همّ المؤرّخ أن يبحث في الأخبار. أن يتحرّى عنها وفيها: متى ظهرت وأين، وكيف انتشرت، ومن نشرها؟ ما هي العوامل التي جعلتها مسلّمات؟ ماذا عن تناقضاتها وإثباتاتها؟. على هذا الأساس، يُكوّن المؤرّخ ملاحظاته ويقترح سرديّاته. لكن مهما علا شأنه وانتشر صيته، يبقى تحت رحمة المصادر التي بين يديه. لذا، ملاحظاته وسرديّاته ليست نبوءات أو حقائق دامغة، بل خلاصات وقراءات، مبنية على “لعلّ” و”ربّما” و”الأرجح” و”يبدو”، وما يتوفر من مفردات تبقي أبواب العقل مفتوحة.
يمكن لمؤرّخ آخر أن يتفحّص المصادر نفسها وأن يُكوّن ملاحظات وسرديّات مغايرة. هذا هو التاريخ. المؤرّخون يتأرجحون بين عوالم ذاتية وموضوعيّة. المهم أن يُعيدوا النظر في سرديّاتهم وأن يُصحّحوها عند انكشاف معلومات ووثائق وآثار جديدة، أو عندما يتنبّهون إلى أشياء معروفة أهملها الباحثون قبلهم، أو يعيدوا قراءة الروايات المعروفة وصولاً إلى تلمس أشياء لم يفهموها من قبل.. إلخ.
كلّ ذلك يعني أنّ المؤرّخ مسؤول عن إعادة تفحّص مصادره ومراجعة خلاصاته علّه ارتكب خطأ أو سها عن باله شيء. يستطيع المؤرخ أن يتبنى رواية أو سردية ما، لكن عليه أن يضع في الحسبان إحتمال انكشاف ضعفها مع ظهور مصادر جديدة (من النادر الإثبات أنّ مؤرّخاً ما كان على حقّ مطلق ونقطة على آخر السطر). كل جيل من المؤرّخين واجبه أن يقوم بذلك وأن لا يعتمد على خلاصات من جاء من قبله. هذا لا علاقة له بالمحبّة والإحترام والتقدير. تكريم المؤرخ لا يكون بتقديسه والدفاع المستميت عن نظريّاته وخلاصاته بل العكس صحيح.
ليس هناك من صدف في التاريخ. عندما نجد مثلاً أنّ الكثير من الأماكن في عسير وجوارها تتشارك الأسماء نفسها لأماكن في بلاد الشام وفلسطين، فهذه ليست بصدفة. السؤال الذي على المؤرّخ أن يبحث فيه هو لماذا هذا التشابه في الأسماء؟ هنا يمكن أن يكون الجواب أنّ الإسم له علاقة بالموقع والدور. صيدا مثلاً يمكن أن تعني البلدة التي على شاطئ البحر والتي يختصّ أهلها بالصيد البحري. هنا يكون الإستنتاج أنّ أهل تلك البلدة استخدموا كلمة من لغتهم تعني الصيد. لكن ليس هذا بالضرورة دائماً ما يحصل. يمكن أنّ هؤلاء أتوا أساساً من بلدة إسمها صيدا (والتي لا تعني الصيد البحري) وأطلقوا على المكان الجديد الذي استوطنوه على شاطئ البحر اسم بلدتهم القديمة، فاختلط الأمر على من جاء من بعدهم بأنّ موقع المدينة الجديدة يشير إلى معنى الإسم. من هنا، عندما نجد أنّ هيرودوتس ينقل أنّ الفينيقيّين يقولون إنّهم جاؤوا من غرب الجزيرة العربيّة، يمكن أن نقارن أسماء الأماكن التي جاؤوا منها افتراضاً والأسماء التي أطلقوها على المدن التي أسّسوها على طول ساحل بلاد الشام. هنا، لم يكن همّهم أن يعيدوا رسم جغرافية بلادهم الأصليّة بحرفيّتها، بل فقط المحافظة عليها، كما حصل مثلاً مع بعض أهل بلاد الشام الذين استوطنوا بلاد الأندلس، وسمّوا مدينة إشبيلية “حمص” وسمّوا غرناطة “دمشق”، ولم تكن إشبيلية إلى الشمال من غرناطة كما هو الحال في سوريا (حمص على بعد حوالي 160 كلم إلى الشمال من دمشق)، بل إشبيلية هي على بعد 250 كلم غرب غرناطة. بغضّ النظر، كل هذا الكلام هو فرضيّات وتخمينات.
يختلط على المؤرخ ما يجب أن يفعله كدارس وناقد للتاريخ مع ما يجب أن يفعله كصاحب كار عليه الدفاع عنه والاسترزاق منه. كلّ مؤرّخ مرشح للوقوع في هذا المأزق. إذا أصرّ على الـ”لعلّ” والـ”ربما”، تركه القرّاء وهجره التلامذة وخاب رزقه. وإذا رماهما جانباً وأطلق التعميمات وحوّل الفرضيّات إلى حقائق، كثر زبائنه وذاع صيته وحقّق رزقه
بهذا المعنى، أعطى المؤرخ الدكتور كمال الصليبي كتاب التوراة القدرة على أن يكون تاريخاً بدل أن يكون خرافةً، إلا أن ما قام به ليس كافياً لترجيح أن تكون جغرافية التوراة حصلت في عسير. كما أن الجدال اللغوي في هذا الأمر لا يثبت ما إذا كان الصليبي على حقّ أم على خطأ (إلاّ إذا تبيّن أنّه ارتكب أخطاء جسيمة). نعم، نحن بحاجة إلى براهين وإثباتات فعليّة، أي إلى وثائق وآثار. وحتّى اللحظة، ليست هناك وثيقة تاريخيّة أو أثريّة معروفة تُثبت أنّ ما قاله كمال الصليبي صحيح مائة في المائة. وعليّ التذكير هنا أنّه ليست هناك وثائق تُثبت أنّ فلسطين هي أرض التوراة.
المقارنات اللغويّة تعطينا فكرة عن كيفيّة تحوّل الكلمات والعبارات بين اللغات، خصوصاً اللغات المتقاربة مثل العبريّة والعربيّة. مثلاً، في العبريّة، كلمة “شمش” تصبح في العربيّة “شمس”. إذاً يمكن أن نستخلص أنّ الشين العبريّة تنقلب إلى سين في العربيّة. لكن لماذا لم تنقلب الكلمة من “شمش” إلى “سمس”؟ لماذا انقلبت فقط الشين الثانية إلى سين ولم تنقلب الشين الأولى؟
في بعض مناطق لبنان مثلاً، يلفظ الناس اسم “إبراهيم” بطرق مختلفة: “براهيم”، “براهيل”، “براهين”. وكلمة “ملعقة” يلفظوها “معلقة”، ويتوه كثيرون بين “البردقوش” و”المردكوش” و”المركدوش”. فأن يكون اللفظ سهلاً، هذا عامل مهمّ يؤثرّ في كيفيّة لفظ الكلمات عندما تنتقل من لغة إلى أخرى، لكن هذا التفسير يُمكن أن يكون صحيحاً بخصوص أسماء الأماكن في عسير ويمكن أن يكون غير صحيح.
عندما نبحث مثلاً عن مدينة “أورشليم”، علينا أن نبحث في أصل الكلمة. يقول لنا التوراة “يور شليم” أي “مدينة شليم”؟ إذا كان هذا الإفتراض ممكناً، علينا أن نبحث إذاً عن مدينة كان اسمها “شَليم” أو “سليِم” أو حتّى “شريم”، وما إذا كان ذلك اسم شخصٍ أم قبيلة. كذلك الأمر مع “بيت لحم” التي تلفظ بالآراميّة والعبريّة “بيت لَخَم”، وتعني إمّا المكان الذي فيه هيكل للإله لخم (وهو كان إله الطعام)، أو المكان الذي فيه فرن للخبز (ويمكن أن تعني أشياء أخرى لا علاقة لها بالمعنيين السابقين). الأساس هنا هو كلمة “لخم” أو “لحم” أو “لهم”.
لكن، هل من الممكن أن يكون لكلمتي “يورشليم” و”بيت لحم” معنى آخر؟ هذا من الأسئلة التي على المؤرّخ أن يكون منفتحاً للإجابة عليها بحكم عمله كمؤرّخ.
عندما قام كمال الصليبي بمقارباته اللغويّة أخذ هذه العوامل في الحسبان، وهو للأسف ما لم يتنبّه إليه كثيرون ممن انتقدوه. هذا لا يعني بتاتاً أنّ تحليلاته كانت صحيحة. ما قدّمه الصليبي هو قراءة يعترف بأنّها فرضيّة، لذلك، كان يُكثر من إستخدام “لعلّ” و”ربّما” لأنّ دراسة التاريخ لا يمكن أن تتغاضى عن هذه الحقيقة: كلّ شيء نعتقد أنّه حصل فيه كثير من الـ”ربّما” والـ”لعلّ”، أي الكثير من الفرضيّات. حتّى إذا توفرت للمؤرخ مصادر ما، فهي ليست بإثباتات دامغة، بل إدّعاءات ومزاعم، كما في الكثير من الآثار الفرعونيّة التي هدفها إبراز إنجازات وسرديّات عن فراعنة (رجالاً ونساءً) لا يمكن التأكّد ممّا إذا كانت حصلت فعليّاً في عالم الواقع. أما عندما يتجاهل المؤرّخ هذه الحقيقة، فإنه يُصبح حكواتياً، يخلط الصالح بالطالح، والمعلومة بالخرافة، وبالتالي لا تنطبق عليه صفة المؤرخ.
من دون شكّ، أي قراءة موضوعية لإرث كمال الصليبي ولا سيما مقولة “أنّ جغرافية التوراة نجدها في منطقة عسير في غرب الجزيرة العربيّة” تفضي إلى عدم وجود إثبات مادي أثري لهذه الفرضية ما عدا التشابه في أسماء الأماكن وبعض الملاءمة في مواقعها بين بعضها البعض. ومن دون شكّ، كان الصليبي مقتنعاً أنّه على صواب، لكنّه كان يعترف أيضاً في نقاشاته الواسعة مع تلامذته، وأنا واحد منهم، أنّه من دون العثور على آثار على أرض عسير (وكان يَعتقد أنّها موجودة) تبقى فرضياته حبراً على ورق، وهذا يعني أن أي قارىء لكمال الصليبي عليه أن يُغادر منهجية الحقائق الدامغة.
في الخلاصة، نقطة ضعف المؤرّخ أنّه يريد أن يكون على حقّ، في ميدان تبدو فيه الحقيقة مستحيلة. لذا، يختلط عليه ما يجب أن يفعله كدارس وناقد للتاريخ مع ما يجب أن يفعله كصاحب كار عليه الدفاع عنه والاسترزاق منه. كلّ مؤرّخ مرشح للوقوع في هذا المأزق. إذا أصرّ على الـ”لعلّ” والـ”ربما”، تركه القرّاء وهجره التلامذة وخاب رزقه. وإذا رماهما جانباً وأطلق التعميمات وحوّل الفرضيّات إلى حقائق، كثر زبائنه وذاع صيته وحقّق رزقه، ودخل حلبة صراعية ليس بالضرورة أن تكون الغلبة فيها للأقوى أو الأغنى أو الأكثر إقناعاً، بل لمن تجذب روايته عقول القرّاء.
(*) راجع الجزء الأول بعنوان: “رباعية شومان” عن الصليبي.. نقد المملكة ديني ـ سياسي (1)