وبرغم هذا العدد من الزيارات للرؤساء التايوانيين للولايات المتحدة بما فيها هذا العدد الكبير من الزيارات السابقة لتساى نفسها وهى فى المنصب، إلا أن هذه الزيارة تحديدا تسببت فى أزمة جديدة بين أمريكا والصين هددت فيها الأخيرة الأولى باتخاذ إجراءات مؤلمة متهمة واشنطن بالسعى لاستقلال تايوان عن الصين وهدم مبدأ «صين واحدة» وهى السياسة الثابتة لبكين تجاه تايوان كما أنها مرتكز العلاقات بين بكين وواشنطن!
يمكن فهم حساسية هذه الزيارة ــ التى تظل غير رسمية ويطلق عليها رسميا اسم «ترانزيت» ــ فى ضوء عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين تايوان والولايات المتحدة، واعتبار أن الزيارة هى لغرض العبور فى الطريق إلى دول أخرى فى ظل السياق الدولى المتشنج وتصاعد حدة المواجهات الدبلوماسية بين الصين والولايات المتحدة فى السنوات الأخيرة، وخصوصا بعد الغزو الروسى لأوكرانيا.
كما يمكن فهم هذه الحساسية فى ضوء التاريخ المتوتر بين الصين والولايات المتحدة بسبب تايوان منذ انتهاء الحرب الصينية الأهلية وفرار القوميين المهزومين من الشيوعين إلى الجزيرة الصغيرة وإقامة نظام سياسى مستقل بها!
كما يمكن فهم حدة ردة الفعل الصينى فى ضوء ما تعتبره بكين استفزازات أمريكية متصاعدة باستخدام ورقة تايوان وهو ما تمثل فى الزيارة الشهيرة للرئيسة السابقة لحزب النواب الأمريكى نانسى بيلوسى إلى تايوان فى الصيف الماضى، وهو ما اعتبره عدد من المسئولين الصينيين تهديدا صريحا لسيادة الصين وردت عليه الأخيرة بإجراء مناورات عسكرية بالقرب من تايوان مطلقة عدة صواريخ باليستية مهددة بمزيد من التصعيد! لكن الأهم من كل ذلك أن تلك الحدة الصينية هى أيضا ردة فعل على جدول لقاءات الرئيسة التايوانية المعروفة بمواقفها المنحازة للغرب عموما والولايات المتحدة خصوصا، وكذلك موقفها وموقف حزبها الحاكم للائتلاف الحالى فى البرلمان التايوانى المناهض للحزب الشيوعى الصينى والرافض صراحة للاعتراف بمبدأ «صين واحدة» الذى يمثل مرتكز السياسة الصينية تجاه تايوان!
***
جدول الزيارة للولايات المتحدة وبرغم أنه غير رسمى يشمل محطتين، المحطة الأولى فى نيويورك من ٢٩ وحتى ٣١ مارس/آذار، والمحطة الثانية من ٤ وحتى ٦ إبريل/نيسان فى مدينة لوس أنجلوس، وبين المحطتين تقوم تساى بزيارة هامة إلى كل من جواتيمالا وبليز من أجل دعم العلاقات التايوانية مع كلتا الدولتين، وخاصة مع تراجع عدد الدول التى تقيم علاقات ديبلوماسية رسمية مع تايوان إلى ١٣ دولة فقط بعد قرار كوستاريكا فى ٢٠٠٧، وبنما فى ٢٠١٧، والسلفادور فى ٢٠١٨، ونيكاراجوا فى ٢٠٢١، وأخيرا هندوراس فى مارس/آذار من هذا العام قطع العلاقات الدبلوماسية مع تايبيه إرضاء لبكين التى لا تقبل أن تقوم أى دولة بإقامة علاقات دبلوماسية مع تايبيه وبكين فى نفس الوقت!
تفكر الصين فى ردود أقوى من مجرد الشجب الدبلوماسى لتلك الزيارة ومنها احتمال القيام بمناورات عسكرية جديدة تحاصر تايوان من كل الاتجاهات وبشكل أكبر من تلك التى تمت فى أغسطس/آب الماضى ردا على زيارة بيلوسى! كما أن هناك تكهنات بأن الصين قد تؤجل إعلان سفيرها الجديد لواشنطن
فى محطتها الأولى والتى انتهت يوم الجمعة الماضى قامت تساى بعقد عدد من اللقاءات مع عدد من أبناء الجالية التايوانية بالإضافة إلى عدد من المواطنين الأمريكيين من أصل تايوانى كما حضرت عدة مناسبات غير رسمية، وتسلمت فى إحداها من مؤسسة هادسون ــ إحدى المؤسسات البحثية والسياسية المقربة من دوائر صنع القرار فى واشنطن والمحسوبة على الحزب الجمهورى ــ جائزة القيادة الدولية حضرها بعض المسئولين الأمريكيين وفقا لموقع China Power Project مثل حاكم ولاية نيوجيرسى، فيل ميرفى، ورئيسة المؤسسة الأمريكية فى تايوان (عمليا تعتبر بمثابة السفارة الأمريكية)، لورا روزن بيرجر، والتى تولت منصبها الأسبوع الماضى فقط، بالإضافة إلى بعض نواب برلمان ولايتى نيوجيرسى ونيويورك.
كما كانت الزيارة الأهم بحسب مصدر “إن بى سي” مع زعيم الأقلية الديموقراطية في مجلس النواب حكيم جيفرز! وبرغم أن معظم هذه اللقاءات تتم بعيدا عن الإعلام إلا أنها تثير حفيظة بكين للأسباب السابقة.
لكن يبدو أن غضب الصين الأبرز متمثل فى القلق من المحطة الثانية فى زيارة الرئيسة التايوانية خلال الأيام القليلة القادمة حيث ستقابل رئيس مجلس النواب كيفن مكارثى فى لوس أنجلوس وهى زيارة بديلة لتلك التى كان ينوى مكارثى القيام بها منذ عدة أسابيع إلى بكين، ولكنه قرر تأجيلها لميعاد لاحق لم يعلن عنه بعد!
سبق زيارة تساى للولايات المتحدة اجتماع عقد بين وزير الخارجية التايوانى جوزيف وو ونائب وزير الخارجية الأمريكى وندى شيرمان فى فبراير/شباط الماضى، والذى تلاه اجتماع آخر عقد هذه المرة فى تايبيه بين نائب وزير الدفاع الأمريكى مايكل تشيس وعدد من المسئولين الأمنيين والعسكريين فى تايوان، وهكذا وبرغم عدم وجود علاقات دبلوماسية رسمية بين البلدين منذ عام ١٩٧٩ (العام الذى أعادت فيه واشنطن علاقاتها الدبلوماسية مع بكين)، إلا أن العلاقات بينهما الآن تشهد تطورا غير مسبوق على مستوى الاجتماعات رفيعة المستوى التى أصبحت تتم بانتظام منذ عام ٢٠١٩ بين مسئولى البلدين!
على المستوى السياسى، ما يقلق الصين بشكل أكبر هو توجه الرئيسة تساى تجاه بكين وسياسة الدولة الواحدة! فمنذ اجتماع شبه رسمى عقد بين مسئولين من الطرفين (الصين وتايوان) فى ١٩٩٢ ونتج عنه ما يتم الإشارة إليه بشكل غير رسمى على أنه عودة العلاقات الدبلوماسية بين الطرفين وتسميه الصين باتفاق (الصين الواحدة)، بينما أسماه وقتها الحزب القومى الحاكم «صين واحدة وترجمات مختلفة» أى إنه يوجد اتفاق بين الطرفين على مبدأ الصين الواحدة ولكن هذه الوحدة لها فهمان مختلفان، فإن هذا المبدأ ظل المؤسس للعلاقات بين الطرفين، وفى مقابل ذلك فالرئيسة تساى أعلنت صراحة عدم اعترافها باتفاق ١٩٩٢، معتبرة أن الشعب التايوانى لم يتم استشارته بعد وأنه لا بد من عقد مشاورات موسعة ونقاشات مجتمعية معمقة لمعرفة التوجه الحقيقى للشعب التايوانى تجاه الأمر! كما أن تساى والتى تلقت درجاتها العلمية فى القانون والاقتصاد من الجامعات الغربية تصر على ضرورة استبدال اتفاقية التبادل التجارى القائمة بين بكين وتايبيه، باتفاقية جديدة تسمح لتايوان بتنويع علاقاتها التجارية عالميا وهى كلها توجهات مدعومة رسميا من الحزب الديموقراطى التقدمى الحاكم فى البلاد والتى تنتمى إليه تساى!
***
تفكر الصين فى ردود أقوى من مجرد الشجب الدبلوماسى لتلك الزيارة ومنها احتمال القيام بمناورات عسكرية جديدة تحاصر تايوان من كل الاتجاهات وبشكل أكبر من تلك التى تمت فى أغسطس/آب الماضى ردا على زيارة بيلوسى! كما أن هناك تكهنات بأن الصين قد تؤجل إعلان سفيرها الجديد لواشنطن وهو المنصب الخالى منذ يناير/حزيران الماضى بعدما غادر السفير الصينى السابق لدى واشنطن تشن جانج ليتولى منصب وزير خارجية الصين!
كما تتجاهل الصين حتى الآن طلب بايدن عقد محادثات هاتفية مع الرئيس الصينى شي جين بينج، بل ويطالب البعض فى الصين بمزيد من الإجراءات المؤلمة ردا على الموقف الأمريكى، وبرغم أن المسئولين فى الولايات المتحدة استنكروا ردود الفعل الصينية ووصفوها بالمبالغ فيها كون أن الزيارة هى لغرض «الترانزيت» فى الطريق إلى جواتيمالا وبليز، إلا أن بكين لا ينطلى عليها ذلك لأنها تعلم جيدا أن هذه الزيارة هى أكثر من مجرد «ترانزيت»!
(*) بالتزامن مع “الشروق“