الاحتجاج بالتدخل الخارجي في ما تسمى “الإستحقاقات” سخيف وممقوت، إذ ما من أحد منهم إلا وله صلات خارجية يعتمد عليها. بعضهم لا يريد الدولة مطلقاً. أبعاضهم الأخرى متنوعة. منهم من يقبل الدولة كيفما كانت. ومنهم من لا يريدها إلا إذا كانت على صورة مقبولة لدى الايديولوجيا التي “يتمنعون” بها. جميعهم فيدراليون أو تقسيميون. رفض الدولة أو اتهام الآخرين برفضها سيّان. النتيجة واحدة: اللادولة العميقة.
في الفيزياء الكون لا يحتمل الفراغ. الجهلة منا لا يعرفون إلا اسم الموجات المغناطيسية، لكن العلماء يحدثوننا عن أنواع أخرى من الموجات تملأ الفراغ. نحتار أحياناً بأمر الجاذبية، إذ لا نصدّق بالحس المباشر؛ إلا أننا على وجه الأرض وفوقها. الكرة الأرضية مستديرة، ويمكن أن نكون على الجانب التحتي للأرض، لكن الجاذبية تشدنا إليها. أخيراً يُحدّثنا علماء الفيزياء عن مضاد المادة (anti-matter)، أي اللامادة. كفانا فيزياء. في المختبر الذي اسمه لبنان كثير من اللاوجود الذي يشكّل بالنسبة لأصحابه وجوداً حقيقياً.
كل ما نشهده في لبنان من السياسة هو في حقيقته لا سياسي. أصحاب اللادولة العميقة ينكرون السياسة، فقاموا بإلغائها. تعطيل المؤسسات هو جزء من ذلك. نعيش في دولة هي لا دولة
اللادولة العميقة هي في لبنان الدولة الحقيقية. لا يجوز أن تخدعنا المظاهر. كلام وتصريحات عن دولة وكيفية عملها، بالأحرى اقتسامها بعد جعلها مغانم لأهل الغلبة. اللادولة وسيلة ناجعة، بدءاً من فقدان نصابها، للسرقة والنهب وإخضاع الناس بعد إفقادهم الأمل، لا بالعبور الى الدولة وحسب، بل فقدان الأمل بالحياة، خاصة وأن أنواع النهب غير المألوفة عادة، في تاريخ لبنان، أو في بلدان العالم الأخرى، أدت الى ظهور طبقة جديدة من الرأسماليين الأغنياء المجهولي أصول ثروتهم. ما يمتازون به من غباء هو كذلك بالنسبة لنا، وهو ذكاء بالنسبة لأصحاب اللادولة والداعمين لها. ما يزدهر في لبنان الآن على الصعيد السياسي والثقافي والاقتصادي، وحتى الأخلاقي، هو اللادولة. تزدهر اللادولة العميقة، وهذه لها في التراث الايديولوجي، وحتى الثقافي عموماً، جذور عميقة. في بلاد الناس ينسبون اللادولة الى ما بعد الحداثة التي جعلت من الحداثة مهزلة بعد أن دمّرتها وصعدت النيوليبرالية الليبرتارية.
أهم دلائل اللادولة هي ما نشهده منذ بضع سنوات من رئيس ليس في تاريخه المجيد إلا تدمير الدولة أو ما تبقى منها في أواخر الثمانينيات، ثم التحالف مع أخصام الأمس في لبنان والمنطقة الذين ما اعتبروا يوماً إلا أن لبنان كيان غير طبيعي، وكأن هناك كيان سياسي في العالم هو أمر طبيعي، أو كأن الاقتصاد والثقافة والسياسة هي أمور طبيعية بمنزلة البيولوجيا.
في لبنان أسعار متتعددة للعملة، ومنصات عديدة لتبادل العملة، وكل شيء آخر. يمكنك شراء الشيء نفسه بأسعار متعددة في أمكنة مختلفة، أو في مكان واحد. حتى ما يتسرّب إليك من المصارف من دولارات يتعرّض لعمليات عديدة من الضرب والقسمة والطرح والجمع، قبل تسليمك اياها. الكلية أن لا تفهم كلياً ما يجري. الذين يعرفون ما يجري، على كل الأصعدة، هم جهابذة اللادولة.
تبدو لك أيها المواطن، العادي، وفوق العادي، وتحت العادي، الأمور معقدة وشديدة التداخل والتشابك، وفي نفس الوقت منفصلة الأسباب والنتائج، ومتداعية الوجود والقضايا. لكنها مترابطة عند أصحاب اللادولة ودعاتها. أنت لا تفهم ما يجري والمطلوب أن لا تفهم. هم وحدهم يفهمون لأنهم هم أصحاب القرار في اللادولة العميقة.
اللادولة العميقة هي في لبنان الدولة الحقيقية. لا يجوز أن تخدعنا المظاهر. كلام وتصريحات عن دولة وكيفية عملها، بالأحرى اقتسامها بعد جعلها مغانم لأهل الغلبة
انتظام الدولة أمر ضروري كي يفهم المواطن ما عليه وما له، وكي يمارس الناس التواصل بلغة مفهومة، وكي يمارسون السياسة برغبة في الحوار والنقاش والتعبير عن رأي ما، أو ما يسمى الرأي العام الذي يستند إليه أهل القرار في تعيين مسار الأمور. لا يراد للأمور مساراً مقبولاً مفهوماً معقولاً. اللاعقلانية هي ايديولوجيا أصحاب اللادولة العميقة التي يفرضونها على الناس. ليس أن اللبنانيين لا يعقلون، بل لا يراد لهم ذلك. حبذا لو اعتقد أصحاب اللادولة العميقة أن اللبنانيين يفهمون لو جرت مخاطبتهم بلغة قابلة للفهم. في السياسة إفصاح وجهر، وهم ينكرون ذلك ويروننا لا نستحق إلا ما هو غير قابل للفهم.
كل ما نشهده في لبنان من السياسة هو في حقيقته لا سياسي. أصحاب اللادولة العميقة ينكرون السياسة، فقاموا بإلغائها. تعطيل المؤسسات هو جزء من ذلك. نعيش في دولة هي لا دولة.
(*) اللوحة للفنان التشكيلي اللبناني شارل خوري