نادرة هي الكتب التي تغلب على نصوصها مفردات من نوع “ربما” و”لعل” بحيث يخلص قراؤها إلى مجاورة الشكوك بالخلاصات التي ينتهي إليها المؤلفون، ومن هذه الكتب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” حيث يُكثر الدكتور كمال الصليبي من استعمال هاتين المفردتين وكأنه يضع مساحة واسعة بين الإجابة المأمولة وبين الأسئلة التي لم تخرج من كنف الأسئلة.
وإذا كان لا بد من القول بداية، إن “ربما” و”لعل” تطغيان على مجمل “التوراة جاءت من جزيرة العرب”، وهذا ما لا يمكن استعراضه في مقالة واحدة لأن ذلك يستدعي استنساخ ما لا يقل عن نصف متون الكتاب، فالإضاءة على شواهد منه توجز الغاية والمقصد وتطرح في الوقت نفسه اسئلة صعبة حول علمية الكتاب واتخاذه مرجعا للكتابات التاريخية، وهو رأي علماء الآثار العرب والمختصين في التاريخ القديم كما سيتبين في سياق هذه المقالة، ومن هذا الشواهد:
أولاً؛ أورشليم:
يقول الصليبي “لقد اعتُبر إسم يورشليم لغزا حتى الآن، وإذا لم يكن الإسم شليم إسم قبيلة وربما قبيلة من فرع اليبوسيين، فيُحتمل أنه كان إسم إله محلي، وبالتالي فإسم المكان يروشليم يعني مقر سُليم، ويحتمل ايضا أن يكون إسم يروشليم جمعا لإسمين حاليين لقريتين هما أروى وآل سلام في جوار تنومة من السراة، وفي هذه الحال ربما نُسبت أروى إلى قرية آل سلام المجاورة لتمييزها عن قرية آل عمر أرواء في المنطقة ذاتها”، مع الإشارة إلى أن الصليبي وفي مقابلة لغوية يعتبر أن أورشليم تحوير لإسم قرية آل شريم.
ثانياً؛ دمشق و”ذامسك”:
لا يعتبر الصليبي أن دمشق الواردة في التوراة هي دمشق الشامية “وحتى دمشق، ذامسك في منطقة جيزان في غرب الجزيرة العربية، يمكن أن تكون اليوم موجودة في الإسم نفسه في الحجاز وعسير”.
ثالثاً؛ أسباط يعقوب:
تتحدث التوراة عن أن النبي يعقوب كان له اثنا عشرا إبنا، ويعقوب النبي ستسميه التوراة لاحقا إسرائيل وتسمي أبناءه أسباطا، والأسباط سيُعرفون في ما بعد بالقبائل، ويتناول الصليبي بعضها على هذا الوجه:
ـ نفتالي: “ربما كانت الأراضي الأساسية لهذه القبيلة في منطقة البرك حيث هناك قرية إسمها آل مفتلة ـ بحسب الصليبي ءل مفتل أي إله نفتلي ـ وهناك في منطقة جيزان قريتان تسميان مفتل نشب ومفتل نشيلي”.
ـ جاد: “الجادية في سراة غامد والجيدية في جنوب الحجاز، إضف إلى ذلك قريتين تسميان الجدة وإبن جدة في منطقة القنفذة، وبنو جدة من القبائل العربية القديمة وهناك رأي بأن مدينة جُدة سُميت بإسمهم، ولعل أرض جاد الأساسية كانت في جنوب الحجاز”.
عبد الوهاب المسيري: أشار هيوجو ونكلر إلى أن متسراييم التوراتية ليست مصر وإنما موزري وهي مقاطعة جنوبي البحر الميت تضم مرتفعات سعير ومدينة البتراء وتضم أرض مَدْيَن والأدوميين والنبطيين وأنه حدث خلط بين موزري ومصر، ويرى كمال الصليبي أن متسراييم هي أرض عسير في جنوب المملكة العربية السعودية، وقد رفضت أغلبية العلماء كلا الرأيين
رابعاً؛ النوافل والجبابرة:
يشير الصليبي في الصفحة 233 من “التوراة جاءت من جزيرة العرب” إلى أن في بعض أسفار التوراة اعترافا صريحا بوجود آلهة غير يهوه، وفي سفر التكوين: لما ابتدأ الناس يكثرون في الأرض ووُلد لهم بنات، أن أبناء الآلهة رأوا بنات الناس حسناوات، فاتخذوا لأنفسهم نساء من كل ما اختاروا، وكان النوافل في تلك الأيام ـ ه نفليم جمع نوفل أي بطل ـ وبعد ذلك أيضا دخل الآلهة على بنات الناس ووُلدن لهم أولادا، هؤلاء هم الجبابرة ـ ه جبوريم ـ الذين منذ ذلك الوقت أهالي هشم ـ ء نوشي هشم”.
أين ربما؟ في هذه الخلاصة التي ينتهي إليها الصليبي حين يقول:
“بالنسبة إلى هذا البحث أن النوافل ربما كانوا ابناء قريتي النوافل والنوافلة من ناحية الحرث بمنطقة جيزان، وربما كان الجبابرة أبناء قرية آل هاشم ـ هشم ـ من قرى المكارمة بمنطقة نجران”.
خامساً؛ النبي زكريا واليونان:
يفترض الصليبي “أن الكلمة العبرية يون لايمكنها أن تشير إلى اليونان إلا في سفر دانيال، وفي كل مكان من التوراة العبرية يشير الإسم إلى ما يمكن أن يكون اليوم إما قرية اليانة قرب الطائف جنوب الحجاز أو قرية وينة في المنحدرات الغربية في منطقة بني شهر”.
سادساً؛ الزيتون الفلسطيني:
يضرب الشك بالمؤرخ الصليبي حين يتحدث عن الزيتون الفلسطيني الوارد في التوراة ” وربما كان الزيت التوراتي زيت السمسم وليس زيت الزيتون، باعتبار ان السمسم من المحاصيل الزراعية في عسير، لكن الزيتون البري ما زال ينمو في غرب شبه الجزيرة العربية، وفي ذلك ما يشير إلى أن الزيتون ربما كان يُزرع هناك في العصور القديمة”.
سابعاً؛ أماكن متفرقة في التوراة و”ربماتها”:
صيحء: إما الصخيا اوالصخي في رجال ألمع ـ طبعوت: ربما كانت ثعابة في رجال ألمع أو عثبة في جيزان ـ حنن: حنينة أو ربما الحنيني في جيزان ـ جحر: جُحر أو ربما الجحرة في جيزان ـ رصين: بين امكانات عدة الإحتمال الأكبر رضوان إلا إذا كانت الرازنة ـ جزم: الجزايم في منطقة جيزان إلا إذا كان هذا إسم جيزان/جزن ـ حرحور: لايمكن العثور عليها كإسم في مكان واحد ولكن ربما كانت الخرّـ بصلوت: يُحتمل أنه إسم قبيلة مأخوذ من إسم المكان بصل وترجيحي أنه الإسم القديم لقبيلة بني صلب وإلا فإنه صُلبية في جيزان ـ محيدء: ربما هي حميدة في جيزان لكن المرجح أنها الحميداء ـ سيسرء: لعلها وادي شرس في شمالي اليمن وهناك قرية إسمها شرسي في الطائف ـ سطي: ربما آل صوت ـ فرودء: ربما الفردة في رجال ألمع والأرجح انها الرفداء في بلسمر ـ يعله: ربما كانت عالية في جيزان لكن الأرجح انها الوعلة في القنفذة ـ درقون: ربما الدرق في جيزان والأرجح أنها الجرذان في بلسمر”.
كيف نوقشت نظرية الصليبي؟
في “الحدث التوراتي والشرق الأدنى القديم” لأستاذ الحضارات القديمة فراس السواح وهو أحد ألمع الباحثين العرب في تاريخ المنطقة “أن التوراة عبارة عن نصوص بالغة القدم كُتبت أصلا بأحرف أبجدية خالية من الحركات والضوابط، ولأن لغة هذه النصوص قد خرجت عن إطار الإستعمال العام منذ زمن يعود إلى ما قبل القرنين السادس والخامس قبل الميلاد، فإنه لا يمكن لأحد أن يعرف كيف كانت هذه اللغة تُلفظ وتُصوت في الأصل لدى الشعب الذي تكلمها”.
وفي جانب نقدي آخر يقول السواح “نحن ننظر إلى أن دعوة كمال الصليبي إلى إعادة النظر بقراءات وثائق الشرق القديم بكثير من التردد والحذر، خصوصا وأنه لم يبين ولو بمثال واحد موضع الخطأ في قراءة أي نص أشوري أو بابلي أو مصري ولم يبين لنا أي منهج جديد نستبدله بالمناهج القائمة في قراءة هذه النصوص” وفي بداية الفصل المعنون بعلم الآثار وتاريخية التوراة ينتقد السواح منهج الصليبي التأريخي بالقول “يقوم المحور الرئيسي في نظرية الصليبي ونهجه على القبول بالرواية التاريخية للتوراة والشك بجغرافيتها”.
صاحب موسوعة “اليهود واليهودية” المفكر المصري عبد الوهاب المسيري، يحدد في الجزء الرابع من موسوعته رأيه بنظرية الصليبي عبر قوله “يختلف العلماء في تحديد الطريق الذي سلكه العبرانيون في خروجهم من مصر فيحاول بعضهم تحديده بدراسة نصوص العهد القديم وتحليل تضاريس شبه جزيرة سيناء، بل يثير بعض العلماء قضية أن المكان الذي خرج منه العبرانيون متسراييم لم يكن مصر، فقد أشار هيوجو ونكلر إلى أن متسراييم التوراتية ليست مصر وإنما موزري وهي مقاطعة جنوبي البحر الميت تضم مرتفعات سعير ومدينة البتراء وتضم أرض مَدْيَن والأدوميين والنبطيين وأنه حدث خلط بين موزري ومصر، ويرى كمال الصليبي أن متسراييم هي أرض عسير في جنوب المملكة العربية السعودية، وقد رفضت أغلبية العلماء كلا الرأيين”.
وأما عالم الآثاروالسومريات العلامة العراقي د. فاضل عبد الواحد فقد أفصح عن رأيه بنظرية الصليبي من خلال حوار أجرته معه صحيفة “المدى” العراقية (6 ـ 6 ـ2018) جاء فيه:
ـ “المدى“: في كتابك من ألواح سومر الى التوراة تؤكد قصة التوراة عن برج بابل، ولكن الأستاذ كمال الصليبي يقول بأن شنعار لا توجد في العراق أصلاً، لكنها قلبت عن آسم مدينة شرعن في الطائف، من خلال دراسة ظاهرة القلب في اللغة العبرية، كذلك لم يكن هناك برج، وحتى إن وجدَ فإن الله قد منعهم من اتمامه، وتوجد في بابل زقورات وليست أبراجا، فماذا تقول في ذلك؟
– عبد الواحد: “البرج كان موجودا، ولدينا قياساته، ومن ثم، ما البرج؟ البرج هو المكان المرتفع الذي ممكن أن ترى منه أشياء لا يمكنك ان تراها وأنت على أرضٍ منبسطة”.
ـ “المدى“: لكنه يفترض بأن الزقورات غير الأبراج تماما؟
– عبد الواحد: “هذا استخدام مجازي، فالتوراة قالت البرج، ثم البرج بمعنى الزقورة، البرج للمراقبة، وكان يمكن أن يراقبوا من يأتي ويدخل المدينة أو يخرج منها، وبرج بابل اشتهر، ومن وظيفة الزقورة هذهِ جاء المعنى الآخر وهو البرج، والروابط بين الزقورة والبرج هو الجانب الديني، ومع احترامي للأستاذ الصليبي، أنا لا أتفق معه إطلاقا، الآن البرج موجود، ووصلنا من العصر السلوقي، بل وجاءتنا ابعاد البرج 91 مترا طوله، و99 مترا عرضه، وطبقاته سبع، في أعلاه معبد، وحفرة البرج موجودة، لأنها نقبت ضمن آلاف التنقيبات”.
وللمفكر المصري سيد القمني رأيه في مقولة الصليبي صاغه في كتابه “رب الزمان” وفيه:
“كان اعتماده على المقارنات اللغوية وحدها، وفي حدود أسماء الأشخاص والمواضع ثم حذفه للحركات والضوابط التي دخلت على المأثور التوراتي في القرن السادس الميلادي كناتج ملاحظته لبعض الأخطاء في التصويت والإعراب، لكنَ المأخذ هنا أنه (الصليبي) أعاد النص التوراتي الهائل إلى أصله غير المتحرك، ليُعيد هو تحريكها للتطابق معها في بلاد عسير (…) ولو اعتمدنا أسلوبَ الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص مع نصوص التوراة أو حتى مع نصوصٍ لدولة ما، لأمكن أن نكتشفَ ببعض التعسف أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانتْ في شمال أفريقيا وإسبانيا، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر حيث حلَّت هناك القبائلُ العربية مع الفتح الإسلامي وأعادت التسميات”.
وينتقد العلامة حمد الجاسر خلاصات الصليبي ونظريته متكئا على ما يسميها مجموعة حقائق منها “فات الدكتور الصليبي محاولة الربط الزمني بين مواضع ورد ذكرها قبل ثلاثة آلاف من السنين وبين مواضع قائمة في زمننا أكثرها نشأ في عصور متأخرة، وأسماء المواضع التي أوردها محاولا الربط بينها وما بين ما ورد في التوراة لا نجد لها ذكرا في الكتب القديمة بإستثناء إسم فرع حديث لإحدى القبائل، ولم يفرق بين أسماء المواضع وأسماء العشائر، ويحاول الدكتور الصليبي تعليل بعض الأسماء الموجودة في التوراة مما لا أصل لها في اللغة العربية ثم يتحمل لها أصولا عربية مما يعتبر تخبطا وسيرا على غير هدى”.
سيد القمني: لو اعتمدنا أسلوبَ الأستاذ الباحث في المطابقة لأسماء المواضع والأماكن والأشخاص مع نصوص التوراة أو حتى مع نصوصٍ لدولة ما، لأمكن أن نكتشفَ ببعض التعسف أن مصر كانت في فلسطين، وأن فلسطين كانت في سيناء، وأن الدول الفينيقية كانتْ في شمال أفريقيا وإسبانيا، كما يمكننا ببساطة أن نضع جزيرة العرب في صعيد مصر
ومما يشد الإنتباه في النصوص الناقدة لـ”التوراة جاءت من جزيرة العرب” أن الباحث السعودي احمد الفيفي يرد على مقولة الصليبي بأن بلاد عسير كانت الأرض التي دارت عليها دورة التوراة فيقول “إن تسمية عسير بهذا الإسم أو وصفها بهذا الوصف لا نقف عليه في شعر العرب القديم الجاهلي والإسلامي، مما يشير إلى أنه إسم غير قديم في الإستعمال، وأول من أشار إلى عسير بهذا الإسم الهمداني ـ ت: 946 م ـ في كتابه صفة جزيرة العرب ـ و ـ كيف عُثر على آثار المملكتين المعينية والسبئية في مقرهما الأم في جنوب الجزيرة وآثار تمددات نفوذهما شمالا ولم يُعثرعلى آثار لمملكة سليمان لا في جنوب الجزيرة ولا في شمالها”؟
هذه الأرضية النقدية يقف عليها الباحث الفلسطيني احمد الدبش وكان من أنصار نظرية الصليبي وأصدر في سبيل ذلك “موسى وفرعون في جزيرة العرب” و”كنعان وملوك بني إسرائيل في جزيرة العرب” و”اختطاف أورشليم” و”بحثا عن النبي إبراهيم”، إلا أنه وفي مقالة اعتذارية وتراجعية عن مضامين هذه الكتب، نشر مقالة في صحيفة “الأخبار” اللبنانية (25 ـ6 ـ2021) بعنوان “عودة عن خطأ السنوات المبكرة: لم يحتضن اليمن ملوك بني إسرائيل” قال فيها:
“لا شك في أن علامات التسرع والإرتباك ظاهرة في نصوص كتبي المبكرة، لأني ألّفتها وقتها متأثراً بـخطأ تحديد جغرافية الحدث التوراتي فكيف لي كباحث في التاريخ القديم، أعتمد الكتاب المقدس كوثيقة تاريخية، وأقر أن المشكلة تكمن وبكل بساطة في خطأ تحديد جغرافية الأحداث؟ كيف لي كباحث في التاريخ القديم، رفض إسقاط روايات الكتاب المقدس على فلسطين لإنعدام الدليل الأثري، وفي ذات الوقت أخترع جغرافية بديلة دون دليل أثري”.
هذا اعتراف شهم وجدي بأصل الخلل، إذ كيف يتم نفي الحدث التوراتي في مكان ما لإنعدام آثاره وتأكيده في مكان آخر في ظل انعدام آثاره أيضا؟
آخر ربما:
في مقدمة “التوراة جاءت من جزيرة العرب” يقول الصليبي “مقولة الكتاب لا تأخذ علم الآثار بالإعتبار، وربما جاء هذا العلم في المستقبل بما يدعم هذه الإستنتاجات اللغوية والنظرية الموجزة في هذا الكتاب”.
يقول كمال الصليبي: ربما!
(*) راجع الأجزاء الأول والثاني والثالث من سلسلة مراجعة كتاب “التوراة جاءت من جزيرة العرب” للدكتور كمال الصليبي.