فى هذا السياق، وقبل أيام قليلة، زار وفد من كبار ضباط (أركان حرب) الكلية العسكرية الفرنسية (الترجمة المباشرة لاسمها الفرنسى إلى اللغة العربية هى كلية الحرب) العاصمة الأمريكية لإجراء حوارات متنوعة مع صناع قرار ودبلوماسيين وباحثين مهتمين بالتغيرات العالمية الراهنة والفرص والتحديات التى تواجه بها القوى الكبرى، ومنها فرنسا. وقد دُعيت إلى المشاركة فى حوار مفتوح (وعلنى) مع الضباط الفرنسيين حول تداعيات تراجع النفوذ الأمريكى وتنامى الدور الصينى فى الشرق الأوسط على المصالح الفرنسية والأوروبية التى حصرت فى ضمان إمدادات الطاقة (النفط والغاز الطبيعى)، والتجارة الحرة مع بلدان المنطقة، واحتواء الصراعات الإقليمية فى إسرائيل/فلسطين وسوريا واليمن وليبيا، والسيطرة على الطموحات النووية الإيرانية، والحد من الهجرة غير الشرعية إلى أوروبا.
***
فى بداية الحوار، قدم الضباط الفرنسيون عرضا معمقا لما يجرى فى الشرق الأوسط قرأت تحليليا خطوطه العريضة وما بين سطوره كما يلى:
1) الابتعاد التدريجى للولايات المتحدة عن حلفائها التقليديين فى الخليج، وهم ولعقود طويلة حصلوا على ضماناتهم الأمنية وسلاحهم وتكنولوجيا استخراج وتكرير النفط والغاز الطبيعى ووارداتهم الصناعية والتكنولوجية من الأمريكيين، أسفر عن دفعهم إلى البحث عن شراكات، بل وتحالفات بديلة، مع قوى كبرى أخرى كالصين وروسيا.
2) رتب الابتعاد الأمريكى عن الخليج وكذلك تراجع الاهتمام بمجمل قضايا الشرق الأوسط الحد من أدوار الأوروبيين الذين اعتادوا الاستفادة من نفوذ القوة العظمى ومن الضمانات الأمنية التى قدمتها ومن التجارة الحرة التى رعتها لتطوير علاقات واسعة مع بلدان المنطقة، دوما ما كانت فى مقدمتها إمدادات الطاقة إلى أوروبا وصادرات السلاح منها.
للفرنسيين خبرة سلبية ليست بالقديمة فيما خص تداعيات حضور الصين فى مناطق وأقاليم ذات أهمية استراتيجية للسياسة الخارجية الفرنسية والأوروبية، حيث رتب تنامى استثمارات وقروض وواردات وتكنولوجيا الصين فى غرب أفريقيا «طرد فرنسا”
ضيق تراجع الولايات المتحدة فى الشرق الأوسط من مساحات حركة الأوروبيين الذين اعتادوا، ومن بينهم، أن ينشطوا دبلوماسيا وسياسيا حين تنشط حليفتهم على الجانب الآخر من المحيط الأطلنطى. وها هم يستسلمون اليوم فى صمت لغياب الدور الأمريكى فى العراق بعد الانسحاب، وفى سوريا باستثناء مواجهة بقايا تنظيم داعش، وفى لبنان المتروك لفشل الدولة، وفى إسرائيل/فلسطين حيث لا شىء غير المزيد من التصعيد والاستيطان والتطرف والعنف، وفى مصر حيث اللافعل الأمريكى فيما خص أزمة سد النهضة الإثيوبى التى تمثل التهديد الأكبر للأمن القومى، وفى ليبيا حيث لا حلول سياسية يجرى التفاوض عليها لإخراج القوات الأجنبية ونزع سلاح الميليشيات.
فقط فيما خص الحرب فى اليمن ومسألة الملف النووى الإيرانى، حاول الأوروبيون البحث عن تسويات دبلوماسية تنهى المأساة الإنسانية التى يواجهها الشعب اليمنى وتعيد إحياء المعاهدة الإطارية مع إيران لإبعادها عن امتلاك الأسلحة النووية. وفى الحالتين، لم تسفر المساعى الأوروبية عن الشيء الكثير فى ظل غياب الولايات المتحدة.
3) خلال السنوات الماضية، أصبحت الصين الشريك التجارى الأول لبلدان مجلس التعاون الخليجى، وتشعبت علاقات الصين والخليج لتتجاوز إمدادات الطاقة والمنتجات الصناعية إلى التعاون فى مجالات تكنولوجيا المعلومات والاتصالات ومشروعات البنية التحتية والطاقة المتجددة وصادرات السلاح.
سجل الضباط الفرنسيون أن حصة صادرات السلاح الصينية، وإن لم تتخطَ إلى اليوم ٥ بالمائة من إجمالى السلاح المصدر إلى الخليج، قد تضاعفت بين ٢٠١٨ و٢٠٢٢ بنسبة ٢٠٠ بالمائة، وهو ما يؤشر على تنامى الدور الصينى فيما خص السلاح والتعاون العسكرى.
4) خلال السنوات الماضية، وبينما أكثرت الإدارات الأمريكية المتعاقبة من الحديث عن الانسحاب من الشرق الأوسط والتوجه نحو آسيا حيث الفوائد «العظيمة» اقتصاديا وتجاريا وتكنولوجيا وحيث الميدان الأوسع للمنافسة الأمريكية ــ الصينية على قيادة النظام العالمى، ركزت الصين على تقوية علاقاتها مع كافة بلدان الشرق الأوسط وبمعزل تام عن تناقضات المصالح والسياسات فيما بينها. طورت الصين شراكة استراتيجية مع إيران بها تعاون اقتصادى وتجارى وعسكرى ضخم، ووسعت تعاونها مع السعودية إلى الحد الذى صارت معه الشركات (الحكومية) الصينية من أهم موردى تكنولوجيا المعلومات والاتصالات والبنية التحتية لمشروعات رؤية ٢٠٣٠، ورفعت على نحو غير مسبوق من مستويات استثماراتها الاقتصادية واستثمارات البنية التحتية فى مصر، وحافظت على علاقاتها الجيدة مع إسرائيل التى تتشارك معها مجالات البحث العلمى والتطوير التكنولوجى ومشروعات الطاقة المتجددة.
ومكنت العلاقات الوطيدة مع إيران والسعودية، وعلى الرغم من تناقضات المصالح والسياسات بين البلدين فى اليمن وفيما خص أمن الخليج، الصين من الوساطة الناجحة لاستئناف العلاقات الدبلوماسية بينهما واعتماد مبدأ عدم التدخل فى شئون الغير كأساس لأمن الخليج والشروع فى مفاوضات سلام دائم فى اليمن. نجحت الصين أيضا بعلاقاتها الجيدة مع جميع بلدان الشرق الأوسط فى تنشيط العمل الدبلوماسى متعدد الأطراف على النحو الذى شوهد من جهة فى القمة الصينية ــ العربية التى عقدت فى خواتيم ٢٠٢٢، ومن جهة أخرى فى تشجيع الصين لدول عربية وشرق أوسطية بغية الالتحاق كمراقبين بمنظمات للتعاون الإقليمى والدولى كمنظمة شنغهاى ومجموعة البريكس.
5) يتخوف الأوروبيون كثيرا من تنامى الدور الصينى فى الشرق الأوسط، ويفهمونه كخصم مباشر لنفوذ الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبى. وللفرنسيين خبرة سلبية ليست بالقديمة فيما خص تداعيات حضور الصين فى مناطق وأقاليم ذات أهمية استراتيجية للسياسة الخارجية الفرنسية والأوروبية، حيث رتب تنامى استثمارات وقروض وواردات وتكنولوجيا الصين فى غرب أفريقيا «طرد فرنسا« (كرر أكثر من متحدث من بين الضباط الفرنسيين استخدام هذه العبارة حرفيا).
6) غير أن خوف الأوروبيين، ومن بينهم الفرنسيون، من الصين فى الشرق الأوسط معطوفا على أسفهم على تراجع الدور الأمريكى، يؤدى إلى استسلامهم إلى قراءة صراعية للعلاقة مع العملاق الآسيوى. وهى قراءة تصطنع من الصين «الاتحاد السوفيتى الجديد» فى منطقتنا، وتدفع باتجاه محاصرة دورها على الرغم من أن وساطتها بين إيران والسعودية على سبيل المثال قد تسفر عن سلام فى اليمن وأمن فى الخليج وخفض لمناسيب الصراع الإقليمى، وجميع ذلك يتلاقى مع ما تريده أوروبا. وأغلب الظن أن خوف الأوروبيين يعود إلى توجسهم من استحواذ الصين على ما تبقى لهم من حصص فى التجارة مع الخليج وعموم الشرق الأوسط، ومن تنامى صادرات السلاح الصينى على نحو يفقد أوروبا، خاصة فرنسا، سوقا هاما لتصدير أسلحتهم، ومن ضياع نفوذ الغرب الأمريكى والأوروبى على وقع صعود السياسة الخارجية الصينية وارتكازها إلى الوساطة والحلول السلمية والدبلوماسية متعددة الأطراف.
يتخوف الأوروبيون كثيرا من تنامى الدور الصينى فى الشرق الأوسط، ويفهمونه كخصم مباشر لنفوذ الغرب بشقيه الأمريكى والأوروبى
7) والخطير فى القراءة الصراعية لدور الصين فى الشرق الأوسط من قبل الأوروبيين هو أنهم لا يملكون من أوراق الاقتصاد والتجارة والسياسة والدبلوماسية ما قد يمكنهم من محاصرة العملاق الآسيوى، لا فرنسا بمفردها ولا بالشراكة مع غيرها من الدول الأوروبية الكبيرة. الخطير أيضا هو تجاهل الفرنسيين المتوجسين من تكرار «طرد» الصينيين لهم بعد خبرة غرب أفريقيا، تجاهلهم لمصالح وسياسات بلدان الشرق الأوسط التى ترى فى الصين حليفا موثوقا لا ترغب أبدا فى تحجيم دوره.
***
لسنا وحدنا فى مصر والشرق الأوسط الذين نناقش التغيرات العالمية المتسارعة من حولنا، وفى موقع القلب منها تراجع الولايات المتحدة وصعود الصين. بل يناقشها صناع القرار فى المؤسسات المدنية والعسكرية، والدبلوماسيون والباحثون فى مراكز صناعة الفكر والسياسة؛ يناقشونها بتفاصيل كثيرة ورؤى متنوعة ومخاوف شتى.
وحرى بنا أيضا أن نواصل التفكير والنقاش، فقديم النظام العالمى الذى أوشك على الرحيل وجديده الذى صار فى طور التكوين لن يدعنا وحالنا.
(*) بالتزامن مع “الشروق“