مثّلت الطاقة موضوعاً رئيسياً في محادثات الرئيس الأميركي مع القيادة السعودية، بحسب البيان المشترك السعودي – الأميركي الذي جاء فيه أن الجانبين اتفقا على “التشاور بانتظام في شأن أسواق الطاقة العالمية”، وعلى التعاون بصفتهما شريكين استراتيجيين في مشاريع إمدادات الطاقة على الرغم من أن السعودية امتنعت من الاستجابة للطلب الأميركي برفع إنتاج النفط، وأحالته إلى مجموعة “أوبك+” التي تضمها إلى روسيا، الأمر الذي أثار غضب واشنطن التي اعتبرت أن الرياض تنحاز إلى روسيا في المواجهة الدائرة في أوكرانيا. غير أن ذلك لم يحُل دون تأكيد البيان التزام الجانبين استقرار أسواق النفط العالمية، وأن الولايات المتحدة رحّبت بالتزام السعودية دعم توازن أسواق النفط العالمية من أجل تحقيق النمو الاقتصادي المستدام.
وإذا كان الموضوع الأمني احتل مكاناً بارزاً في محادثات القمة بين الولايات المتحدة ودول مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، إذ شدد البيان المشترك على التزام الولايات المتحدة الأميركية الدفاع عن أمن السعودية والتعهد بمواصلة تسهيل جهود المملكة من أجل الحصول على القدرات اللازمة لتحقيق هذه الغاية، فإن الخطاب الافتتاحي للرئيس الصيني شي جين بينغ في الرياض ركّز على أولوية العلاقات الاقتصادية والسياسية والثقافية، مشدداً على أن حكومته تدعم الجانب العربي في بناء “هيكلية أمنية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة في الشرق الأوسط”. ودعا شي جين بينغ الدول العربية إلى المشاركة في “مبادرة الأمن العالمي” الصينية، وهي رؤية أُطلقت حديثاً للعلاقات الأمنية الدولية تتعارض مع سياسة التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة عبر العالم.
ويبدو أن جدلية التوازن فرضت على البيان المشترك السعودي – الصيني تأكيد عزم البلدين “على تطوير التعاون والتنسيق في المجالات الدفاعية”، وتبادل الخبرات “في مجالات الإنذار الاستخباراتي المبكر” من المخاطر..
الحياد الإيجابي الصيني
وكان اللافت للانتباه التقاطع بين المواقف الأميركية والصينية بشأن إيران وبرنامجها النووي ونشاطاتها الإقليمية. فقد أكدت تصريحات بايدن خلال قمة مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، أن حكومته ستعمل مع الشركاء الإقليميين “لمواجهة التهديدات التي تطرحها إيران في المنطقة”، وشددت على التزام أميركا “ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي”.
وفي المقابل، اتّسم البيان المشترك بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بلهجة حازمة في هذا المضمار داعياً الجمهورية الإسلامية إلى “التعاون الكامل” مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية، مشيراً إلى اتفاق القادة على العمل لـ”منع انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة الخليج، وضمان الطابع السلمي للبرنامج النووي الإيراني” حفاظاً على الأمن والاستقرار إقليمياً ودولياً. وذهب البيان المشترك إياه إلى “ضرورة أن تقوم العلاقات بين دول الخليج العربية وإيران على اتّباع مبدأ حُسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية واحترام استقلال الدول وسيادتها وسلامة أراضيها”. وأعلن البيان أيضاً تأييد مبادرة دولة الإمارات العربية المتحدة ومساعيها للتوصل إلى حلّ سلمي لقضية الجزر الثلاث: طمب الكبرى، طمب الصغرى، وأبو موسى، وذلك من خلال المفاوضات الثنائية وفقاً لقواعد القانون الدولي، ولحلّ هذه القضية وفقاً للشرعية الدولية. ولم يتخلّف أخيراً عن المطالبة بحلّ عادل للقضية الفلسطينية على أساس صيغة الدولتين وإقامة دولة فلسطينية عاصمتها القدس الشرقية ووقف الاستيطان الإسرائيلي.
ولم يسبق أن اتخذت حكومة الصين مواقف علنية حاسمة في قضايا خلافية حساسة بين العرب وإيران مثل قضية الجزر الثلاث وطُرق تسويتها التي تصطدم بالخطاب القومي الإيراني الذي يعتبرها جزءاً لا يتجزأ من الأراضي الإيرانية، علماً بأنها تعرضت للاحتلال العسكري في عهد النظام الملكي الذي أطاحته الثورة الإسلامية، فضلاً عن ملف البرنامج النووي الإيراني والشكوك في تجاوز العتَبَة السلمية، واستبعاد إشراك الجوار المعني الإقليمي بالمسألة أمنياً وبيئياً في مفاوضات تشارك فيها الدول الكبرى الغربية وروسيا والصين. وقد ردّت إيران على الفور على هذه المواقف، معلنة إدانتها، ومؤكدة أنها “لم تغادر” الاتفاق النووي. واستدعت الخارجية الإيرانية السفير الصيني في طهران في اليوم التالي للقمة العربية – الصينية للتعبير عن “انزعاجها الشديد”،[1] وتم إرسال مسؤول صيني رفيع المستوى هو نائب رئيس الحكومة هو شون هو إلى إيران لاستيعاب الأزمة عبر تأكيد مفهوم الحياد الإيجابي للصين المفارق للنزعة العدائية تجاه إيران، والتي ينضح بها الخطاب الأميركي.
إذا كان صحيحاً أن عدم التجاور الجغرافي بين أميركا والصين والتشابك الاقتصادي والمالي يقلّلان من خطر نشوب نزاع عسكري، فإن تصاعد التوتر بين قوتين كبيرتين لهما مصالح هائلة وقدرات عالية على إرسال قواتهما العسكرية بعيداً، من شأنه أن يزيد مخاطر الصراع
التشابك الإقتصادي.. وفرص النزاع!
أمّا القلق الأميركي إزاء التقارب الصيني – العربي، فإن أحد مصادره الرئيسية هو مبادرة “الحزام والطريق” في مجال التجارة والاستثمار، لأن هذه المبادرة التي يقابلها من الجانب الأميركي “مشروع الشراكة للبُنية التحتية العالمية والاستثمار”، تلاقي استجابة قوية لدى المسؤولين العرب الذين أعلنوا موافقتهم على مقترحات بكين في شأن التعاون من خلال البُنية التحتية والتصنيع وقطاعات اقتصادية أُخرى. أضف إلى ذلك تكاثر المشاريع العربية مع شركات الاتصالات الصينية، ومنها توقيع مذكرة سعودية تقضي بالموافقة على تعميق التعاون مع شركة “هواوي” الصينية في حقل الحوسبة الإلكترونية، وبناء مجمعات للتقنيات المتطورة انسجاماً مع “رؤية 2030″، واعتماد المجموعة العربية الخليجية بصورة كبيرة على شركات الاتصالات الصينية في بناء وتطوير البُنية التحتية لشبكاتها على الرغم من التحذيرات الأميركية من المخاطر الأمنية المترتبة على هذا التوجه.[2]
وهكذا يقودنا تفكيك الخطاب الدبلوماسي إلى الاستنتاج أن هناك تفاعلاً وجودياً بين الولايات المتحدة الأميركية وجمهورية الصين الشعبية، وهما ثنائي خطر واستثنائي بين دول العالم قد يندفع في ظروف معينة إلى الوقوع في صراع فتّاك. وإذا كان صحيحاً أن عدم التجاور الجغرافي بين أميركا والصين والتشابك الاقتصادي والمالي يقلّلان من خطر نشوب نزاع عسكري، فإن تصاعد التوتر بين قوتين كبيرتين لهما مصالح هائلة وقدرات عالية على إرسال قواتهما العسكرية بعيداً، من شأنه أن يزيد مخاطر الصراع.
ونظراً إلى النمو السريع جداً لاقتصاد الصين مقارنة بنمو الاقتصاد الأميركي، فإن نسبة القوة تغيرت بمقدار كبير لتصبح متساوية تقريباً، كما يجب أن نأخذ في الاعتبار أن هاتين القوتين تشتركان في ما بينهما بعضويتهما في العديد من المنظمات الدولية، فضلاً عن كون الصين عضواً في جميع المنظمات الدولية، وفي العديد من المنظمات الإقليمية الخاصة بشمال المحيط الباسيفيكي، والتي تنتمي إليها الولايات المتحدة أيضاً. ومن هذا المنظور يمكن أن نعيد النظر في حساب عوامل الخطر والردع، مع أن وضع تايوان يمثل مصدر تهديد رئيسياً، الأمر الذي يستدعي حنكة سياسية من جانب الصين وأميركا، لأن أي حرب كبيرة بين أكبر قوتين في العالم ستكون مأساة أكبر من الحرب في أوكرانيا.
مستقبل الشراكة مع الصين
من الصعب تصور آفاق للشراكة الخليجية العربية – الصينية بمعزل عن السياقات الجيواستراتيجية الملازمة للتحولات في العلاقات الدولية، وهي ظواهر حاضنة لديناميات التعاون والتبادل بين الصين وبلاد العرب، وتبرز فيها إشكالية الهيمنة العالمية، ومفهوم الاستقلال الذاتي للدول في إدارة مصالحها، واحتدام التنافس الإقليمي.
ويكشف الاتجاه السائد في التحولات العالمية، سيولة في الهيمنة الاقتصادية والتكنولوجية وانزياحها نحو الصين القوة العظمى الجديدة، وذلك في السياق الحاضن لفقدان الولايات المتحدة مقومات الهيمنة الأحادية، فضلاً عن تعاظم القوة الجيواستراتيجية لـ”إمبراطورية الوسط” في المدار العالمي، وتمكّن شبكة علاقاتها التجارية من السيطرة على معظم الأسواق بين الشرق والغرب.
أمّا المحرك الثاني للشراكة العربية – الصينية، فهو إدراك اللاعبين الإقليميين أنهم يواجهون مجموعة من الخيارات الاستراتيجية تمنحهم حيزاً واسعاً من حرية الحركة، وأن التفاعلات العالمية باتت تجري في فضاءات إقليمية – دولية تفسح المجال أمام الدول للعمل على استخدام إمكاناتها من أجل التعاون وبناء الشراكات مع الدول الكبيرة والمتوسطة والصغيرة في آنٍ معاً. وللمثال، الهند التي توازن علاقاتها مع القوى الكبرى الثلاث: أميركا وروسيا والصين؛ فيتنام التي بَنَت علاقات واسعة مع واشنطن والعرب وإسرائيل؛ كذلك، البرازيل وتركيا وأوزبكستان وكازاخستان.
ويتعلق المحرك الثالث بظاهرة التنافس الإقليمي بين السعودية وإيران من جهة، والسعودية وتركيا من جهة أُخرى، فضلاً عن التنافس بين إيران وتركيا. وهذا الأمر يفسّر سعي السعودية إلى أن تكون الصين هي الضامن للإتفاق السعودي الإيراني، كما يُفسّر سعي التكتل الخليجي ـ المصري لتجيير الثقل الصيني لمصلحة دبلوماسيته وخطابه، مثلما أن الاستجابة الصينية قد تكون مدفوعة بحسابات التموضع الجيواستراتيجي في منطقة حيوية لتأمين إمدادات الطاقة وتعجّ بالقواعد العسكرية الأميركية التي لا تمنع روسيا والصين من القيام بمناورات عسكرية في بحر العرب بالتنسيق والتعاون مع إيران.
رؤية إستراتيجية.. ممرها الإلزامي اليمن
أخيراً إن الواقعية الهجومية الصينية التي تعطي الأولوية للمصالح الاقتصادية وحركة التجارة العالمية، بعيداً عن دوافع الاستقطاب الأيديولوجي، تساعد في تظهير حقيقة أن دول المجموعة العربية يمكن أن تتصرف بناء على أولوياتها هي نفسها، الأمر الذي ينفي الاعتقاد أن العالم العربي هو مجرد ساحة مفتوحة أمام تجاذبات القوى الدولية الكبرى، وبالتالي لا يمكن التغاضي عن دور القوى الإقليمية في تدافع الأحداث سواء داخل العالم العربي أو خارجه.
ومن هنا، فإن نتائج زيارة شي جين بينغ للسعودية، وإعلان ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان أن قمة الرياض الخليجية – الصينية “تؤسس لانطلاق تاريخي جديد للعلاقة بين الصين والسعودية، [و] تهدف لتعميق التعاون مع الصين في جميع المجالات وتنسيق وجهات النظر تجاه القضايا الإقليمية والدولية”، وإن دول مجلس التعاون الخليجي تعتبر الصين “شريكاً أساسياً مهماً لها، وتولي أهمية قصوى لرفع مستوى الشراكة الاستراتيجية معها”، إنما تعزّز فكرة أن القوى الإقليمية قادرة على التخطيط والعمل وفق ما تُمليه مصالحها الخاصة، وخصوصاً عندما تتعارض هذه المصالح مع أهداف السياسة الأميركية، وتنبّه في الوقت نفسه إلى تناقضات في بُنية النظام الإقليمي الخليجي الفرعي يجب التعامل معها بجدية كي تتوازن تطلعات “العملاق السعودي” مع طموحات المنافس الإماراتي وحاجات الفرقاء الخليجيين الآخرين، بحيث يسهُل استيعاب حالات تأزّم نافرة بسبب شكاوى من نزعة الهيمنة السعودية، مثل “القمة” التي عُقدت في أبو ظبي منتصف كانون الثاني/يناير 2023، وجمعت أربعة من قادة الخليج “إلى زعيمَي مصر والأردن”، وغاب عنها بصورة لافتة للإنتباه ولي العهد السعودي الذي تضامن معه ولي عهد الكويت مشعل الأحمد الصباح. وهنا بدت الأجراس كأنها شرعت تُقرع من أجل إدارة حكيمة للمنافسة الشديدة بين السعودية ودولة الإمارات على موقع القطب المالي والاقتصادي والسياحي وسط تباعد متزايد بين الرياض وأبو ظبي، ومحاولات أميركية مستمرة لتهميش المجموعة التي تتحكم في القرار السعودي اليوم، أو أنها – أي هذه الأجراس – تريد أن تُسمع “الأمير الجديد” الشجاع إلى حدّ التهور، أن حلول ما يشبه قطبية ثنائية أميركية – صينية في الخليج، تقتضي إيجاد رافعة موازنة عبر العمل على تحديث آليات الإدارة والتخطيط لمجلس التعاون الخليجي، وعدم الاكتفاء بتطبيق مفهوم “توازن القوة” الذي ينطوي على مخاطر وتقلبات سياسية تعرفها باكستان جيداً في حقل التوازن بين الأميركيين والصينيين.
غير أن الكلام على أولويات مختلفة لسياسة خارجية جديدة للمملكة، لا يستقيم من دون رؤية استراتيجية تُخرجها من المستنقع اليمني، وتُصلح في آنٍ معاً الخطأ التاريخي الذي أدى إلى استبعاد العراق واليمن من النظام الإقليمي الخليجي، وهو الأمر الذي يُفسر نجاح الصين في التوصل إلى الإتفاق السعودي الإيراني، لما سيترتب عليه من نتائج في العديد من ساحات النفوذ المتبادلة بين طهران والرياض، وأولها الساحة اليمنية، نظراً لأهميتها الإستراتيجية، وكونها تمس الأمن القومي السعودي.
(*) الجزء الأول: الصين في الخليج.. شراكة شاملة مع العرب؛ لمراجعة النص كاملاً على موقع “مؤسسة الدراسات الفلسطينية“.
المصادر:
[1] عن انزعاج طهران، انظر: “رحلة الحج الصينية إلى الرياض.. وانزعاج طهران”، عن تقرير لمعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى، ترجمة منى فرح، “180 بوست”، في الرابط الإلكتروني التالي: https://180post.com/archives/34260
[2] في سنة 2020 وحدها وقّعت جميع دول مجلس التعاون الخليجي عقود الجيل الخامس (5G) مع شركة هواوي الصينية.