من أهم ملامح عملية التوغل الإسرائيلية الجديدة في مدينة جنين، والتي أسفرت عن سقوط عددٍ من الشهداء والجرحى الفلسطينيين، إمتلاك أبناء الشعب الفلسطيني عنصر القوة. وبغض النظر عن حجم هذا العنصر، إلا أنه كان مربكاً للإسرائيليين وجيشهم، فقد أنزلوا خسارة كبيرة بالقوة المهاجمة جراء العبوات الناسفة الضخمة التي كانت بانتظار جنود الإحتلال.
نجاح المقاومين في إيلام جيش الاحتلال وإجباره على إدخال سلاح الحوامات للمرة الأولى من عقدين في إشتباك في الضفة للمساعدة في عملية الإنسحاب، يفتح النقاش حول ملف المشروع الوطني الفلسطيني الجامع، وملف الاستراتيجية السياسية والقتالية التي على المقاومة تبنيها. كما يفتح النقاش حول كيفية إعادة التفاف الشعب الفلسطيني حول المقاومة، وتأمين الدعم المادي والبشري اللازم لاستمرارها وضمان فاعليتها؛ هذا الدعم الذي ساهم في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي في تصعيد نضالها.
وليس خافياً أن دعماً كهذا ضروريٌ لكي يصبح العمل المقاوم خيار شعب بأكمله بدل أن يكون مجرد عمل فردي، أو فعل مجموعات قتالية ظهرت أخيراً محاولةً اجتراح المعجزات عبر بطولات تُحقّقها بدافع من حلاوة الروح، كما هو حال فصيلي “عرين الأسود” و”كتيبة جنين”، وغيرهما من المجموعات المقاومة. إذ إن هذا الشكل الجديد من العمل المقاوم يحتاج إلى تنظيم أكثر وأن يخرج من إطار الفصائلية، وأن يؤمن له غطاء سياسي عبر قيادة سياسية ناضجة.
تتسارع الأحداث في الضفة الغربية وتتسع المواجهات وتتعقد أساليب سلطات الإحتلال لفرض هيمنتها على الضفة والقدس الشرقية. غير أن هذه السياسات تحمل في رحمها فرصة جديدة للشعب الفلسطيني لتطوير المواجهات وأساليب المقاومة
وكما كان متوقعاً، وكما جرى في العدوان السابق على جنين، نفذ ثلاثة مقاومين عملية حصدت أرواح عددٍ من المستوطنين في مستوطنة “عيلي” في جنوب نابلس بالضفة المحتلة، انتقاماً لشهداء جنين، ما أدى إلى رد فعل متوقع من المستوطنين الذين انتظروا هبوط الليل وهاجموا بلدة “ترمسعيا” وأحرقوا منازل وسيارات الأهالي الفلسطينيين، في مشهد يذكِّر بمشهد الهجوم على بلدة حوّارة، في أواخر فبراير/شباط الماضي. لذلك ومن هذا المنطلق، وبسبب تكرر السيناريو ذاته في كل مرة؛ توغلٌ إسرائيلي يخلف شهداء فلسطينيين، يتبعه عملية انتقامية تؤدي إلى قتل إسرائيليين، ثم يأتي بعده هيجان قطعان المستوطنين الذي يستسهلون إحراق أرزاق ومساكن الفلسطينيين، وتأتي بعده فترة تهدئة، من هذا المنطلق يحتاج الأمر إلى الاستراتيجية التي جرى الحديث عنها لكي يصبح العمل المقاوم فعلاً منظماً ومستداماً وليس مجرد ردة فعل.
ربما تكون عملية جنين هي الدرس الذي تلقته الحكومة الإسرائيلية وجيشها، والذي دفعهما إلى إلغاء العملية العسكرية الموسعة التي كانا يخططان لها في الضفة الغربية، خصوصاً في منطقة نابلس وجنين والمخيمات. وقد واجهت تلك العملية عدة مطبات أبرزها إمكان أن تتسبب برد فعل دولي غاضب، وتأثيرها على سلطة التنسيق الأمني في رام الله، ومستقبل رئيسها، محمود عباس، لأنه سيجني كثيراً من الغضب كونه لن يحيد عن هذا التنسيق ولن يتخذ قراراً بمواجهة قوات الاحتلال. كما يمكنها أن تؤدي إلى اندلاع انتفاضة فلسطينية جديدة رداً على المجازر التي لن تتوانى القوات الإسرائيلية عن اقترافها خلال العمليات. لذلك أخضع قادة الاحتلال عملية جنين الأخيرة للتقييم واستخلاص العبر والدروس منها لا سيما لجهة توقعهم نتائج مشابهة للمقاومة التي أبداها أهل جنين. على هذا الأساس، توالت الأنباء عن استبدالها بالتصعيد عبر الاقتحامات و”العمليات الجراحية” لتنفيذ اغتيالات، علاوة على استخدام الطائرات في استهداف المطلوبين، الأمر الذي بدأته قوات الإحتلال، في ليل 21 يونيو/حزيران الجاري، باستهداف خلية مسلحة في “الجلمة” شمال جنين بطائرة مسيرة، للمرة الأولى منذ سنة 2006.
يحصل كل هذا في الوقت الذي لا تتجاوز ردة فعل السلطة الفلسطينية إصدار خارجيتها بيانات شجب. وبدلاً من أن تستنفر هذه السلطة قواتها لحماية أبناء شعبها، رأيناها توجه اهتمامها نحو قمع طلاب فازوا في انتخابات جامعة بيرزيت فاعتقلت خمسة منهم، أحدهم مرشح للفوز برئاسة مجلس الطلبة، فيما اعتصم آخرون بحرم الجامعة مخافة أن يكون مصيرهم كمصير زملائهم. وقد ظهر أن هذا الاعتقال، وعمليات التنكيل التي طالت الطلبة سببها انتماء معظمهم إلى الحركة الإسلامية، وهو الأمر الذي تكرر سابقاً خلال العدوانين الأخيرين اللذين شنّهما جيش الاحتلال الإسرائيلي على غزة. أما إذا كانت سلطة رام الله تتعامل مع قطاع غزة بوصفه كياناً خارجاً عن طاعتها، ولذلك تنأى عما يصيبه أو يصيب أهله من عدوان إسرائيلي وحصار، لماذا تتعاطى بالعقلية ذاتها ورد الفعل ذاته تجاه العدوان الإسرائيلي على الضفة الغربية حيث مقرها و”مسؤوليتها”؟
تفعل السلطة الفلسطينية هذا في الوقت الذي تزداد فيه حمى الاستيطان لدى الإسرائيليين. وكذلك في الوقت الذي اختصرت فيه حكومة اليمين الإسرائيلي الفاشي إجراءات الاستيطان، حين فوّضت حكومة الاحتلال وزير المالية اليمني المتطرف فيها، بتسلئيل سموتريتش، إصدار المصادقة الأولية للتخطيط والبناء في المستوطنات وتقصير إجراءات توسيعها، بعد أن كان الأمر يحتاج مصادقة المستوى السياسي ومجلس التخطيط الأعلى التابع لجيش الاحتلال. هذه الإجراءات تؤكد على التوجه الجديد للحكومة الإسرائيلية بتوطين 500 ألف مستوطن إضافي في الضفة، ليصبح عددهم مليوناً. وتأتي كلها وسط توقعات بأن تضم الحكومة الإسرائيلية الضفة الغربية بطريقة غير مباشرة لكيلا تثير المجتمع الدولي ضدها، وذلك عبر طرق ملتوية؛ بأن تتبع سبيل “فرض السيادة” عليها، وهو ما اتبعته سابقاً من أجل ضم الجولان السوري المحتل.
تتسارع الأحداث في الضفة الغربية وتتسع المواجهات وتتعقد أساليب سلطات الإحتلال لفرض هيمنتها على الضفة والقدس الشرقية. غير أن هذه السياسات تحمل في رحمها فرصة جديدة للشعب الفلسطيني لتطوير المواجهات وأساليب المقاومة. وإذا أصبحت هذه المواجهات وتلك الأساليب على شاكلة المواجهة الأخيرة في جنين، فربما لن يتبقى لسلطات العدو الفرصة والوقت الكافيين لإخضاعها للدرس والتحقيق، وربما الوقت لسحب آلياتها المعطوبة وإحصاء قتلاها.