التاريخ لا يكتبه فقط.. المنتصرون!

"التاريخ يكتبه المنتصرون". عبارة قديمة أصبحت مع الوقت من المسلّمات، لكن هل صحيح أنّ التاريخ يكتبه المنتصر فقط؟

لنأخذ مثلاً الأناجيل الأربعة التي دوّنها المسيحيّون الأوائل عن تاريخ حياة السيد المسيح. لم يُدوّنوها وينشروها عندما كانوا منتصرين، بل كمهزومين أرادوا من خلالها إبعاد مرارة الهزيمة عنهم (تحديداً مقتل المسيح على الصليب). وأيضاً، إذا أخذنا كتاب التوراة، فقد دُوّن في زمن الهزائم التي لحقت ببني إسرائيل، لا في زمن النصر (الذي يمكن حصره نظريّاً بفترة حكم داوود وسليمان).

أما تركيزي على هذين المثلين، فسببه أنّ التاريخ التوراتي والمسيحي هو أساس الأديان التي نسمّيها “سماويّة” أو “توحيديّة”، وهذا التاريخ يؤمن به (وبحقيقته) الكثير من البشر في يومنا هذا، والذين هم بمعظمهم ليس لهم علاقة مباشرة (عرقا أو نسباً) ببني إسرائيل أو أتباع المسيح الأوائل. هذا التاريخ كتبه منهزمون قبل أن يصبح مع الوقت ولأسباب معقّدة أساساً لتاريخ شعوب أخرى. هذه الشعوب أخذته وأعادت كتابته ليس بالضرورة في زمن نصرها.

إذاً، ليس صحيحاً أنّ التاريخ يكتبه المنتصر دائماً. وكما في كثير من العبارات الشهيرة، المشكلة هي في المعنى الذي نعطيه للكلمات، في هذه الحال كلمة “يكتبه”. وحتّى إذا بدّلناها بكلمة أخرى، مثلاً “يعيد كتابته” أو “يفسّره”، فنحن أمام عبارات لا تقلّ إشكالاً عن العبارة السابقة: “التاريخ يعيد كتابته المنتصر”، أو “التاريخ يفسّره المنتصر”؛ فهما ليستا أصوب من “التاريخ يكتبه المنتصر”. وأعطي مثلاً هنا تفسير المسيحيّين الأوائل المهزومين لكتاب التوراة وإعادة كتابته على أنّه يتنبّأ بمجيء المسيح.. هذا تاريخ أخذه منهزم من منهزم.

التاريخ هو حقائق وحكايات وروايات وخرافات وأمنيات يكتبها الكثيرون، لكن في الكثير من الحالات، يتعلّق بها المهزومون لأنّها تسهّل عليهم التعايش مع الهزيمة.

والتاريخ أيضاً كتبه ويكتبه متنفّعون، لا ناقة لهم ولا جمل في موضوع الهزيمة والنصر. كلّ همّهم لفت الإنتباه، أو كسب الجاه أو المال.

التاريخ ليس محصوراً بمن يكتبه، بل بمن يقرأه (بغض النظر عمّا إذا كانت القراءة فرديّة أم جماعيّة): من هو، ولماذا يقرأه، وماذا يقرأ منه، وأين يقرأه، ومتى يقرأه. هذه العوامل مهمّة لأنّها تدلّنا على تشعبّات دراسة التاريخ، وتفضيل القارئ لرواية معيّنة مقارنةً بروايات أخرى، وطرحه لأسئلة محدّدة وتجاهله لأسئلة أخرى (إمّا لأنّه يصرف النظر عنها، أو يرفض أن يخوض فيها، أو لأنّها لا تخطر على باله أصلاً). وفي كلّ هذه الأمور، علينا أن نسأل لماذا لا تخطر على باله أو لماذا يرفض الخوض فيها، وهل سبب ذلك هو قناعاته وميوله، أو الجو السياسي في مكانه وزمانه، أو..؟

ليس كلّ تاريخ كتبه المهزوم طبعاً. بعض التاريخ كتبه المنتصر. لكن ليس لدينا أي منتصر استمرّ انتصاره عبر الزمن. فالمنتصر الذي كتب تاريخاً، سرعان ما أصبح مهزوماً. إذاً، كيف نُقرّر من هو المنتصر ومن هو المهزوم؟ أهي لحظة النصر، أم استمرار النصر، أم استعارة النصر؟

التاريخ الإسلامي هو أيضاً من التواريخ التي نجد فيها الكثير من هذه الإشكالات، وهو شهد كتابات وقراءات، وإعادة كتابات وإعادة قراءات عديدة عبر الأزمنة والتي نتجت عن مقاربات مختلفة ومتشعّبة (عقائديّاً أو إيمانيّاً أو قبليّاً أو عرقيّاً أو مناطقيّاً أو..). مثلاً، الرواية الشيعيّة للتاريخ الإسلامي في عصر النبي محمد حتّى زمن معاوية لم يدوّنها الشيعة كمنتصرين بل كمهزومين. همّها الأساس هو التأكيد على أنّ المنتصرين (أبو بكر، عمر، عثمان، الأمويّون والعبّاسيّون) لم يكونوا أصحاب الشرعيّة الإلهيّة. وشيوع الرواية السنيّة التقليديّة في يومنا هذا هو ليس نتاج لانتصار من كتبها أصلاً أو لانتصارات حاليّة، بل لهزائم حتّمت واستلزمت إعادة قراءة التاريخ الإسلامي القديم.

هناك أمثلة أخرى كثيرة من التاريخ الإسلامي نجد فيها أنّ من كتب التاريخ كان المهزوم. مثلاً، ما نسمّيها الفتوحات الإسلاميّة في بلاد الشام تحديداً، ليس هناك من دليل أثري أنّها حصلت بمعنى الفتح العسكري. صحيح أنّ العرب تمدّدوا وسيطروا على بلاد الشام في زمن عمر بن الخطّاب، لكن هذا لم يكن فتحاً نتج عن معارك، بل نتاج انهيار السيطرة البيزنطيّة ورغبة أهل الشام المسيحيّين في فتح مدنهم للعرب والصلح معهم.

لكن نقرأ في المصادر التاريخيّة عن معارك وبطولات وقتال و.. (اليرموك، أجنادين، مرج الصفّر،..). وعلينا أن نسأل من كتب هذه المصادر، ولماذا، ومتى، وأين؟ إذا نظرنا في الروايات عن “فتوح” الشام، مثلاً، نجد من أهمّها تلك التي ألّفها سيف بن عمر التميمي (ت. أواخر القرن الثامن للميلاد)، وهو من الكوفة من قبيلة بني تميم. الواضح في رواية سيف أنّ هدفه هو إبراز الدور الكبير لـ”أبطال” بني تميم في الـ”معارك” ضدّ الجيوش البيزنطيّة. هل ضخّم أو حتّى لفّق سيف بن عمر هذه الروايات عن قبيلته ورجالها في فترة شهدت زوال نفوذ التميميّين في الكوفة مع ظهور العبّاسيّين واضمحلال دورهم؟ إذا كان هذا صحيحاً ولو في بعضه، يشير إلى أنّ سيف بن عمر كتب روايته ليس كمنتصر بل كمهزوم، وأراد من الماضي أن يعيد إليه بعض الأمجاد الغابرة في الحاضر.

إقرأ على موقع 180  الأنبياء في القرآن.. أين ذهب طالوت/شاوُول؟ (6)

ليس كلّ تاريخ كتبه المهزوم طبعاً. بعض التاريخ كتبه المنتصر. لكن ليس لدينا أي منتصر استمرّ انتصاره عبر الزمن. فالمنتصر الذي كتب تاريخاً، سرعان ما أصبح مهزوماً. إذاً، كيف نُقرّر من هو المنتصر ومن هو المهزوم؟ أهي لحظة النصر، أم استمرار النصر، أم استعارة النصر؟ وأريد أنّ أوضّح النقطة الأخيرة: نعم، معظم التاريخ المكتوب كتبه من يريد أن يستعير نصر غيره ويجعل منه نصره.

اليونانيون هُزموا، والرومان هُزموا. وجاء منتصرون بعدهم سخروا منهم. وإعادة الإعتبار لهم في تاريخنا الحديث لا علاقة لها بتاتاً بهم كمنتصرين، بل تتعلّق بحاجة طبقة من المفكّرين في أوروبا الغربيّة (في عصر النهضة وعصر التنوير) لإستعارة تاريخ (مختلف عن التاريخ الكنسي) ليؤسّسوا عليه أفكارهم التجديديّة؟ وعندما بدأوا بذلك، لم يكونوا بعد منتصرين على الأرض. وأهمّ الأمثلة على ذلك نجده في دور مدينة فلورنسا في إطلاق هذه الأفكار في عصر النهضة، حيث انتهى بها المطاف إلى الهزيمة، لكن الكتابات والفنون التي أنتجتها أصبحت المدخل لإعادة كتابة وقراءة التاريخ القديم (خصوصاً التاريخ الإغريقي-الروماني) في كامل أوروبا والعالم.

من دون شكّ، قبل كتابة التاريخ، علينا قراءته، وعندما نقرأه نفرض عليه أجندتنا، فيقول لنا ما نريد أن نسمعه. إذاً، العبارة يجب أن تصحّح إلى “التاريخ يكتبه قارئه”

وللمفارقة، معظم التاريخ اليوناني والروماني ليس بالضرورة تاريخ أهل فلورنسا (فهم لم يكونوا لا يونانيين ولا رومان). وهذا التاريخ ليس له علاقة أيضاً بالأوروبيّين الحاليّين والذين هم بمعظمهم من أصول سلتيّة أو جرمانيّة أو سلافيّة أو غوطيّة.

صحيح أنّ التاريخ الإغريقي والروماني هو تاريخ متشعّب لا يمكن إختزاله بمكان أو زمان أو شعب محدّد. فكثير ممّا نزعم أنّه تاريخ “يوناني” قديم لم يحصل في اليونان، بل في أماكن كانت تحت النفوذ الإغريقي (كآسيا الصُغرى وبلاد شرقي المتوسّط ومصر)، وكثير من الأسماء اللامعة في تلك الأزمنة لم تكن لا يونانيّة ولا إغريقيّة بالمعنى العرقي (إذا لم نقل أنّ أكثر التاريخ والفكر اليوناني القديم مسروق من حضارات سبقتهم، وأهمّها حضارات ما بين النهرين ومصر وبلاد الشام القديمة). وأيضاً، الحضارة الرومانيّة انتشرت من بريطانيا إلى العراق، ومن إلمانيا إلى شمال إفريقيا، وبذلك لا يمكن اختزاله بأهل شبه الجزيرة الإيطاليّة الحاليّة إلاّ من منطلق غير سوي؟

في الخلاصة، هناك دوافع كثيرة ومتعدّدة لكتابة التاريخ. بعض التاريخ كتبه منتصرون، والكثير منه كتبه مهزومون. يذهب هذا أو ذاك ويأتي من بعده منتصر أو مهزوم، فيكتب تاريخه أو يعيد كتابة تاريخ من جاء قبله. وبذلك يختلط ما كتبه المنتصر مع ما كتبه المهزوم، وما كتبه المنهزم نقلاً عن المنهزم، أو المنتصر عن المنتصر. لكن من دون شكّ، قبل كتابة التاريخ، علينا قراءته، وعندما نقرأه نفرض عليه أجندتنا، فيقول لنا ما نريد أن نسمعه. إذاً، العبارة يجب أن تصحّح إلى “التاريخ يكتبه قارئه”.

Print Friendly, PDF & Email
سليمان مراد

كاتب وأستاذ جامعي مقيم في الولايات المتحدة

Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
Free Download WordPress Themes
online free course
إقرأ على موقع 180  القدس.. ومهالك الخرافات الدينية الحديثة