فاصل زمني دراماتيكي بين محطتين في بلاد العرب: الأولى للرئيس الأميركي جو بايدن في تموز/يوليو 2022، والثانية للرئيس الصيني شي جين بينغ، بعد خمسة أشهر. قمّة واحدة للأول في الرياض، وثلاث قمم للثاني تجمع قادة خليجيين وعرب.[1]
إذا اخترنا الوقوف عند التاريخ الأول، نكون قد ذهبنا إلى التركيز على انكماش الإمبراطورية الأميركية وانكفاء شمسها في دنيا العرب؛ وإذا وقع اختيارنا على التاريخ الثاني، نكون قد لاحظنا التموضع الحاسم للقوة الصينية الصاعدة في منطقة الخليج والجزيرة العربية المتخففة من أعباء تحالفها التاريخي مع الولايات المتحدة الأميركية؛ ويبقى أن الأمر اللافت للإنتباه في طيات التدافع الأميركي – الصيني هو التناغم بين استياء واشنطن المشوب بالقلق إزاء “الاختراق الصيني”، والاحتجاج الإيراني المندد بالتموضع الصيني في النزاع العربي – الإيراني بشأن الجزر الثلاث والتباين بشأن ملف البرنامج النووي.
بناء على هذه الصورة، تقترح هذه المقالة مقاربة جيواقتصادية وجيوسياسية للعلاقات الأميركية – الخليجية من جهة، والصينية – الخليجية من جهة أُخرى، ولا سيما الشراكة السعودية – الصينية. كما تقترح فَهْم اتجاهات التقارب العربي – الصيني في إطار التحولات في منظومة العلاقات الدولية، نتيجة المكانة المحورية للطاقة في الاقتصاد العالمي، وتعاظم القوة الجيواستراتيجية الصينية في عالم مضطرب ينزاح فيه مركز القوة من الغرب إلى آسيا؛ على أن نحاول الاقتراب بحذر من نموذج جديد للاستقطاب الثنائي، من خلال التحليل المقارن لموضوعات البيانات المشتركة، من دون إغفال أهمية التوصل إلى الإتفاق السعودي ـ الإيراني بوساطة الصين وعلى أرض بكين، في تطور ديبلوماسي غير مسبوق في تعامل القيادة الصينية مع قضايا المنطقة.
الطاقة بين أميركا والصين
تفيد الوقائع الموثّقة لمحادثات القمة العربية – الصينية في الرياض أن توقيع الرئيس الصيني اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الشاملة[2] مع السعودية، والتي تتضمن عقوداً قيمتها الإجمالية نحو 50 مليار دولار، يندرج في سياق جيوسياسي تتسارع فيه تحولات موازين القوى، ويخترق خلاله التأثير الصيني مناطق النفود الأميركي “الحصرية”، ومنها العلاقات الاقتصادية والتجارية العربية. فقد تجاوز حجم المبادلات التجارية بين المجموعة العربية وبكين في سنة 2021 ما قيمته 300 مليار دولار بحسب الرئيس الصيني في كلمته في قمة الرياض العربية – الصينية (بما في ذلك المشتريات الصينية من النفط والغاز من دول الخليج العربيه)؛ أي أن هذه المبادلات تضاعفت نحو 10 مرات خلال أقل من عقدين من الزمن.
وللمجموعة العربية مكانة بارزة في استراتيجيا “الحزام والطريق” التي تستثمر الصين فيها أكثر من ترليون دولار في حقول إنشاء الموانىء والطرق السريعة والسكك الحديدية للربط التجاري عبر العالم. وقد انضمت 20 دولة عربية إلى “مبادرة الحزام والطريق” أو “طريق الحرير” الجديدة، وسجّل حجم الاستثمارات الصينية فيها أكثر من 200 مليار دولار استحوذت السعودية على 21% منها، وحلّت بعدها دولة الإمارات العربية مع 16%، ثم العراق 14%، والجزائر ومصر12% لكل منهما. وصارت الصين في سنة 2019 الشريك التجاري الأول لدول مجلس التعاون الخليجي، متجاوزة الاتحاد الأوروبي بإجمالي مبادلات تجارية زادت على 180 مليار دولار استأثرت بنحو نصفها المبادلات السعودية، علماً بأن الصين تستحوذ على 40% من حقول النفط العراقية التي تُعتبر الاحتياط النفطي الثاني في المنطقة بعد السعودية.
الملاحظ أن تنامي الشراكة السعودية – الصينية جاء موازياً لاهتزاز العلاقات السعودية – الأميركية والصعوبات التي اختبرتها خلال الأعوام الأخيرة. ويعود بعض هذه الصعوبات إلى تبدّل المصالح الأميركية في المنطقة، بينما يُحيل بعضها الآخر إلى تلاشي أهمية الصيغة التي حكمت العلاقة التقليدية بين واشنطن والرياض
طبعاً صارت الطاقة تحتل موقعاً محورياً في المبادلات العربية – الصينية عامة، والخليجية – الصينية خاصة، وذلك عقب التغير الذي طرأ على أنماط الإنتاج والاستهلاك في أسواق الطاقة العالمية، وتحول الصين إلى أكبر مستورد للطاقة نتيجة نموها الصناعي والاقتصادي الهائل خلال الأعوام التالية لانضمامها إلى منظمة التجارة العالمية في سنة 2001.
وفي المقابل، شهد العقد الأخير تقلّص اعتماد الولايات المتحدة على الطاقة العربية نتيجة تطوير تقنيات النفط والغاز الصخري،[3] الأمر الذي أدى إلى متغيرين على الصعيد الاقتصادي العالمي: الأول، تقلّص أهمية منطقة الخليج العربية بصفتها مصدراً طاقوياً للاقتصاد الأميركي (وإن زادت أهميتها بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي)، والثاني، تحول أسواق الطاقة التابعة لدول الخليج العربية من الغرب إلى الشرق، إذ بات الجزء الأكبر من النفط والغاز العربيين يذهب إلى آسيا، وخصوصاً الصين التي صارت المستورد الأول للطاقة في العالم اعتباراً من سنة 2020.[4] ومنذ سنة 2019 أصبحت السعودية أكبر مصدر للنفط إلى الصين بطاقة إجمالية بلغت نحو 1.8 مليون برميل يومياً، كما أضحت الصين أحد أكبر مستوردي الغاز المسال القطري. فقد وقّعت قطر في تشرين الثاني/نوفمبر 2022 أطول عقد في تاريخ صناعة الغاز المسال لتزويد الصين بـ 4 ملايين طن لـ 27 عاماً اعتباراً من سنة 2026.
المتغير التفسيري الأميركي
والملاحظ أن تنامي الشراكة السعودية – الصينية جاء موازياً لاهتزاز العلاقات السعودية – الأميركية[5] والصعوبات التي اختبرتها خلال الأعوام الأخيرة. ويعود بعض هذه الصعوبات إلى تبدّل المصالح الأميركية في المنطقة، بينما يُحيل بعضها الآخر إلى تلاشي أهمية الصيغة التي حكمت العلاقة التقليدية بين واشنطن والرياض، وهي علاقة قامت منذ سنة 1945 على معادلة “الأمن في مقابل النفط”، إلى أن ظهرت حالة عدم الثقة نتيجة توقيع واشنطن خطة العمل المشتركة الشاملة، أو الاتفاق النووي مع إيران في سنة 2015، وإن كانت العلاقة السعودية – الأميركية عرفت تحسناً طارئاً في عهد الرئيس السابق دونالد ترامب بعدما ارتأى الانسحاب من الاتفاق النووي.
وجاء فشل الإدارة الأميركية في الرد على الهجمات الحوثية التي اتُّهمت إيران بشنّها على المملكة العربية السعودية، وخصوصاً العمليات التي استهدفت منشآت أرامكو في أيلول/سبتمبر 2019 وأسفرت عن تعطيل نصف الإنتاج النفطي السعودي، ليثير شكوكاً جدية لدى حكومة الرياض في شأن مدى التزام الحليف الأميركي بأمنها في ظل الاستدارة الأميركية الاستراتيجية نحو آسيا – الباسيفيك وتحديداً نحو الصين.
ومع أنه لا يمكن التقليل من أهمية عامل الثقة في علاقة دول الخليج العربية بواشنطن، فإن الحاجة إلى تنويع الشراكات الدولية، وخصوصاً مع الدول التي باتت تعتمد على منطقة الخليج مصدراً رئيسياً للطاقه، تسلّط الضوء على عوامل جيوسياسية وأُخرى جيواقتصادية تلقي بثقلها على مسار العلاقات العربية – الصينية، وأبرزها انتقال الصين إلى موقع الصدارة الاقتصادية في العالم، وتحول مركز الحضارة العالمية من الغرب المتعدد إلى آسيا. ولذلك رأينا أن زيارة الرئيس جو بايدن للسعودية في تموز/يوليو الماضي، وقد تخلّلتها محادثات على مستوى القمة جمعته بقادة مجلس التعاون الخليجي (زائد مصر والأردن والعراق)، ومحاولته رأب الصدع مع الأمير محمد بن سلمان “الرجل القوي” في المملكة عقب تجربة فاشلة لعزله وإزاحته من السلطة، لم تنفع كثيراً في تغيير الاتجاه المتنامي للتقارب السعودي – الصيني والعربي – الصيني، وخصوصاً في المجالَين العسكري والأمني وفي ظل تصاعد صادرات الأسلحة الصينية إلى السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة؛ علماً بأن بكين أقنعت الرياض في سنة 2021 بأن تصبح شريكاً في الحوار في منظمة شنغهاي للتعاون، وهي مجموعة أمنية اقتصادية إقليمية تضم كلاً من الهند وروسيا وباكستان وإيران وأوزبكستان وطاجكستان وكازاخستان وقرغيزيا.
(*) الجزء الثاني: مُحرّكات الشراكة الصينية العربية.. الطاقة أولاً
المصادر والمراجع:
[1] لمراجعة وقائع محادثات القمة العربية – الأميركية والقمة العربية – الصينية، والنصوص الكاملة للبيانات المشتركة، يمكن العودة إلى “وكالة الأنباء السعودية” (واس).
[2] الشراكة الاستراتيجية الشاملة هي علاقة متشابكة بين شريكَين تجاريين، أو مؤسستين تجاريتين، وتتجسد بعقود متعددة بين الشريكين. وتهدف الشراكة عندما تنتقل إلى الدول إلى الحصول على منافع متبادلة بعيدة المدى ومواجهة المخاطر في العمليات المشتركة والقيام بمساهمات في حقول استراتيجية. وفي الغالب يتم السعي للشراكة الاستراتيجية عندما ترى المؤسسات أو الدول أنها تحتاج إلى زيادة إمكاناتها.
[3] استناداً إلى وكالة الطاقة الأميركية، بلغ الإنتاج النفطي الأميركي في سنة 2021 نحو 18,9 مليون برميل يومياً تشمل النفط الخام وأنواع المشتقات النفطية الأُخرى، أي 20% من الإنتاج العالمي. وبلغ الإنتاج الأميركي من الغاز في سنة 2021 نحو 935 مليار متر مكعب متجاوزاً الإنتاج الروسي البالغ 700 مليار متر مكعب.
[4] تستورد الصين حالياً نحو 11 مليون برميل من النفط يومياً، ويُتوقع بحلول سنة 2026 أن تستهلك 16 مليون برميل يومياً يأتي معظمها من منطقة الخليج، كما يُتوقع بحلول سنة 2040 أن تستهلك 620 مليار متر مكعب من الغاز سنوياً.
[5] للمزيد عن تحولات العلاقة الأميركية – السعودية، انظر:
Emile Hokayem, “Fraught Relations: Saudi Ambitions and American Anger”, “International Institute for Strategic Studies (IISS)”, 6 December 2022,
وانظر أيضاً: وليد شرارة، “الثابت والمتحول في العلاقات السعودية – الأميركية”، “الأخبار” (بيروت)، 17 تموز/يوليو 2021، في الرابط الإلكتروني التالي:
https://al-akhbar.com/Arab_Island/311706
وانظر كذلك: عبد الله بعبود، “زيارة شي جين بينغ إلى الرياض”، “كارنيغي”، في الرابط الإلكتروني التالي:
https://carnegie-mec.org/diwan/88702
وأنظر أيضاً: جون ميرشايمر، “دراسة حالة: هل تستطيع الصين الصعود بطريقة سلمية؟ نظريات العلاقات الدولية” (بيروت: المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2016)، ص 237 – 244؛ خلدون حسن النقيب، “المجتمع والدولة في الخليج والجزيرة العربية” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)؛ عبد المنعم سعيد، “العرب ودول الجوار الجغرافي” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1987)؛ علي الدين هلال (محرر)، “العرب والعالم” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1988)؛ “أزمة الخليج وتداعياتها على الوطن العربي: أوراق عمل ومناقشات الندوة الفكرية التي نظمها مركز دراسات الوحدة العربية” (بيروت: مركز دراسات الوحدة العربية، 1991).