يعيش الإنسان، عادةً، وفق معادلةٍ بسيطة. فهو يتقصّى المعلومات. أو هي التي تأتي إليه. يستقيها من احتياجاته الذاتيّة. أو من البيئة الطبيعيّة التي يوجد فيها. أو من شبكة العلاقات الاجتماعيّة التي ينسجها. وطوال حياته، يتصرّف بناءً على تلك المعلومات التي يُخزّنها. فهي التي تحفّز استجابته وتفاعله مع محيطه. وهي التي تحوّله من مجرّد كائنٍ بشري إلى كائنٍ اجتماعي. يطالع كتاباً. يسمع قصّة إذاعيّة. يشاهد برنامجاً حواريّاً. يقرأ افتتاحيّة صحيفة. يتصفّح موقعاً إخباريّاً. فتتشكّل لديه مجموعة من الخيارات والمواقف. في يوميّاته وتحوّلاته. وفي عظائم الأمور وصغائرها.
تلك هي الخلاصة العامّة للأدوار التي يمكن للإعلام أن يضطلع بها. أدوار تستطيع أن تنقل واقعنا من أقصى الإيجابيّة إلى أقصى السلبيّة. وبرفّة عين. فلوسائل الإعلام مكانة مركزيّة في حياتنا. وفي الحياة العامّة على تعدُّد أوجهها. إنّها ماكينة أزليّة تُغرِق العالم، وعلى مدار الساعة، بما “تنتقيه” للبشر من معلومات وأخبار ووقائع ومواقف ونقاشات وسجالات و.. لكي تبثّها في عقولهم ونفوسهم وغرائزهم. لذا، يكتسي “المحتوى” الذي تُرسله إلينا، نحن الجمهور المتلقّي العريض، حساسيّةً خاصّة. ولا سيّما عندما يكون هذا الجمهور يتخبّط بين أمواج أزماته العاتية. وكوابيس انهياراته المتوالدة. نعم. يرتبط الإعلام ارتباطاً وثيقاً ببناء المجتمع ككلّ. وبتدميره على حدٍّ سواء. هل أُبالغ في التقديرات؟ أبداااااً.
كيف يمكن أن نفهم تلذّذ مقدّمي البرامج المسمّاة حواريّة بإثارة ضيوفهم، بعضهم على بعض، وحثّهم للتصادم كمؤشّرٍ لنجاح البرنامج؟ وماذا تُسمّى في علم البيداغوجيا تلك التربية المنظّمة والمنتظمة على التبعيّة والمحسوبيّة والاستزلام والمواقف التصادميّة النزاعيّة التي تقدّمها لنا يوميّاً النشرات الإخباريّة؟
مع بداية هذا القرن، تزايدت الإشكاليّات المحيطة بالمهنة الإعلاميّة. وصار الحديث عن أخلاقيّات الإعلام وأساليب الضبط الذاتي للإعلاميّين، المعادِل الموضوعي للحديث عن أهميّة الإعلام ذاته. وعن أهميّة أدواره ووظائفه في المجتمع. كيف لا، والإعلام يُعتبَر من أقوى “جبهات القتال” على مرّ التاريخ! وتضاعفت قوّته مع الانتقال إلى الزمن الرقمي. وعصر الفضائيّات العابر لكلّ حيّزٍ جغرافي. انتقلت الساحة العامّة إلى حقل الميديا. وعلى عكس التطوّر التاريخي، باتت وسائل الإعلام (ولا سيّما المرتبط منها بمراكز قوى ليبراليّة معولمة) عائقاً أساسيّاً أمام تشكُّل الهويّة الجامعة في إطار الدولة/الوطن. فأُعيد إنتاج هويّات ما قبل المجتمع. وهويّات فرعيّة وبديلة وأحياناً وهميّة. وتفشّت، في الفضاء العامّ، شتّى صنوف الخطابات الفئويّة الضيّقة. لكن، مَن يحدّد لوسائل الإعلام وُجْهَتها؟
للإجابة على هذا التساؤل، يكفي استنباط الأركان التي تشكّل “الخلطة السريّة” للإعلام: المال والسياسة والمصالح. فرجال الأعمال يحتاجون إلى الدعم المادّي وإلى الإعلام للتسويق والترويج لنشاطهم. والسياسيّون يحتاجون إلى رجال الأعمال وإلى الإعلام، أيضاً، لتغليب خدمة مصالحهم (الخاصّة والعامّة). والإعلام يحتاج (لاستمراريّته) إلى رجال الأعمال والساسة كي يؤمّنوا له تدفُّق ملايين الدولارات. من هنا ندرك، لماذا يولي الإعلام وجهه نحو بوصلة المموِّل! ونحو أجندة هذا السياسي أو ذاك!
يحتاج الصحافيّون إلى “رضى” السياسيّين. لأنّهم يعتبرونهم، ببساطة، مصدر المعلومات الأهمّ لموادّهم. لكنّ ثمن هذا الرضى باهظٌ على المهنة. وأكثر. لقد استحال معضلةً حقيقيّة. بخاصّة، بعدما طغت على ممارسة السياسيّين عقليّةُ الوصاية والهيمنة على الصحافيّين. على “صنفٍ محدَّد” منهم، بطبيعة الحال. وأعني بهم، تحديداً، الصحافيّين من “أصحاب المصلحة الدائمين والروابط المشبوهة”. أولئك الذين يتولّون، في كلّ مكان، وعْظنا. ووصْف الرأي لنا كالدواء. رهيبٌ النعت الذي أطلقه عليهم الصحافي والكاتب الفرنسي سيرج حليمي. شبّههم بـ”كلاب الحراسة الجُدد”(*) الذين يعزّزون قوّتهم بقانون الصمت. ويفرضون تعريفهم للمعلومات. ويطابقون، بأعجوبة، بين مصالح رؤسائهم ومصالح هذه المعلومات. أين إعلامنا من كلّ ذلك؟
كثيرون منكم يرون، كما أُرجِّح، أنّ شريحة كبيرة من إعلاميّينا معنيّون بتشبيه سيرج حليمي. فوسائل إعلامنا، بمعظمها، صارت تتعاطى مع الأحداث من زاويةٍ خاصّة وجزئيّة. وأصبحت المعلومة لديها تخضع للتسليع (الذي يُنتِجه نظامنا ومنظوماته كافّةً). ويخضع كذلك “للالتحام” المرتكز على المصالح بين عوالم السياسة والاقتصاد والإعلام. فدور وسائل الإعلام في لبنان وعلاقتها بجمهورها، كانا ولا يزالان مدار نقاشاتٍ ومؤتمراتٍ ومساجلاتٍ طويلة. وبقدْر ما تعاظمت مكانة هذه الوسائل (من خلال التقنيّات الاتصاليّة وإمكانيّات الانتشار غير المحدود في الزمان والمكان)، بقدْر ما صار تحديد “مهامّها” وضبطها مسألة ملحّة. إنْ على صعيد النظريّات الإعلاميّة. أو على صعيد التشريعات القانونيّة.
لكنّ أكثر ما يثير الريبة، ربّما، هو تلك العلاقة الارتباطيّة القويّة والثابتة بين الإعلام والسياسيّين في لبنان. وكأنّها علاقة تقوم على مبدأ “الاعتماد المتبادل” بين الطرفيْن. بل، على قاعدة الإخضاع السياسي والطائفي والمالي للمؤسّسات الإعلاميّة. ووضْعها في خدمة مصالح نظامٍ حاكم تقوده مافيات وميليشيات لها امتدادها ونفوذها في معظم مؤسّسات الدولة وأروقتها. وعليه، باتت تُطرَح نقاط استفهام عديدة حول “الوظيفة” التي تؤدّيها وسائل الإعلام اللبناني، فعليّاً، في ظلّ الوضع السائد. المحطّات التلفزيونيّة، على وجه الخصوص. فما الهدف، مثلاً، من فتح الشاشات على مصراعيْها لجميع أقطاب الطبقة السياسيّة الذين صرخنا في الساحات لإسقاطهم “كلّن يعني كلّن”؟ وما معنى هذه الاستماتة في الدفاع عن حاكم مصرف لبنان؟ ولماذا كلّ تلك الحملات الإعلانيّة للمصارف “التي لا تنشد سوى راحة المودعين وسلامتهم”؟ وكيف يمكن أن نفهم تلذّذ مقدّمي البرامج المسمّاة حواريّة بإثارة ضيوفهم، بعضهم على بعض، وحثّهم للتصادم كمؤشّرٍ لنجاح البرنامج؟ وماذا تُسمّى في علم البيداغوجيا تلك التربية المنظّمة والمنتظمة على التبعيّة والمحسوبيّة والاستزلام والمواقف التصادميّة النزاعيّة التي تقدّمها لنا يوميّاً النشرات الإخباريّة؟ وإلى أين يوصِل إغراق اللبنانيّين باستهلاك مضامين سطحيّة وتافهة (بمعظمها) يعجزون، حتّى، عن التمييز بين غثّها وسمينها وبين خطئها وصوابها؟ الله أعلم.
يحتاج لبنان واللبنانيّون اليوم إلى إعلامٍ يستعيد في محتواه سلطة المعايير الناظمة للحياة العامّة. وإلى نشر ثقافةٍ حقوقيّة. لكنّ إعلامنا هو إعلامٌ غير مفيد. لا يفيد المجتمع بشيء. بل على العكس تماماً. إعلامنا إعلامٌ مُضرّ. تقهقرتْ فيه القيم التأسيسيّة إلى أسفل الدرك. وأثخنته الذهنيّة الاستهلاكيّة. وأخصاه تواطؤه مع بعض السلطة ضدّ جزءٍ آخر من السلطة. لقد فشل الإعلام اللبناني في امتحان المصداقيّة، بالمطلق. فبات إعلاماً “منذوراً” لتضليل الرأي العامّ، لا أكثر. تقزّم دوره إلى حدود “عمليّات الأخذ والردّ” مع أهل الحُكم، ليس إلاّ. إعلامنا، بغالبيّته، خاضعٌ أو تابعٌ لمراكز النفوذ والمال. لقد بدّد، للأسف، دوره. وصار إعلاماً مشلولاً ومشبوهاً. نقده مشكوكٌ فيه. لا يقوى على المراقبة التي هي أساس “السلطة الرابعة”. ولا على حماية المجتمع من تغوّل الطغمة الحاكمة. لقد تحوّل المتلقّون، بفضله، إلى آلاتٍ غير مبالية بالقتل. والضحايا إلى أرقام. والدماء إلى مشهدٍ معتاد. والذلّ إلى واقعٍ لا يستدعي الغضب أو النقمة. نعم. يتحمّل الإعلام اللبناني مسؤوليّة مهولة في ما آلت إليه أوضاع البلد منذ الـ 2019.
عادل مالك عملاق الصحافة هذا، يصارع في هذه الأيّام العجز والمرض في بلد لصوص الحياة والبلطجيّة. أطلّ قبل يوميْن على إحدى الشاشات وهو طريح الفراش. لم يكن ينقصه سوى أن يشحذ تكلفة الاستشفاء. منظره يقطّع القلب. ويندى له الجبين
كلمة أخيرة. في مقابلاته، يُسهِب الصحافي الكبير عادل مالك في الحديث عن أحوال مهنة الصحافة والإعلام. هو الذي يُعَدُّ واحداً من الفريق الذي أرسى قواعد المهنة في لبنان مطلع ستّينيّات القرن الماضي. يُفرّق عادل مالك ما بين زمنيْن؛ زمنٌ أوّل “ما عاد يرجع” وزمنٌ راهن يتخبّط في “حالة فوضى كبيرة”. اسمعوا يا أصدقاء، كيف يشرح عن شغفه بمهنةٍ أمضى فيها أكثر من نصف عمره: “لقد اخترتُ الصحافة وهي اختارتني. لذا قدّمتُ لها كلّ أنواع التضحيات بلا حساب. إنّها بالنسبة لي نَمَطُ حياة، ولن أستقيل منها حتّى يقضي الله أمراً كان مفعولاً”. عملاق الصحافة هذا، يصارع في هذه الأيّام العجز والمرض في بلد لصوص الحياة والبلطجيّة. أطلّ قبل يوميْن على إحدى الشاشات وهو طريح الفراش. لم يكن ينقصه سوى أن يشحذ تكلفة الاستشفاء. منظره يقطّع القلب. ويندى له الجبين. يا أصحاب المروءة، لا تدعوه يعاني أكثر ويُذَلّ أكثر. إقتضى البكاء من الآن وحتّى طلوع الفجر.
(*) يستوحي سيرج حليمي عنوان كتابه الصادر في 1997 “كلاب الحراسة الجُدد” من عنوان كتاب المفكّر الفرنسي بول نيزان الصادر في 1932 “كلاب الحراسة”، وفيه يُندّد نيزان بفلاسفة عصره وكتّابه ومثقّفيه ممّن كانوا يستترون تحت غطاء الحياديّة والموضوعيّة الفكريّة، ليُنصّبوا أنفسهم حرّاساً حقيقيّين للنظام القائم.