قمة عربية مختلفة.. بوادر أنفاس جديدة!

لا دليل ثابتاً يدفع للاعتقاد في أن القمة العربية التي تنعقد في نهاية هذا الأسبوع في مدينة جدة السعودية سوف تصنع قرارات تُرمّم ما تصدع من ثوابت أو سياسات تُصحّح ما تشوّه من نوايا طيبة.

لا دليل ثابتاً ولكن فيضاً من آمال وكنوز من طموحات تجعلني وكثيرين غيري ننتظر خيراً يُطّل علينا من أعمال هذه القمة بالذات، ليس فقط لأنها تأتي بعد سنوات ضائعة وخيبات أمل خلفت لنا نظاماً إقليمياً متدهوراً ولكن أيضاً لأنها تأتي في خضم تغيرات كبرى شملت متغيرات تبدأ بنظام القمة الدولية وتنتهي بأحوال كل دولة من دول الاقليم. بعض هذه التغيرات تجاوزت في حدوثها معدلات التطور المتدرج، وأهم نماذجها:

أولاً؛ تغيرات في نظام توازن القوة عند مستوى قمة النظام الدولي:

شهدت نهاية القرن العشرين غياب الاتحاد السوفييتي كقطب دولي لمصلحة تولي الولايات المتحدة مهام الهيمنة في النظام الدولي باعتبار أنها صارت قطباً أوحد في قمة النظام. كان لا بد أن يكون النظام العربي، بحكم ضعفه، أول من يتأثر بهذا التغيير الجوهري في هيكل توازن القوى العالمي.

كان مثيراً في أوساط دعاة العودة لتنشيط إيجابيات النظام القومي العربي ظهور بوادر اهتمام ببث أنفاس جديدة في جسد وعقل التكامل الاقتصادي العربي

ويشهد واقع الأمر بأن السلوك السياسي للولايات المتحدة في كثير من الحالات السابقة على انفراط الاتحاد السوفييتي كان ينم عن اقتناع أمريكي، وغربي بشكل عام، بأن الولايات المتحدة تحوز على حق التصرف كقطب مهيمن، حتى أن قادة عديدين دأبوا على إطلاق صفة القرن الأمريكي على القرن العشرين. أما التغير الجوهري في نظام توازن القوى الدولي الذي انعكست آثاره على أحوال السياسة الدولية بشكل عام ومن ضمنها حال العرب فكان عندما صعدت الصين صعوداً سريعاً ومتتالياً وشاملاً حتى احتلت واقعياً مرتبة القطب الدولي الثاني في نظام القمة.

كان لهذا الصعود والزيادة الكبيرة في حجم التعاملات الصينية العربية أثره المباشر في السياسات العربية الخارجية. لعله أثر قريب الشبه بالأثر الذي أحدثه نظام القطبين خلال مرحلة الحرب الباردة. وقتها سارعت دول عربية كبيرة بانتهاج سياسات تمنحها قوة في التعامل مع القطبين وتفادي وصمة التبعية وتكلفتها الباهظة. نلاحظ في هذه الأيام عودة لتبني هذا النوع من السياسات حتى من جانب دول عربية رفضت خلال الحرب الباردة سلوكيات الحياد وتمسكت بالانحياز للمعسكر الغربي. هذه الدول ذاتها تلتزم الآن سياسات تجاهر من خلالها بتمسكها بحقها في حرية قرارها السياسي الخارجي.

جدير بالذكر أن دول النظام الإقليمي العربي تنتمي في غالبيتها العظمى لجماعة دول الجنوب التي عاشت منذ الإستقلال تتعامل مع تحديات تراثية من نوعين؛ الأول، يتعلق بتراث الاستعمار الغربي؛ والثاني، يتعلق بتراث وبقايا نفوذ القوى العظمي الغربية والشرقية على حد سواء. مما لا شك فيه أن جانباً من الترحيب بالعلاقات مع الصين يجد جذوره في حاجة هذه الدول لممارسة سياسات تدعم جهوداً تتحدى بها ضغوط أحد التراثين أو كلاهما معاً.

الصين تنتظر من الجامعة العربية مجتمعة ومن دولها منفردة خطوات إيجابية تجاه دعم مصالحها وأهدافها في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، تجاه دعم استقلالية القرار العربي

ثانياً؛ جوار أشد بأساً:

نشأ النظام العربي وقضى أولى مراحله في حماية الدول الكبرى المهيمنة عليه. من ناحية أخرى، لم تتباين اختلافات هامة للقوة في منطقة الشرق الأوسط إلا في مرحلة متأخرة من مراحل تكوين النظام العربي. ففي هذه المرحلة المتأخرة، شهد النظام العربي تحديات خطيرة ناجمة عن اختلاف متزايد الاتساع في موازين القوى بين دول النظام العربي من ناحية ودول غير عربية في الجوار من ناحية أخرى. كانت إسرائيل، ولا تزال، التحدي الاكبر منذ أن زرعها في قلب النظام العربي قادة النظام الدولي المتولد عن الحرب العالمية الثانية. هذه الحقيقة ظل يتوارثها جيل بعد جيل من القادة العرب حتى أنه يتردد الآن أنه لو قُدّر وتأخر وصول الاسرائيليين إلى يومنا هذا، وأقصد في ظل توازنات القوى الدولية الراهنة، لما قامت دولة إسرائيل.

يتطور التحدي الذي تُمثّله إسرائيل ويتلون بتطور السياسات الأمريكية تجاه فرض إسرائيل لاعباً أساسياً في مواجهة نظام إقليمي عربي يزداد ضعفاً وانفراطاً. يحدث هذا في ظل استمرار عمليات توسع إسرائيل في أراضي الفلسطينيين غير عابئة بمعارضة صورية من جانب العواصم الغربية ومعارضة عاجزة من جانب الدول العربية. لا شك عندي أن هذا التحدي الذي واجهته الدول العربية منذ نشأة نظامها الإقليمي وتسبب في خلق انفصام خطير في العقل السياسي العربي يقف وراء تعقيدات أخرى عطّلت مسيرة النظام العربي، وفي الوقت نفسه، أنهكت علاقات الكثير من الشعوب العربية بقياداتها السياسية. لا جدال في أن قادة الجامعة العربية في مرحلتها الجديدة سوف يأتون إلى اجتماعاتها مزودين بمواقف، ولو إرشادية في بداية الأمر، تحاول بها التصدي لهذا التحدي.

إقرأ على موقع 180  مصر تقتنص الفرصة الفلسطينية.. ماذا عن فتح وحماس؟

كان تطوراً مثيراً ولا شك إقدام الصين على التدخل لتحقيق تفاهم بين السعودية وإيران. لم تحاول الاقتراب من الصراع العربي الإسرائيلي لارتباطه الوثيق، من وجهة نظرها على الأقل، بصراع آخر على مستوى أعلى، وهو الصراع أو المنافسة المتزايدة إصراراً بين الصين والولايات المتحدة. ثم أنها لا بد أنها أدركت أن سباق التسلح واحتدام الصراع بين العرب والفرس لن يخدم مصالحها وخططها لتعديل نظام وهياكل القمة الدولية. أتصور، أنا وآخرون، أن الصين تنتظر من الجامعة العربية مجتمعة ومن دولها منفردة خطوات إيجابية تجاه دعم مصالحها وأهدافها في الشرق الأوسط، وفي الوقت نفسه، تجاه دعم استقلالية القرار العربي.

ثالثاً؛ الاعتقاد المتجدد بأن لا أمل في “عودة الروح” للنظام العربي ومنظمته القومية إلا بالتكامل الاقتصادي:

إلى وقت طويل عانى العمل العربي المشترك من عجز شديد في خطط وممارسات التكامل الاقتصادي. توقفت مشاريع عديدة بعد أن وجدت السبيل للتنفيذ مع الطفرة المالية في أعقاب قرارات حظر تصدير النفط خلال الحرب العربية ضد إسرائيل في العام 1973. توقفت المشاريع ومعها تجمدت أنشطة مجموعة متميزة من خبراء التكامل في العالم العربي. كان مثيراً في أوساط دعاة العودة لتنشيط إيجابيات النظام القومي العربي ظهور بوادر اهتمام ببث أنفاس جديدة في جسد وعقل التكامل الاقتصادي العربي.

أثق أن دعوة صادقة وجادة لتدشين عصر عربي جديد كفيلة بأن تُطلق عقال مختلف المبادرات الإيجابية

يعلم القاصي والداني أن نهضة تكاملية في اقتصادات العالم العربي سوف تعني بالضرورة نهضة تكاملية مماثلة في دفاعات الأمن القومي العربي. نعلم أيضاً أن دولاً في الجوار، وإسرائيل بخاصة، لن ترحب أو تشجع هذا التكامل، وأن جهوداً مكثفة ستكون مطلوبة تجاه مؤسسات مالية واقتصادية لكسب تأييدها ودعمها، ومع ذلك كلنا ثقة في استطاعتنا تحقيق نقلة نوعية في مجال اليقين بجدوى العمل العربي المشترك وأداء أجهزته ومؤسساته ومنها المعطل حالياً، هذه النقلة صارت بالفعل جزءاً جوهرياً من حلم التجديد العربي.

لا أُقلّل من خطورة السلبيات والأمراض السياسية والاجتماعية المنتشرة في وضعنا الراهن، ولا أُقلّل من إحتمالات انتفاضتها ضد أي دعوة لتحقيق التكامل الإقتصادي والأمن القومي ولكنني أثق أن دعوة صادقة وجادة لتدشين عصر عربي جديد كفيلة بأن تُطلق عقال مختلف المبادرات الإيجابية. تعبنا من استمرار الفشل وخيبات الأمل وسوء الأداء وتفاقم الأمراض السياسية وتفشي الفساد والخلافات غير المبررة بين دول في النظام العربي، ضقنا ذرعاً بانقسامات داخل أوطاننا حول ذرائع أو حقائق هويات ثانوية، ضاقت الصدور بالعيش في ظل قيادات محلية ضيقة الآفاق أو قليلة الوعي بمحاسن العمل المشترك في الداخل كما مع الأشقاء في الخارج.

أتمنى لو اتفقنا على أن نعتبر أنفسنا أمام فرصة وتحدٍ. فرصة للنهوض يجب ألا تُفوَّت وتحدي قوى خارجية يجب أن نقابله بالإصرار والأمل.

Print Friendly, PDF & Email
جميل مطر

كاتب ومفكر مصري مهتم بقضايا الإصلاح والتحول الديمقراطي

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  سنة دولية صعبة تنتظر الصين.. السياسة أكثر من الإقتصاد