خلال جولة الرئيس الصيني شي جين بينغ في الشرق الأوسط، وقَّعت الشركات الصينية ما لا يقل عن 34 إتفاقية مع شركات إقليمية، تُقدر قيمتها بنحو 50 مليار دولار. حتى اللهجة التي استخدمها “شي” في المحادثات التي أجراها طوال الرحلة كانت جديرة بالملاحظة أيضاً. كانت لهجة مناقضة تماماً لتلك التي استخدمها نظيره الأميركي جو بايدن خلال رحلة مشابهة قام بها في تموز/يوليو الماضي: بايدن أعلن؛ وبشكل علني؛ أن العلاقة بين الولايات المتحدة والمنطقة (السعودية بشكل خاص) تحتاج إلى تعديل، وأكد ضرورة التركيز على ما وصفه آنذاك بـ”أهداف واقعية”. بينما شدَّد الرئيس “شي” على عقد شراكات جديدة ذات آفاق مشرقة، ودعا إلى الإستعانة بما وصفه “طاقة لا تنضب” من أجل “تنمية الصداقة الصينية-العربية”. أما القضايا التي تطرق إليها كل من الرئيسين بايدن و”شي”؛ خلال رحلاتهما فقد كانت في مجملها متشابهة، برغم أن بعض الموضوعات نالت اهتماماً لدى طرف أكثر من الآخر. ما هي هذه القضايا؟
الطاقة
كان هذا موضوعاً رئيسياً بالنسبة للرئيس الأميركي. بحسب بيان جدَّة المشترك؛ الذي صدر خلال رحلته؛ اتفقت الولايات المتحدة والسعودية على “التشاور بانتظام بشأن أسواق الطاقة العالمية”، والتعاون كـ”شريكين إستراتيجيين” في ما يخص مشاريع إمدادات الطاقة (برغم أنهما كانا في ذلك الوقت على خلاف حول موضوع إنتاج النفط).
أما الرئيس الصيني فقد دعا إلى أن تتم عملية التجارة بالنفط والغاز الطبيعي بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي بـ”اليوان” الصيني بدلاً من الدولار الأميركي. فمنذ سنوات، وبكين تتقصد إثارة هذا الموضوع مع المسؤولين الإقليميين دون أن تُحرز أي تقدم يُذكر. وكان مسؤول سعودي (لم يُكشف عن هويته) قد ألمح مؤخراً إلى أن المملكة العربية السعودية قد تبدأ “قريباً” في بيع كميات صغيرة من نفطها بـ”اليوان الصيني”، موضحاً في الوقت نفسه “أن الوقت لم يحن بعد”.
التجارة والإستثمار
في ما يخص التجارة والإستثمار، قامت كل من الصين والولايات المتحدة بتسويق مبادرات استثمار أجنبي شاملة في الشرق الأوسط ومناطق أخرى: بكين لديها “مبادرة الحزام والطريق” (BRI)(*)، في حين أن واشنطن لديها الشراكة الأحدث للبنية التحتية العالمية والإستثمار(PGII) (**). وقد أكد المسؤولون العرب على مبادرة “الحزام والطريق”، مراراً وتكراراً؛ خلال قممهم المتعددة الأطراف مع “شي”؛ وعبروا عن موافقتهم بما أعلنه بخصوص التعاون المشترك في مجالات البنية التحتية والتصنيع وقطاعات أخرى.
في البيانات المشتركة الصادرة مع السعودية، اختلفت اللغة المحيطة بمبادرة “الحزام والطريق” وتلك التي أُحيطت بالمبادرة الأميركية (PGII) بشكل كبير. فالبيان الأميركي-السعودي تناول قضايا حاسمة بالنسبة للأمن القومي وموضوع إمدادات الطاقة عبر دول العالم، بينما أكد البيان الصيني-السعودي على “أهمية” تزامن مبادرة “الحزام والطريق” مع “رؤية 2030″؛ أي مبادرة الرياض للتنمية الاقتصادية الشاملة في السعودية.
المثير للدهشة أن التصريحات الأميركية والصينية بشأن إيران وبرنامجها النووي ونشاطاتها الإقليمية كانت مماثلة. فقد أكدت تصريحات بايدن خلال “قمة مجلس التعاون الخليجي+ 3” على ان بلاده ستعمل عن كثب مع الشركاء الإقليميين “لمواجهة التهديدات التي تشكلها إيران على المنطقة”. كما أعاد التأكيد على التزام أميركا بـ”ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي”
كان هناك موضوع آخر للمناقشة: إتفاقية التجارة الحرة المحتملة بين الصين ودول مجلس التعاون الخليجي. هو مشروع طموح وطويل الأمد بالنسبة لبكين، وللرئيس “شي” شخصياً. تعود المناقشات حول هذه الاتفاقية إلى عام 2004، لكن لم يُعلن عن أي صفقة في هذا الخصوص خلال زيارة “شي”.
الدفاع والأمن
برز موضوع الأمن الإقليمي بشكل مميز خلال زيارة جو بايدن. ففي “قمة مجلس التعاون الخليجي+ 3” (وهي القمة التي جمعت الرئيس الأميركي مع قادة دول الخليج إلى جانب قادة كل من مصر والأردن وتركيا)، قال بايدن: “نحافظ على القدرة والعزم المطلق على قمع التهديد الإرهابي أينما وجدناه. سنواصل جهودنا لمكافحة الإرهاب وذلك بالعمل مع تحالف عريض من الدول الصديقة، بما في ذلك كل الموجودين معنا اليوم على هذه الطاولة”. وبالمثل، فإن بيان جدَّة “أكد بقوة” التزام الولايات المتحدة بـ”الدفاع” عن أمن السعودية، وتعهدها بمواصلة تسهيل جهود المملكة “للحصول على القدرات اللازمة” لتحقيق هذه الغاية.
وعلى الرغم من عدم الإعلان عن مبيعات أسلحة كبيرة خلال رحلته، وافقت وزارة الدفاع الأميركية (بعد شهر من تاريخ زيارة بايدن) على صفقتين مهمتين في مجال الدفاع الجوي: تشتري الرياض 300 صاروخ من نوع “باتريوت” (بقيمة 3.05 مليار دولار)، وتشتري الإمارات صواريخ ومراكز قيادة وتحكم لنظام الدفاع الجوي (“ثاد”) بقيمة 2.25 مليار دولار.
في المقابل، كانت قضايا الدفاع أقل بروزاً في التصريحات التي رافقت رحلة “شي”. ففي خطابه الافتتاحي في السعودية، سلَّط الرئيس الصيني الضوء على العلاقات الاقتصادية والثقافية والسياسية أولاً، وشدَّد على أن بكين تدعم “الجانب العربي في بناء بنية أمنية مشتركة وشاملة وتعاونية ومستدامة في الشرق الأوسط”، داعياً الدول العربية للمشاركة في “مبادرة الأمن العالمي” الصينية، وهي رؤية أُطلقت مؤخراً للعلاقات الأمنية الدولية تتناقض مع التحالفات التي تقودها الولايات المتحدة.
بالإضافة إلى ذلك، أكد البيان الصيني-السعودي المشترك “عزم البلدين على تطوير التعاون والتنسيق في المجالات الدفاعية”، وتعزيز تبادل المعلومات في مكافحة الإرهاب والتطرف، وتبادل الخبرات “في مجالات الاستخبارات والإنذار المبكر من المخاطر”. وكرَّر البيان الصيني-الخليجي المشترك هذه المشاعر وتعهد بالتعاون من أجل “منع تمويل وتسليح وتجنيد” الجماعات الإرهابية في المنطقة. لكن حتى الآن، لم تظهر أي مبيعات أسلحة صينية جديدة بعد زيارة “شي”.
برنامج إيران النووي
المثير للدهشة أن التصريحات الأميركية والصينية بشأن إيران وبرنامجها النووي ونشاطاتها الإقليمية كانت مماثلة. فقد أكدت تصريحات بايدن خلال “قمة مجلس التعاون الخليجي+ 3” على ان بلاده ستعمل عن كثب مع الشركاء الإقليميين “لمواجهة التهديدات التي تشكلها إيران على المنطقة”. كما أعاد التأكيد على التزام أميركا بـ”ضمان عدم حصول إيران على سلاح نووي”.
في المقابل، تحدث البيان الصيني المشترك مع دول مجلس التعاون الخليجي عن الملف النووي الإيراني بلهجة أكثر قسوة وصرامة عما كان معهوداً من بكين بهذا الخصوص. فقد دعا البيان إيران إلى “التعاون الكامل” مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية. في الماضي، دعت بكين عادة إلى “حوار” بين إيران والوكالة الدولية للطاقة الذرية وأطراف أخرى في الاتفاق النووي للعام 2015. كما أشار بيان مجلس التعاون الخليجي إلى دعم المجتمعين في الرياض لمنع “انتشار أسلحة الدمار الشامل في منطقة دول مجلس التعاون الخليجي” وضمان “الطبيعة السلمية للبرنامج النووي الإيراني”.
كما أن الصياغة المتعلقة بأنشطة إيران غير النووية لم يسبق لها مثيل في التصريحات الصينية السابقة. ففي اجتماعات سابقة مع دول عربية وخليجية، صاغت بكين بياناتها بعناية شديدة لتجنب إثارة غضب طهران. ومع ذلك، حثَّ بيان “مجلس التعاون الخليجي” صراحة على إجراء نقاش إقليمي لمعالجة “أنشطة إيران الإقليمية المزعزعة للاستقرار”، ووقف “دعمها للجماعات الإرهابية والطائفية والمنظمات المسلحة غير الشرعية”؛ وهي الموضوعات التي نادراً ما تذكرها بكين علناً. وشدَّد البيان على أن العلاقات بين إيران ودول مجلس التعاون الخليجي يجب أن تقوم على “مبدأ حسن الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية”.
المسؤولون الإيرانيون سارعوا إلى إدانة هذه التصريحات. وأكد متحدث باسم وزارة الخارجية أن طهران “لم تغادر” الإتفاق النووي. كما استدعت الوزارة السفير الصيني في اليوم التالي للقمة للتعبير عن “إنزعاجها الشديد”.
كانت عملية ضبط الضرر في بكين سريعة أيضاً. في 13 كانون الأول/ديسمبر، تم إرسال نائب رئيس الوزراء، هو تشون هوا، إلى طهران لتهدئة التوترات، في حين أعلن المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية أن دول مجلس التعاون الخليجي وإيران “جميعهم أصدقاء للصين“. وبالمثل، أشاد سفير الصين لدى الأمم المتحدة بـ”الموقف المرّن الأخير” لطهران، وأعرب عن أمله في أن تلاقي الولايات المتحدة، وغيرها من الدول، إيران “في منتصف الطريق”.
البرامج النووية المدنية
منذ سنوات، استكشفت دول مجلس التعاون الخليجي، علناً فكرة إنشاء برامج للطاقة النووية. ولكن لم يتم إحراز أي تقدم يُذكر حتى الآن. فالمفاوضات السعودية-الأميركية في هذا المجال توقفت في عهد إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب بسبب خلافات تتعلق بشروط منع الانتشار (…). ويبدو أن تعليقات بايدن في تموز/يوليو تُقرّ بهذا المأزق؛ فقد جاء على ذكر الشراكات في مجال الطاقة النووية في سياق التعاون في مجال الطاقة النظيفة، لكنه لم يقل أي شيء آخر في هذا الشأن.
في المقابل، أعرب الرئيس الصيني مراراً وتكراراً عن اهتمامه بتعزيز التعاون في مجال “الاستخدام السلمي للطاقة النووية”. وأكد في قمة دول مجلس التعاون الخليجي رغبة بلاده في إقامة “مُنتدى” مشترك للتكنولوجيا النووية السلمية، و”تعاون” نووي مشترك. وكانت بكين في الماضي قد كشفت؛ وبشكل علني؛ عن عدة مشاريع نووية مع السعودية. ففي عام 2020، ظهرت تقارير تُفيد بأنها ساعدت المملكة في بناء منشأة لاستخراج اليورانيوم، مما دفع مجموعة من أعضاء مجلس الشيوخ الأميركي (من الحزبين الجمهوري والديموقراطي) إلى إثارة مخاوف بهذا الشأن.
الإتصالات
أحد المجالات الرئيسية التي تثير قلق الولايات المتحدة هو كثرة المشاريع الإقليمية مع شركات الاتصالات الصينية. تضمنت رحلة بايدن مذكرة مشتركة حول ربط الشركات الأميركية والسعودية من أجل تعزيز جهدين: “نشر تقنية 5G باستخدام شبكات اللاسلكي المفتوحة”، و”تطوير 6G من خلال تقنيات مماثلة”. فلطالما شعرت الحكومة الأميركية بالقلق من أن بعض الدول تعتمد بشكل مفرط على موردين يعملون بشكل فردي في سوق الاتصالات، لا سيما أولئك الذين لديهم صلات بجهات وقطاعات صينية بينها شركة “هواوي”. وقبل عدة أشهر من رحلة بايدن، أشار البنتاغون إلى أن ديناميكية الصناعة الحالية “تبطئ من عملية الابتكار” وتزيد من “صعوبة اكتشاف المخاطر الأمنية وحلّها”.
وقد قَّع السعوديون مذكرة ذات صلة خلال رحلة الرئيس “شي”، بالموافقة على تعميق التعاون مع شركة “هواوي” الصينية في مجالات الحوسبة الإلكترونية، مراكز البيانات، بناء مجمعات ذات تقنيات متطورة في المدن السعودية. وفي الواقع، تعتمد الدول الإقليمية؛ بشكل كبير؛ على شركات الاتصالات الصينية في بناء وتطوير البنية التحتية لشبكاتها على الرغم من تحذيرات الولايات المتحدة بشأن المخاطر الأمنية. ففي عام 2020 وحده، وقعَّت كل دول مجلس التعاون الخليجي عقود الـ5G مع شركة “هواوي” الصينية.
لطالما شعرت الحكومة الأميركية بالقلق من أن بعض الدول تعتمد بشكل مفرط على موردين يعملون بشكل فردي في سوق الاتصالات، لا سيما أولئك الذين لديهم صلات بجهات وقطاعات صينية بينها شركة “هواوي”
الفضاء
سلط تقرير البيت الأبيض حول رحلة بايدن إلى السعودية الضوء على التعاون الثُنائي في “جميع مجالات استكشاف الفضاء”، بما في ذلك تنظيم “رحلات مأهولة بالبشر إلى الفضاء، ومراقبة الأرض، والتنمية التجارية والتنظيمية، والسلوك المسؤول تجاه الفضاء الخارجي”. كما أشادت واشنطن بتوقيع الرياض على اتفاقيات “أرتميس”، وهي سلسلة من الاتفاقيات مُتعددة الأطراف بقيادة وكالة الفضاء الأميركية “ناسا” خاصة بالسلوك السلمي تجاه الفضاء الخارجي، وتنظيم رحلة إستكشافية إلى القمر، مأهولة بالبشر، بحلول العام 2025.
وبرغم أن الصين ليست من الدول الموقعة على تلك الاتفاقيات، فقد أشار “شي” إلى أن التعاون مع الرياض في مجال الفضاء “يكتسب زخماً” أيضاً. ففي عام 2021، وقَّعت هيئة الفضاء السعودية اتفاقية مع وكالة الفضاء الصينية للقيام بمهمة مشتركة في محطة الفضاء “تيانغونغ” كان يُفترض أن تتعم في العام 2022. وأثناء رحلة “شي”، ذكرت وسائل الإعلام الصينية أن المهمة ستتم “قريباً” لكنها لم تقدم تاريخاً محدداً. كما دعا “شي” الدول الإقليمية الأخرى للمشاركة في بعثات مشتركة في المحطة (…).
– النص بالإنكليزية على موقع “معهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى“
(*) “الحزام والطريق” (BRI)، وتسمى أيضاً “حزام واحد، طريق واحد”، هي مبادرة صينية قامت على أنقاض “طريق الحرير” في القرن التاسع عشر من أجل ربط الصين بالعالم، لتكون أكبر مشروع بنية تحتية في تاريخ البشرية.
(**) الشراكة من أجل البنية التحتية العالمية والاستثمار (PGII) هي جهد تعاوني من قبل مجموعة السبعة (G7) لتمويل مشاريع البنية التحتية في الدول النامية. ويعتبر هذا بمثابة مواجهة التكتل لمبادرة “الحزام والطريق” الصينية.
(***) رؤية السعودية 2030 هي خطة ما بعد النفط، أُعلن عنها في 25 نيسان/ابريل 2016، وتتزامن مع التاريخ المحدد لإعلان الانتهاء من تسليم 80 مشروعاً حكومياً عملاقاً.