السردية الثانية:
خيانة بريغوجين وسوروفيكين لروسيا
لنبدأ الطرح بذكر إسم سيبدو غريباً للوهلة الأولى: جاك تيكسيرا. مجند أمريكي عمل كفني أنظمة نقل إلكترونية، بالحرس الوطني الجوي بولاية ماساتشوستس الأمريكية، اتهم بتسريب وثائق سرية على منصة دردشة إلكترونية وسط أصدقائه. فيما أعتبره كثير منهم في البداية مزحة، أو ربما نوع من التباهي من تيكسيرا بما يعرفه من معلومات معلنة بحكم طبيعة وظيفته التي ذكرناها أعلاه.
لكن، بمرور الوقت ومع تكرار نشر وثائق وسط هذه المجموعة، وجدت هذه الوثائق طريقها للنشر الأوسع على شبكة الإنترنت. جدير بالذكر أن “وثائق تيكسيرا” هذه، تم التشكيك في صحتها بسبب التلاعب الذي تم في بعض محتوياتها لاحقاً – كما يدعي البعض – بتخفيض أرقام عدد القتلى الروس في الحرب الأوكرانية، مع زيادة أعداد القتلى الأوكرانيين. لكن ذلك لم يكن سبباً كافياً لتجاهل أهمية المعلومات التي تحملها الوثائق، وفداحة العواقب من تسريبها.
فهذه الملفات حوت معلومات تتعلق بهجوم خطّطت له أوكرانيا ضد القوات الروسية في سوريا، من خلال اختراقات مخابراتية حققتها الولايات المتحدة داخل دوائر القرار الروسية أو وثائق تفضح شكوك الولايات المتحدة في أي مكتسبات قد تحققها أوكرانيا في هجوم الربيع الشهير. وكذلك وثائق تدل على اختراق روسيا عبر “هاكرز” محترفين، لشبكات البنية التحتية للغاز الطبيعي في كندا، أو عن مواقع تواجد قوات خاصة فرنسية، بريطانية وأمريكية تحارب إلى جانب أوكرانيا، أو عن موافقة صربيا – حليف روسيا العتيد – على منح أسلحة لأوكرانيا، وما هو أكثر ويتخطى ساحة الحرب الأوكرانية، إلى “بالون الصين”، وخطط “فاغنر” بخصوص هايتي، أو خطط الصين لبناء ميناء بنيكاراجوا.
من بين المعلومات التي تسربت عبر هذه الوثائق، ثمة ملفات تفضح أن الولايات المتحدة قدمت النصح لأوكرانيا بعدم تكريس دفاعاتها لصد الهجوم الروسي (عبر قوات “فاغنر” بشكل أساسي) على مدينة باخموت، مع نصحها بسحب القوات من هذه المنطقة لضعف امكانية الصمود وصد الهجمات الروسية عليها.
وعلى الجانب الآخر، تكشف بعض هذه الوثائق المسربة أن بريغوجين عرض تقديم معلومات للأوكرانيين عن مواقع تمركز القوات الروسية في شرق أوكرانيا، إذا وافقت أوكرانيا على سحب قواتها من باخموت، في مرحلة كانت تزداد فيها خسائر “فاغنر” في سعيها للسيطرة على المدينة، خاصة ما يحيط بكهوف سوليدار صعبة المراس والمنطقة المحيطة بها.
وتظهر الوثائق أن المديرية المركزية للمخابرات التابعة لوزارة الدفاع الأوكرانية HUR، لم تأخذ محاولات التواصل معها من جانب بريغوجين على محمل الجد، أو ربما حَذِرت منها مخافة الخداع. وتقول الوثائق إن ذات الشك شاركته إياها الإدارة الأمريكية.
وينكشف – حسب وثائق تيكسيرا– أن بريغوجين كانت له اتصالات وعلاقات مع المخابرات الأوكرانية، عبر لقاءات شخصية ومكالمات تليفونية مع عملاء HUR، تمت على أرض دولة أفريقية تتواجد فيها قوات “فاغنر” – هل يمكن أن تكون أفريقيا الوسطى؟- عبّر فيها بريغوجين عن عدم رضاه على الخسائر المرتفعة التي تتكبدها مجموعة “فاغنر” في الحرب الأوكرانية، بل يدعو فيها الجيش الأوكراني إلى توجيه ضربات أعنف على مواقع قوات الجيش الروسي التي تعاني من نقص ذخائر الأسلحة. كما تدّعي الوثائق أنه قد شجّع القوات الأوكرانية على شن هجمات على حدود شبه جزيرة القرم التي ضمتها روسيا منذ العام 2014، في وقت وصف فيه الحالة المعنوية للقوات الروسية بالمنخفضة.
هذه ليست قناعات كاتب هذه السطور، وأذكر هنا بالملحوظة التي بدأت بها الجزء السابق من المقالة:
“كل ما سيقال هنا هو محض نظريات، لا يدعي كاتب هذه السطور أنها القول الفصل، فهذا بالضبط ما لا يملكه أحد على الإطلاق. لذا أطرحها كلها كما هي، وإن تضاربت أحياناً”.
إن صح ما ورد ذكره في تسريبات وثائق تيكسيرا، فهل يعني هذا أن روسيا كانت تعلم بهذه الاتصالات بين بريغوجين وأوكرانيا، وبأن الجنرال سوروفيكين كان على علم بها ولم يفاتح القيادة الروسية بشأنها؟ طرحٌ يبدو غريباً، لكنه قيد التداول على أي حال.
أو في تفسير آخر أكثر وضوحاً، يبدو أن بريغوجين لم يكن سوى ممثلاً لتيار التشدد – وإن كان من خارج الإطار الرسمي – الذي لطالما انتقد “تردد” فلاديمير بوتين وتعقُله في إدارة القرار العسكري في حرب أوكرانيا، ما أدى إلى تطويل أمد الحرب، برغم قدرة روسيا على الحسم إذا ما قرّرت ذلك، ورغبة عدد من كبار الجنرالات في الجيش الروسي بالتصرف بقساوة منذ البداية. أحد المنتمين إلى هذا التيار المعارض لـ”تعُقل” بوتين، هو الجنرال سوروفيكين. وفي هذا، فربما هو وبريغوجين كانا يتكلمان بلسان واحد، أحدهما “رسمي” وآخر “ميرسناري”، إن صح التعبير!
لربما وجبت هنا النصيحة، لمن لا يحلمون إلا بالتخلص من بوتين، معتقدين أن من سيأتي بعده هو “ليبرالي” من أمثال المعارض الروسي ألكسي نافالني. انظروا إلى من تحاولون التخلص منه، واعلموا أنه إن رحل – وهو في يوم ما سيرحل – من سيحل محله؟ أيعتقد أحد أن خليفته سيكون نموذجاً للعميل “نافالني”، أم متنازل “يلتسني” مخمور؟ أم الأقرب للواقع أنه سيكون “بوتين+”؟
الأهم في ما تقدم عرضه، هو الأسئلة العديدة التي تتقافز إلى الذهن فور محاولة تصديق مثل هذه التسريبات. هل كان بوتين يعلم بما يفعله بريغوجين منذ البداية؟ وإن كان يعلم، هل تركه يخطط حتى تحين اللحظة المناسبة مع نهاية الاستفادة من دوره؟ أم أن الأمر زوبعة في فنجان، حازت على كثير من المبالغة في حجمها؟
في النهاية، قامت قوات “فاغنر” بخدمات عسكرية كبيرة لروسيا أثناء الحرب الأوكرانية، لا تنحصر في السيطرة على باخموت. ذلك لم يمنع بريغوجين من استمرار الشكوى ضد وزير الدفاع الروسي سيرغي شويجو، ونائبه القائد الأعلى للقوات الروسية المشتركة في أوكرانيا فاليري غيراسيموف. فهل تم إغراء بريغوجين، الذي أحس بقرب خروجه من اللعبة، بما حاول أن يقوم بتنفيذه أثناء سيطرته التي لم تدم أقل من 24 ساعة على مقر عسكري بمدينة روستوف أون دون الروسية، وزحفه المزعوم نحو موسكو؟
هل كان طامعاً في تأييد يأتيه من داخل الجيش الروسي، يساعده في التخلص من خصومه في قيادة وزارة الدفاع؟ وهل كان التخلص المسبق من سوروفيكين واستبداله بغيراسيموف، محاولة من بوتين لفك خيوط هذه المؤامرة، مع إبقاء أعداءه قريبين كما أصدقاءه؟ أم كان مجرد إبعاد صوت عسكري صقوري متشدد؟
لا أحد يملك إجابات عن هذه الأسئلة مهما ادعى المعرفة.. ولا أحد يعرف إن كانت هذه هي الأسئلة الصحيحة من الأساس، لا سيما وأن بريغوجين قرر أن ينتقل فجأة من مقر لجوئه في بيلاروسيا إلى روسيا في الساعات الأخيرة، من دون معرفة ماهية هذه “النقلة” على رقعة الشطرنج الروسية الداخلية!
كل ما نعرفه أن الغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة، يعلنون عن مدى ضعف موقف فلاديمير بوتين في الساحة السياسية الداخلية والساحة العسكرية الأوكرانية.
فإذا ما شاهد أحدٌ من أولئك المتزحفطين، الاستقبال الحافل الذي لقيه بوتين أثناء زيارته لمدينة دربند بجمهورية داغستان الروسية ذاتية الحكم، سيدرك مدى سخف ما يدعي من اهتزاز شعبية بوتين السياسية في الداخل الروسي. فما حققته روسيا مؤخراً ليس قصة فشل، بل في الحقيقة دليل نجاح واستفادة من الأخطاء في معالجة الشروخ الداخلية، وهذا ما يزيد شعبية رئيس الدولة.
بينما على ساحة الحرب، لن أدعو أحد لمشاهدة اللقطات الصعبة التي شاهدتها لما يُصيب الجنود الأوكرانيين من حصارات وظروف عسكرية يائسة وإصابات شنيعة في مختلف المواقع التي دفعوا إليها لتنفيذ “هجوم الربيع المضاد”، ناهيك عما يزيد عن ذلك آلاف المرات منذ بدء الحرب.
هل حصل بريغوجين بالفعل على وعود بدعم من الولايات المتحدة وحلف الناتو، إن نجح في تقويض وزارة الدفاع الروسية والسيطرة عليها، أو شق الصف الروسي من داخل الجيش وخارجه على المستوى الشعبي؟ هل كان بريغوجين يتوهم مساندة من حلف الناتو بعد السيطرة على وزارة الدفاع الروسية، خاصة أن ثمة تكهنات تذكرنا بأن تمرد بريغوجين – كما ذكر بعض المدققين – تم اختيار تاريخه (23 يوليو/تموز 2023)، تزامناً مع انتهاء 25 دولة من أعضاء حلف الناتو، من تنفيذ أكبر تدريب جوي عسكري مشترك في تاريخ الحلف، بقاعدة جاغل العسكرية بألمانيا، وبمشاركة 200 طائرة مقاتلة، بينما كانت روسيا تراقب التدريب جواً من الناحية الشرقية. فهل لو كان قائد “فاغنر” قد نجح في زحفه نحو موسكو مثلاً، وتمكن من السيطرة على وزارة الدفاع الروسية، هل كان ينتظر من هذه الطائرات توفير الغطاء الجوي لحركته الإنقلابية؟
إن رأيت في هذا الطرح مبالغة، أذكرك ثانية، هذا مجرد ربط وسرد لكثير من الأطروحات الطرفية، لمحاولة ملء فراغات التحليل، ولا تمثل رأي كاتب هذه السطور. لكن الذهاب إلى آخر مسطرة التكهنات، له فوائده بلا شك.
وإن رأيت في الطرح سذاجة، فهل هذه السذاجة يصح أن تلصق بالسلطات الروسية، أم ببريغوجين، أم بمن قاموا بطرح هذه التحليلات؟
هل كان الاكتشاف بأن روسيا على علم بالمخطط، والسرعة في إنهاء التمرد في غضون 24 ساعة، مفاجأة بالنسبة للغرب؟ وهل يمكن وصف اعتقاد الولايات المتحدة وبريطانيا بأن مخابراتهم وحدها هي القادرة على كشف مثل هذه المخططات أو القيام بها، بالسذاجة؟
أليس من السذاجة أيضاً تصديق ادعاءات المخابرات الأمريكية بأنها قد علمت بمخططات بريغوجين الإنقلابية عبر الأقمار الصناعية كما أعلنوا هم، وصدّقهم الكثيرون؟
أم أن السذاحة الكبرى، هي الاعتقاد بإمكانية نجاة أوكرانيا عبر الاستمرار في تأجيج الحرب، بعد أن وضعت رأسها فوق المذبح؟
لا أعلم. لكن ربما يُنصح بالآتي: أفيقوا من أضغاث أحلامكم الأمريكية، وخفّفوا إهتمامكم بأبحاث مؤسسة راند RAND!
السردية الرئيسية:
خاتمة لا فكاك منها، تتخطى بريغوجين!
لا أجد غضاضة في القول، إن ما يقوم به بعض الجنود الأوكرانيين، هو بطولة وصمود، لكنني قلتها من قبل في مقالة سابقة في مارس/أذار 2022، وأكررها اليوم: هو “نضال في سبيل قضية مضمونة الخسارة في مآل الأمور”.
فلا رهانات الإدارة الأمريكية البائسة، ولا عمليات المخابرات البريطانية المخَرِبة، ولا اجتماعات حلفاء الناتو الفارغة، ولا وعود بلاك روك الطامعة، تضعهم في حساباتها لدقيقة واحدة، سوى كأدوات يحركونها على ساحة الحرب لعرقلة وتقويض روسيا بأي شكل. وفي النهاية، كان قرار حكامهم هو وضع رأس أوكرانيا على المذبح لخدمة خطط ورهانات غربية تهدف لاستنزاف روسيا.
وإن لم يتعلم التايوانيون المتعصبون ضد “بلدهم” الصين الدرس، فستكون رؤوسهم هي التالية على المذبح ذاته، في مواجهات لا طائل منها، تذهب بالعالم إلى هاوية مثقوبة، ويكون المستفيد الوحيد الولايات المتحدة وأتباعها، وبلاك روك وشركاها، ولوكهيد مارتن ورفيقاتها.
القصة أبعد من بريغوجين، وبايدن وبوتين. هذه الأسماء ستذهب بعيداً في يوم ما. لكن ما سيدوم هو هذا السعار الأمريكي للحفاظ على السطوة والسيطرة المنفردة، والسعار البلاك روكي للاستيلاء على ما أمكن من أصول العالم، وسعار أمراء الحرب من صُنّاع الأسلحة والموردين الذين لا حياة لهم من دون حروب. ولنذهب نحن والروس والأوكرانيون إلى قاع البحر، أو لنركع للقطب الأوحد ومُلّاك الأصول وصُنّاع السلاح والشركات الكبرى.
أليس هذا بالضبط ملخص ما يُسمّم حياتنا جميعاً؟
فمن يقف وراء تلك الطبخة المسمومة يا ترى؟
ببساطة، هو بالطبع “طبّاخ” عالمي ماهر، لكن اسمه بالتأكيد ليس.. “الطباخ بريغوجين”!
تحياتي.
(*) راجع السردية الأولى بعنوان: تمرد بريغوجين.. كيف بدأ من دير الزور السورية (1)