من الصعب معرفة مقدار أهمية تفسير السيناريو الكابوسي الذي استحضره العديد من المدافعين عن الحرب، مثل أن صدام حسين كان يزوّد الإرهابيين بأسلحة دمار شامل لإستخدامها ضد أهداف على الأراضي الأميركية. كل الاحتمالات كانت عبارة عن تخمينات فقط، في حين أن الفشل الأميركي الأول كان في توقع كيفية اختطاف طائرات تجارية وتحويلها إلى صواريخ.
لكن، وبرغم أن احتمال أن يستخدم صدام أسلحة الدمار الشامل (إن وُجدت) ضد الأميركيين كان شبه معدوم، فمن المؤكد أن أسلحته “المفترضة” كانت تشكل عقبة أمام المخططات الأميركية في الشرق الأوسط. في هذا الخصوص كتب دوغلاس فيث، الذي شغل منصب وكيل وزارة الدفاع خلال الفترة التي سبقت الحرب، يقول: “من دون حجة الأسلحة كنَّا لنخسر مبرراتنا في رغبتنا في الدفاع عن مصالحنا”(…). واعترف فيث قائلاً: “صدام ربما كان يفضل تركنا وشأننا. القضية كانت من كان ليجبرنا على تركه وشأنه… الإبقاء على صدام كان سيعرقل هيمتنا في المنطقة. والعكس صحيح، بغض النظر ما إذا كان الغزو أفضل طريقة لتحقيق ذلك أم لا”.
حرب وقائية
تركز الروايات بأثر رجعي، بما في ذلك كتاب حديث للمؤرخ ملفين ليفلر، بشكل ضيق للغاية على مسألة أسلحة الدمار الشامل، وهو سبب أبعد ما أن يكون كافياً لتبرير الغزو. حتى لو لم يعمد مسؤولو إدارة جورج دبليو بوش إلى تحريف المعلومات الاستخباراتية المتعلقة بترسانة العراق، فإن الرغبة في إزاحة صدام لن تأخذ في الحسبان الجوانب الرئيسية لشن الحرب. “الخوف” غير كافٍ لتفسير وتبرير سبب قرار إدارة بوش بسحب مفتشي الأسلحة من العراق في آذار/مارس 2003. بحلول ذلك الوقت، كان الفريق الدولي قد أجرى أكثر من 550 عملية تفتيش دون سابق إنذار، وكان يُحرز تقدماً ملحوظاً بشهادة كثيرين، وكان بإمكانه متابعة مهامه للنهاية (…). الواضح أن دُعاة الغزو، وفي مقدمتهم ديك تشيني، لم يرغبوا أبداً في منح أي فرصة لعمليات التفتيش.
يمكن تفسير الاندفاع إلى الحرب بشكل أفضل من خلال الرغبة في تعزيز شعور أميركا بالتفوق والقوة والهيمنة بعد تعرضها لهجمات 11 أيلول/سبتمبر المدمرة. نائب مستشار الأمن القومي لتشيني، آرون فريدبرج، قال في تصريح صحفي إن الإدارة تهدف “ليس فقط لأن تكون قاسية بل لإعادة تأسيس مفهوم الردع. كان من الضروري القيام بشيء كبير بعد هجمات أيلول/سبتمبر لتثبيت مكانة الهيمنة الأميركية”. في 30 أيلول/سبتمبر، كتب رامسفيلد لبوش يقول: “إذا لم تغير الحرب بشكل كبير الخريطة السياسية للعالم، فلن تحقق أميركا هدفها. يجب علينا أن نسعى، من بين أمور أخرى، إلى تنصيب أنظمة جديدة في أفغانستان ودولة رئيسية أخرى (أو إثنتين)”.
من هذا المنطلق، بالكاد كان يهم ما إذا كان للعراق أي صلة أو دور في هجمات أيلول/سبتمبر، وبالكاد كان هناك من يصدق رواية ترسانة أسلحة الدمار الشامل. كذلك لم يعر أحدٌ أي اهتمام لحلول أخرى مثل البحث عن خطة لإحتواء العراق من دون تفكيك نظامه. وعلى حد تعبير عالم السياسة إحسان بات “كان المطلوب ترتيب حجم التغيير الضروري كما طالب رامسفيلد، أي تدمير خصم أو اثنين، والإطاحة بأنظمة وتنصيب أخرى بديلة، من أجل إيصال رسالة لمن يهمه الأمر: لا تقلل من شأن قوتنا أو رغبتنا في استخدام هذه القوة”.
تبدو حرب العراق وكأنها قد اختفت من الذاكرة الجماعية.. واشنطن تحتاج إلى كسب هدف متجدد لتثبيت قوتها العالمية.. وهذا ما تفعله في مواجهتها للصين وروسيا
في الحقيقة، كان مهندسو الحرب يحاولون تحصين موقع القوة البارزة لأميركا من خلال حرب وقائية (…). تشيني، مثلاً، وعد الأميركيين، قائلاً: “سيتم الترحيب بنا كمحررين”. وأن الفوائد المحتملة للإطاحة بصدام ستعود أيضاً على إسرائيل والسعودية وشركاء أمنيين آخرين لأميركا في المنطقة. ولكن احتمال أن أميركا تستطيع حماية أمنها من خلال تقليص مشاركتها في المنطقة لم يتم إعارته ما يكفي من الإهتمام، لأن السعي وراء السيطرة انحرف بشكل مثير للسخرية عن تكاليفه المميتة من خلال توليد مهام جديدة وأكثر فتكاً.
إهمال إلى حد الإجرام
على مدى العقد التالي، سمع الأميركيون ما يكفي من أسباب تبرر الكوارث التي أوصلت إليها حرب العراق: لقد فشلت إدارة بوش في إعادة إعمار البلاد، وتركت الدولة العراقية تنهار وتغرق في أتون حرب أهلية دامية ومدمرة، أصرت على فرض الديموقراطية تحت تهديد السلاح دون نتيجة، والخطط التي وضعتها من أجل “بناء عراق جديد” ثبت أنها غير فعَّالة (…).
بعد مرور عام على الحرب، لم يتخذ بوش دائماً القرارات الصحيحة بشأن كيفية المضي قُدماً في ما يخص أفضلية إعادة إعمار العراق، بينما حثَّ القوات الأميركية على البقاء “طالما دعت الحاجة“. في كتابه الصادر عام 2005 عن الحرب، انتقد الكاتب جورج باكر فريق بوش بسبب “الإهمال الإجرامي”. وقال عن حرب العراق “من الصعب مسامحة مهندسيها على التهور الفظيع الذي ارتكبوه”.
لا عجب في أن الأطراف التي انتقدها باكر تبنت موقفاً مماثلاً. ففي العام 2006، اعترف بوش وكوندوليسا رايس بـ”ارتكاب الآلاف من الأخطاء في التخطيط للغزو”، وفي الوقت نفسه قالا إنه كان قراراً “سليماً” من الناحية الإستراتيجية.
بدأ الرأي العام الأميركي ينقلب ضد الحرب ويرفض أعذار واشنطن (…). عندما شرعت النُخب السياسية في التعامل مع الحرب على أنها “خطأ تكتيكي”، وأنها بُنيت على معلومات استخباراتية كاذبة وجرى التخطيط لها بشكل متهور.
بحلول انتخابات الكونغرس عام 2006، توقع البيت الأبيض أن يصب قرار شنّ الحرب في صالح الحزب الجمهوري ويضع الديموقراطيين في خانة “الانهزاميين”. لكن الديموقراطيين فازوا بمجلس النواب بعد 12 عاماً من الحكم الجمهوري، بقيادة نانسي بيلوسي، التي وصفت الغزو بـ”الخطأ البشع”.
وبرغم ذلك، أمر بوش بـ”زيادة” القوات في العراق كمحاولة أخيرة لتحقيق الاستقرار هناك. أسفرت الانتخابات التالية، في عام 2008، عن مفاجأة أكبر: فوز باراك أوباما، الشاب والأسود والليبرالي، على كبار أعضاء مجلس الشيوخ، هيلاري كلينتون وجون ماكين (اللذين صوتا لصالح الحرب). شكَّل موقف أوباما من حرب العراق ميزته الرئيسية في الحملة التمهيدية، خصوصاً عندما قال “لا أريد إنهاء الحرب فقط، بل وإلغاء العقلية التي أوصلتنا إليها في المقام الأول”. بدا أن أوباما يقدم “إنفصالاً نظيفاً” ليس فقط من إدارة بوش ولكن أيضاً من نُخبة السياسة الخارجية التي “ركبت عربة الحرب”، على حد تعبيره في حملته الانتخابية.
في ما بعد تبين أن “الإنفصال النظيف” كان خاطئاً. ففي حين كان بوش متهوراً، كان أوباما متمهلاً إلى حد التردد. إتخذ قرار سحب القوات الأميركية من العراق في عام 2011، لكنه أبقى الحرب في أفغانستان مستمرة، وانتهى به الأمر بإرسال قوات مرة ثانية إلى العراق وسوريا؛ في عام 2014 لمحاربة “داعش”. في الوقت نفسه، حافظ على الشراكات الأمنية التي ورثها، وركز على “محاربة الإرهاب” بواسطة الطائرات الحربية المسيَّرة والقوات الخاصة. لقد وجد نفسه غارقاً في الشرق الأوسط ربما للسبب نفسه الذي جعل سلفه (بوش) يشن الحرب في العراق وأفغانستان: أن تبقى أميركا قوة مهيمنة على كل العالم. وكما كرر أوباما دائماً: “أمة لا غنى عنها”.
واشنطن أسيرة عبودية “الهيمنة”.. تترنح بين مشاكلها التي تسببت بها لنفسها وبين المشاكل التي سببتها للآخرين وتتهرب من مسؤوليتها. وبهذا المعنى، تظل حرب العراق عملاً غير مكتمل بالنسبة لها
في الانتخابات الرئاسية المقبلة، كان على دونالد ترامب الاستفادة من غضب الجمهور. فوجه الصدمة الثالثة للمؤسسة السياسية عندما انتقد حرب العراق على أنها “أسوأ قرار” في التاريخ الأميركي. كان ترامب يكذب عندما إدعى أنه عارض الغزو طوال الوقت، لكن كان ذلك كافياً لبعض الناخبين للوثوق به كقائد أعلى للبلاد (…).
في كثير من الأحيان تبدو حرب العراق وكأنها قد اختفت تماماً من الذاكرة الجماعية. القادة السياسيون يسعون مرة أخرى إلى طيّ الصفحة. فواشنطن تريد أن تتطلع إلى الأمام. ولتحقيق ذلك تحتاج إلى كسب هدف متجدد (خصم) لتثبيت قوتها العالمية. وهذا ما تفعله في مواجهتها للصين وروسيا. وهذا ما أفصح عنه جو بايدن، مؤخراً، عندما أشار إلى حرب روسيا ضد أوكرانيا باعتبارها الغزو الواسع النطاق الوحيد الذي شهده العالم منذ ثمانية عقود (…). يعني ذلك أن محاولة النسيان هي الطريقة الوحيدة لضمان الفشل في التعلم.
عمل لم يكتمل بعد!
منذ شباط/فبراير 2022، ساعدت أميركا أوكرانيا في الدفاع عن نفسها ضد الغزو الروسي. ومع ذلك، فقد تهربت من مسؤولية إجراء مراجعة جادة بخصوص أخطائها السياسة التي مهَّدت الطريق لهذا الصراع وفتحت الطريق لمزيد من الصراعات في المستقبل. من خلال توسيع حلف “الناتو”، وسَّعت واشنطن هيمنتها على الشؤون الأمنية الأوروبية بينما كانت تأمل ألا تتحول روسيا إلى دولة معادية. كان هذا الأمل ساذجاً منذ البداية (…). توسيع “الناتو” على حساب أوكرانيا، رسّخ هيمنة أميركا على الدفاع الأوروبي، وأعطى حلفاءها سبباً كافياً للإستعانة بها من أجل ضمان أمنهم الخاص. نتيجة لذلك، يقع الآن على عاتق أميركا بشكل أساسي مسؤولية تنسيق المساعدات الدولية لأوكرانيا ووضع جنودها ومدنها على المحك إذا أرادت روسيا مهاجمة دول “الناتو” في المستقبل. إن الهروب الوحيد من هذا الفخ الذي فرضته على نفسها هو تغيير “منطق السيطرة والهيمنة” وتحويل قيادة الدفاع الأوروبي بشكل تدريجي وحاسم إلى الأوروبيين، الذين يمكنهم حشد موارد وفيرة لردع روسيا والدفاع عن أراضيهم.
ومع تعرضها لمخاطر أكبر في أوروبا، تتجه واشنطن أيضاً نحو المواجهة مع بكين. وهناك إجماع ناشئ وصارم؛ من الحزبين؛ بخصوص القوة الثانية في العالم. ما تريده أميركا من علاقتها مع الصين خلال العقود المقبلة لا يزال غير واضح المعالم. الاتجاه العدائي، بدون تحديد الوجهة المطلوبة، يجعل السياسة الأميركية غير حكيمة. وعلى الرغم من أن المشاعر أقل حدَّة عن ما كانت عليه إزاء الاتحاد السوفياتي؛ على سبيل المثال؛ والجمهور أقل إنخراطاً، فإن البيئة في واشنطن اليوم تشبه على نحو متزايد الفترة التي سبقت 20 آذار/مارس 2003، عندما تجاهل السياسيون والمسؤولون أهمية تقييم المسارات المحتملة لعراق ما بعد صدام، وقلّلوا من شأن قدرة الآخرين في رسم النتائج اللاحقة.
إذا كانت أميركا والصين جادتين في تجنب نشوب حرب باردة بينهما، أو حرب عسكرية تُمزق العالم، فسيتعين على كلا الطرفين العمل على إرساء شروط للتعايش المشترك. لكن هذه المصطلحات تصبح بعيدة المنال يوماً بعد يوم. فواشنطن تعارض أي صعود للصين. إدارة ترامب صنفتها على أنها “تهديد مباشر لأميركا”. وإدارة بايدن وضعت إجراءات مصيرية محتملة، وهدَّدت بزعزعة سياسة “الصين الواحدة”، وعارضت ما هو متفق عليه سابقاً بخصوص تايوان، وفرضت قيوداً واسعة على وصول الصينيين إلى التكنولوجيا. من غير المعروف حتى الآن كيف سيكون رد بكين، لكن لديها قدرات هائلة على إلحاق الضرر بأميركا.
في دفاعها عن موقعها المتميز في القوة، تخوض أميركا اليوم مخاطر هائلة، رغم توفر خيارات أفضل: مثل أن تنأى بنفسها عن الشرق الأوسط، وأن تحوّل أعباء الدفاع إلى الحلفاء الأوروبيين، وأن تسعى إلى التعايش التنافسي مع الصين (…). ويكفي الإشارة إلى أن عدد القوات الأميركية المتمركزة في الشرق الأوسط اليوم يبلغ حوالي 50 ألف جندي، أي كما كان الحال في نهاية إدارة أوباما، للقول إن واشنطن لا تزال أسيرة عبودية “الهيمنة”، وتترنح بين مشاكلها التي تسببت بها لنفسها وبين المشاكل التي سببتها للآخرين وتتهرب من مسؤوليتها. وبهذا المعنى، تظل حرب العراق عملاً غير مكتمل بالنسبة لها.
– النص بالإنكليزية على موقع “فورين أفيرز“.
(*) ستيفن ويرثيم، من مؤسسة “كارنيغي” للسلام الدولي. مؤلف كتاب: “عالم الغد: ولادة التفوق العالمي للولايات المتحدة”.
(*) الجزء الأول: حرب العراق لم تكن مجرد خطأ سياسي.