنظمات الناشطة وسط المنكوبين والمنكوبات. المنظمة النسائية لحزب “الشعب الجمهوري”، استقدمت من اسطنبول وأنقرة عشرات الباصات المطليّة بالألوان الزهرية وجابت بها المدن والقرى لمساعدة ضحايا الزلزال من النساء «حصراً».
على مقلب السياسة، تجهد وزيرة الأسرة والخدمات الاجتماعية في الحكومة التركية دريا يانيك، في زيارة المدن التركية الواحدة تلو الأخرى لتشرح للجمهور أعمال الحكومة المرتبطة بالمرأة والطفل والعائلة. وكانت الوزيرة وحكومتها قد تعرضتا، خلال الأشهر الماضية، لحملات مباشرة وكثيفة بسبب قرار الحكومة خروج تركيا من «معاهدة اسطنبول» التي أقرها «مجلس أوروبا» عام 2011، والمعنية بـ«منع ومحاربة العنف ضد النساء».
بالإضافة إلى سياسات «العدالة والتنمية» المعنيّة بشؤون المرأة، وميلها، بشكل عام، إلى تطبيق إجراءات وسياسات محافِظة تُخرج المرأة من مجال الشأن العام وتجعلها ربّة منزل فقط، يُشكّل خروج تركيا من «معاهدة اسطنبول» واحدة من أبرز المجالات التي تُعرّض الحزب الحاكم لانتقادات من النساء التركيات.
لإردوغان حركات نسوية تؤيده، وهي مؤلفة، بشكل أساسي، من خريجات مدارس «إمام-خطيب» الدينية التي يناهز عددها الـ 1600 مدرسة في طول البلاد وعرضها. هذه المدارس ساهمت، منذ الثمانينيات الماضية، في تخريج «جيل تقي» على حدّ قول إردوغان نفسه، فأثّرت على المجتمع وهويته
من بابي السياسات المحافظة للحزب الحاكم وخروج تركيا من «معاهدة اسطنبول»، تقوم بعض أحزاب المعارضة بتصويب سهامها على رجب طيب إردوغان. لا تترك رئيسة حزب «الجيد» ميرال أكشنير فرصة إلا وتتكلم في هذا الموضوع، فتعتبر «أنه سيتعوّد على وجود النساء كلاعبات في مجال السياسة»، في إشارة إلى إردوغان الذي غالباً ما يُحفّز النساء على الإنجاب والاهتمام بعائلاتهنّ بشكل أساسي.
وتراهن الحركات النسوية الليبرالية التركية على أكشنير لتحقيق بعض الانجازات لها، إلا أنها لم تستطع حتى الآن أن تصل إلى السلطة أو أن تجعل من حقوق المرأة أولوية في برنامج “إئتلاف الأحزاب الستة” المعارِضة، وذلك بسبب وجود حزب «السعادة» الإسلامي المحافِظ ضمن الإئتلاف، والرافض لكل هذه «المؤامرات والبِدع الغربية».
في المقابل، لإردوغان حركات نسوية تؤيده، وهي مؤلفة، بشكل أساسي، من خريجات مدارس «إمام-خطيب» الدينية التي يناهز عددها الـ 1600 مدرسة في طول البلاد وعرضها. هذه المدارس ساهمت، منذ الثمانينيات الماضية، في تخريج «جيل تقي» على حدّ قول إردوغان نفسه، فأثّرت على المجتمع وهويته، كما على دور المرأة فيه بشكل خاص. ولا تعني السياسات المحافِظة، بأي شكل من الأشكال، أنها تُخسّر الحزب الحاكم جمهوراً من النساء، إنما، في بعض الحالات، تزيد من شعبيته بينهنّ، وذلك لأن قسماً كبيراً منهنّ يناضل من أجل تعزيز حضور الشأن الديني في المجتمع وتخطي العلمانية «الأتاتوركية» في هوية الدولة والشعب على حدٍ سواء.
أما النساء من غير المؤيدات لإردوغان، فتعتبرن أن الحكم قد مارس شتى أنواع القمع بحقهنّ، فأزاحهنّ عن لعب دور مميّز في الحياة العامة، وفرض قوانين وإجراءات حجّمت دورهنّ وربطته بدور الأم والزوجة فقط. يظهر هذا الأمر جلياً في تزايد حالات الاعتداءات على النساء من ناحية، كما في تراجع دورهنّ في مجال العمل من ناحية أخرى، وهو ما يؤكده تقرير حديث صادر عن «اتحاد عمال تركيا» بعنوان «عمالة المرأة 2023»، والذي رأى أن النساء يُشكلن حوالى الربع فقط من مجمل القوى العاملة في تركيا، بينما كانت المرأة تمثل الثلث في العام 2019 على سبيل المثال.
يعرف إردوغان وحزبه أن الانتخابات هذا العام لن تكون نزهة كما كانت في الماضي، إذ أن معظم أحزاب المعارضة ستخوض المواجهة متكاتفة ومتفقة على اسقاطه، كما أن الحالة الاقتصادية في تركيا ليست على أحسن ما يرام، فيما نقمة الشارع في تزايد مستمر. لذلك، لجأ الرجل التركي الأقوى سريعاً إلى «الحزم الاقتصادية»، وهي عبارة عن مساعدات بمليارات الدولارات يقدمها إردوغان، كل فترة وأخرى، للناس، وغالباً قبل كل انتخابات يخوضها. بعض هذه الحُزم تقوم على زيادة الحد الأدنى للأجور، فيما غيرها يقوم على إعفاء الأتراك من بعض الضرائب، أو تقديم مساعدات نقدية (وأحياناً أونصات ذهب) لفئات محددة من الشعب التركي كعناصر الشرطة أو ربات المنازل أو العاملات الاجتماعيات وهنّ بمجملهنّ من النساء.
يبقى أن الانتخابات الرئاسية والنيابية المقبلة ستكون ذات أهمية قصوى لمستقبل تركيا من ناحية، كما لمستقبل إردوغان ذاته من ناحية أخرى. هو يحتاج إلى كل صوت ليضمن البقاء في الحكم لخمس سنوات إضافية وأخيرة، فيكون المتربع على الحكم في الذكرى المئوية الأولى لتأسيس الجمهورية التركية في الخريف المقبل.