مرحلة ما قبل السرد:
مقدمة لا بد منها لمد الخط الزمني
لنبدأ رحلة التحليل الذي أطرحه، بملحوظة بسيطة: كل ما سيقال هنا هو محض نظريات، لا يدعي كاتب هذه السطور أنها القول الفصل، فهذا بالضبط ما لا يملكه أحد على الإطلاق. لذا أطرحها كلها كما هي، وإن تضاربت.
تدور الأقاويل في وسائل الإعلام العالمية، أن القائد السابق للعمليات العسكرية في أوكرانيا سيرغي سوروفيكين هو خائن لبلده روسيا، لأنه كان يعلم بمخططات قائد مجموعة “فاغنر” يفغيني بريغوجين، ولم يُنبّه السلطات الروسية إليها، ولكن يبدو أنها انتبهت إليها منذ فترة طويلة، وكان هذا هو سبب إقالة سوروفيكين، حسب هذه الرواية. وكان هذا هو سبب التخلص من بريغوجين “في اللحظة المناسبة”، بعد التخلص من سوروفيكين في وقت سابق.
وينتشر القول حالياً بأن عدم شمول غضب بريغوجين القائد السابق للعمليات العسكرية الروسية في أوكرانيا، هو استكمال لتفاهمهما وتعبير كاشف عن اتساق توجهاتهما في الفترة التي قاد فيها سوروفيكين العملية العسكرية المستمرة في أوكرانيا.
ما يُعزّز هذا الطرح، هو أن تصريحات بريغوجين الغاضبة، لم تبدأ مع بدء العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا أو الحرب الروسية على أوكرانيا – سمها ما شئت – بل قد ازداد معدل تكرارها وارتفعت وتيرتها منذ إزاحة سوروفيكين عن قيادة العملية العسكرية، واستبداله بغيراسيموف.
حسناً، تبدو الرواية متسقة مع مجريات الأمور والخط الزمني الذي تابعناه بدرجات مختلفة. لكن يبدو أن فهم دواخل تمرد بريغوجين، تستدعي مد الخط الزمني إلى الوراء قليلاً، أي أبعد من إنطلاق العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا في فبراير/شباط 2022. بالعودة تحديداً إلى فبراير/شباط 2018. إلى “معركة خشام”، التي نفذت مجموعة “فاغنر” خلالها بعض العمليات العسكرية في محافظة دير الزور بسوريا خلال مجريات الحرب الأهلية هناك!
يبدو الطرح غريباً، لكن إذا تتبعنا تفصيلاته لربما يساعد في ملء بعض الفراغات في خضم التحليلات والروايات التي يجتهد الجميع في محاولة فهمها، ولا ضير. لنقم بتقسيم الطرح إلى سرديتين:
السردية الأولى:
تمرد بريغوجين النابع من دير الزور!
لنُذكّر أولاً، بمانشيت ظهر في صحيفة ذا تليغراف البريطانية:
“Russian mercenary boss spoke with Kremlin before attacking US forces in Syria, intel claims”
“زعيم مرتزقة الروس تشاور مع الكرملين قبل مهاجمة القوات الأمريكية في سوريا، تدعي مصادر مخابراتية”.
لا يهمنا هنا الخوض في مصداقية جريدة، ولا دقة معلومة. فما يهمنا هنا أن مثل هذه المانشيتات كانت جزءاً من التكهنات المتضاربة، حول عملية عسكرية روسية نُفذَت بأيدي وأسلحة مجموعة “فاغنر”، ضد التحالف الذي تقوده القوات الأمريكية إلى جانب “قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) في الشمال السوري. فقد قام التحالف وقتها بشن هجوم على قوات الجيش السوري في بلدتي خشام والطابية بمحافظة دير الزور، ردأً على هجوم شنّه الجيش السوري على مقر قيادة “قوات سوريا الديموقراطية” في البلدتين المذكورتين.
ثمة تنسيق كان قائماً بين روسيا – (وسوريا تحصيل حاصل) – والولايات المتحدة الأمريكية، في مواجهة تنظيم “داعش” برغم وقوعهما على جانبي المواجهة في الصورة الأكبر.
وكان الاتهام الرئيسي لسوريا – روسيا ضمناً – هو عدم التنسيق لمثل هكذا هجوم، الذي تم وقت وجود قوات التحالف بمنطقة متفق عليها بأنها “Deconfliction Zone” أي “منطقة عدم-تضارب”. لذ كان وصف الولايات المتحدة الأمريكية للهجوم السوري بـ “Unprovoked” أي “غير المبرر”، حسب ما ذكر في خبر بتاريخ 8 فبراير/شباط 2018، على الموقع الرسمي القيادة المركزية للولايات المتحدة USCENTCOM.
ما نشرته وسائل الإعلام المختلفة وقتذاك، هو أن رد الولايات المتحدة بالقصف الجوي والمدفعية لردع هجوم قوات الجيش السوري على المنطقة، تسبب في سقوط قتلى من القوات الروسية – أي مجموعة “فاغنر”- وهو ما وُصف في وقتها بأنه “أول اشتباك قاتل بين مواطنين من روسيا والولايات المتحدة منذ اندلاع الحرب الباردة”.
لفك التشابك، فقد سقط قتلى من مجموعة “فاغنر” الروسية بسبب القصف الأمريكي، نتيجة هجوم عسكري سوري “غير مبرر” على مقر “قوات سوريا الديموقراطية”، كان من المفترض أنه يتم بالتنسيق مع قيادة القوات الروسية، التي بدورها تقوم بالتنسيق مع القوات الأمريكية لتفادي أي تضارب محتمل. وكان ذلك التنسيق يتم عبر قيادة العمليات الجوية المشتركة ومقرها قاعدة العديد الجوية الأمريكية بإمارة قطر، بالتنسيق مع القيادة العامة للجيش الروسي بالعاصمة موسكو.
أو في رواية أخرى ربما ستبدو أقل إقناعاً، قيل فيها أن قوات “فاغنر” كانت تقوم بعملية عسكرية تتجه شمالاً نحو المناطق الكردية بسوريا، للسيطرة على مناطق غنية بآبار البترول للاستفادة مالياً من الموقع. وحين بلغ ذلك الأمر الاستخبارات العسكرية الأمريكية، تم التواصل مع القيادات العسكرية الروسية وفق مبدأ التنسيق وعدم التضارب، للاستفسار عن سبب وجود وتحرك قوات روسية بالمنطقة، كانت الإجابة الرسمية الروسية، بأن لا وجود لعمليات أو قوات روسية في هذه المنطقة. إجابة يعيدها بعض المحللين إلى تآمر من المخابرات العسكرية الروسية بوضوح ضد قوات “فاغنر”!
أياً كانت الرواية الأكثر إقناعاً، هنا يبدأ الخط الزمني لتمرد يفجيني بريغوجين قائد مجموعة “فاغنر” على القيادة العسكرية الروسية.
إن اخترت تصديق مانشيت مثل الذي نشرته “ذا تليغراف” أم لا، يبقى الحاصل النهائي هو غضب بريغوجين من القيادة العسكرية الروسية.
أعلم أن الطرح معقد وبالغ التشابك، لكن فكّر بالأمر مرة أخرى معي عزيزي القارىء. سواء أكان المقصود، هو اشتراك “فاغنر” في الهجوم بصحبة الجيش السوري على مقر “قوات سوريا الديموقراطية”، أي الهجمة التي تسببت في معركة خشام. أو هجوم “فاغنر” على قوات التحالف بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية، انتقاماً لسقوط قتلى لها، رداً على هجوم قوات الجيش السوري “غير المبرر”، أو هجوم “فاغنر” على مناطق كردية للسيطرة على آبار بترول في الرواية الأقل إقناعاً.. يبقى التفسير واحداً.
ففي نظر بريغوجين، كان هناك تنسيق غائب بين مجموعة “فاغنر” وقيادة الجيش الروسي، تسبب في سقوط قتلى روس من مجموعة “فاغنر”. وبالتالي، فإن إعلانه – المدّعَى حسب وسائل الإعلام ومنها “ذا تليغراف” – أن الهجوم (أياً كان المقصود به كما أسلفنا) تم بالتنسيق مع الجيش الروسي كما تدعي مصادر مخابراتية، فهو على أي حال يلقي باللوم على قيادة الجيش الروسي، لأنها هي من تسببت في وضع مجموعة “فاغنر” في مرمى القصف الأمريكي.
أترى الأمر بوضوح الآن؟ ومن هذه النقطة، ينبع سبب تمرد بريغوجين، حسب الطرح الذي اجتهدت في تلخيصه هنا.
وربما يكون في ذلك الطرح تفسيراً لتوجهات “فاغنر” التي بدأت تتسرب معلومات حول عدم انضباطها تحت سقف القرار العسكري الرسمي الروسي منذ ذلك الحين. بدءاً من وثائق مسربة تعبر عن رغبة “فاغنر” في التمدد حتى هايتي لمحاربة العصابات هناك، على بعد أقل من 1300 كم من الساحل الجنوبي لولاية فلوريدا الأمريكية – ربما على عكس رغبة القيادة الروسية ذاتها-، وصولاً إلى الإصرار على استكمال الهجوم متسارع الوتيرة على مدينة باخموت الأوكرانية، التي استولت عليها قوات “فاغنر” في مايو/أيار 2023، مع شكاوى دائمة سبقت ذلك التاريخ على لسان بريغوجين، بخصوص تمنّع وتلكؤ قيادة الجيش الروسي، وزارة الدفاع بقيادة شويجو، وإدارة العملية العسكرية بقيادة غيراسيموف، في توفير ما يكفي جنوده من أسلحة ومؤن على خطوط المواجهة السائلة حول باخموت وداخلها. انتهاءً بالتمرد الأخير الذي شهدناه مؤخراً، ولا داعي لإعادة سرد ما يعرفه الجميع، أو ما يتكهن الجميع لمحاولة فهمه.
*نستكمل السردية الثانية معاً في الجزء الثاني تحت عنوان: ما بعد طبخة بريجوغين، أتحبون تناول “بوتين+”؟
تحياتي.