تركيا.. هل نقلت سلاحها من كتف إلى كتف؟

تطرح سلوكيات تركيا في الآونة الأخيرة، وتحديدًا بعد انتهاء الانتخابات التركية في أيار/مايو الماضي السؤال الآتي: هل نقلت تركيا السلاح من كتف إلى أخرى؟ إذ أنها منذ ذلك الحين تُبدي سلوكًا أقرب إلى "الأطلسية"، بدليل إطلاق سراح مقاتلي "كتيبة آزوف" وتسليمهم إلى أوكرانيا من دون التشاور مع "الحليف الروسي"؟

قبيل اندلاع “الربيع العربي”، سعت تركيا إلى استثمار عناصر تاريخية موروثة من زمن السلطنة العثمانية. قرّرت ترتيب علاقاتها مع دول الجوار، ولا سيما مع سوريا، وتطوعت لفتح مسار تفاوضي بينها وبين إسرائيل ودعمت حركة “حماس” في فلسطين وعارضت الاحتلال الأميركي للعراق، واستطاعت أن تحتل مكانًا في قلوب المؤيدين لها من الشعوب العربية، لكن مع بدء ما يسمى “الربيع العربي”، قررت أن تتصرف بمنطق أطلسي بحت، مُعتقدةً أنها ستجد لها مكانًا في لعبة المحاور عبر دعم تيارات الإسلام السياسي في العالم العربي.

لكن مع فشل مساعي الولايات المتحدة والغرب لثبيت مشروع الإسلام السياسي في عدد من دول المنطقة ولا سيما في مصر وسوريا، خسرت تركيا حلمها في قيادة الإقليم.. إلى أن واجه أردوغان في صيف العام 2016 محاولة الانقلاب الفاشلة. حينها كان الغرب وحلفاؤه ضد أردوغان، ولولا روسيا لما تمكن أردوغان من الصمود والعودة إلى قيادة بلده من جديد. هنا بدأنا نشهد تبدلًا في موقف الرجل حيال روسيا “نوعاً ما”، كان الحضور التركي في اجتماعات أستانا على رأس هذا التحول الإيجابي حيال روسيا، تلا ذلك افتتاح خط “تورك ستريم” لضخ الغاز الروسي عبر تركيا إلى أوروبا، وكان الموقف التركي حيال الأزمة الروسية الأوكرانية مؤشرًا مهمًا لتقارب روسي تركي.

بقي الحال على ما هو عليه حتى الانتخابات التركية في أيار/مايو الماضي، وبرغم أن روسيا سعت لدعم أردوغان، إذ حاولت التأثير على الرئيس السوري بشار الأسد للقائه عشية الانتخابات (هذا لم يحدث بسبب تمترس السوريين عند مطلبهم الرئيس وهو انسحاب تركيا من الأراضي التي احتلتها في شمال سوريا)، إلا أن أردوغان ما بعد الانتخابات التركية تبدّل تعامله مع قضايا عديدة على رأسها ما يخص الملف الروسي الأوكراني، ولن يكون مستعجلاً للقاء نظيره السوري بشار الأسد، وجدّد تقديم أوراق إنتساب تركيا إلى الإتحاد الأوروبي مقابل موافقته على قبول عضوية السويد في “الناتو”، وهو تكتيك إعتاد اللجوء إليه سواء لتحقيق الهدف الأساس، أي الإنتساب للإتحاد، أو تحقيق مكسب تكتيكي كالفوز بصفقة سلاح معينة.

وخلال زيارة الرئيس الأوكراني فولوديمير زيلينسكي إلى تركيا يوم السبت الماضي، لم تبدِ تركيا أي رفض لفكرة انضمام أوكرانيا إلى “الناتو”، وهي الفكرة التي تعارضها ألمانيا، ويعتقد الأميركيون أنها مستحيلة، لكن يمكن توفير دعم “الناتو” لأوكرانيا وفقًا للنموذج “الإسرائيلي”، وهذا ما خلصت إليه قمة فيلنوس بالتريث في قبول عضوية أوكرانيا في حلف الأطلسي.

لم يتوقف الأمر عند هذا الحد لكنه وصل إلى تسليم تركيا قادة “كتيبة آزوف” لأوكرانيا من دون العودة إلى روسيا التي كانت قد سلّمتهم إلى تركيا. تلا ذلك تصريح الناطق باسم الكرملين ديمتري بيسكوف لوكالة “سبوتنيك” الروسية بقوله إن عودة قادة “كتيبة آزوف” من تركيا إلى أوكرانيا تشكل انتهاكًا من جانب أنقرة وكييف لاتفاق قائم (لا يتم تسليمهم إلا بموافقة موسكو). وأشار بيسكوف إلى أن روسيا لم تتلق إخطارًا من أي طرف بشأن إعادة قادة “كتيبة آزوف” من تركيا إلى أوكرانيا، والذين كان من المفترض بموجب اتفاق قائم أن يظلوا في تركيا حتى انتهاء الصراع في أوكرانيا.

برغم تقارب تركيا مع روسيا في ملفات تخص سوريا والغاز الروسي، بقيت تركيا خلال السنوات الماضية تواجه روسيا في ملفات عديدة مثل أرمينيا وأذربيجان وليبيا، ما يعني عدم وضع تركيا في مكانة الحليف الموثوق في معرض تقييم سلوكها الأخير مع أوكرانيا، فتركيا لطالما كانت أقرب إلى “الناتو” بالمعنى الجيوسياسي، برغم أن تركيا الأردوغانية تنتهج سياسات خارجية براغماتية

لكن الملفت للانتباه في حديث بيسكوف محاولته إيجاد مبرر لتركيا بشكل أو بآخر إذ قال “بالتأكيد هناك استعدادات جارية لعقد قمة حلف [شمال الأطلسي] الناتو، وبالتأكيد مورست ضغوط شديدة على تركيا في سياق هذه الاستعدادات، وتركيا نفسها بوصفها عضوًا في الناتو تبدي تضامنها مع الحلف. نحن نتفهم كل تلك الأمور جيدًا”.

هل مورست ضغوط على أردوغان من الغرب وأميركا، كما يقول بيسكوف؟

لو تمكن أردوغان من الفوز بشكل حاسم وبدون جولة إعادة في الانتخابات التركية الأخيرة، ربما كان سيستمر في مواقفه القريبة من روسيا، لكنه لم يحصل بادئ الأمر على نسبة تمكنه من تحقيق الفوز، ويبدو أنه بين الجولتين الأولى والثانية وجد نفسه مجبرًا على تقديم تنازلات لأميركا والغرب، وهذا فقط ما يُفسر تبدل مواقفه بعد فوزه في الانتخابات الأخيرة.

إن السياق السياسي في تركيا طوال ما يزيد على العشر سنوات يفرض علينا التفريق بين تركيا وأردوغان، إذ أن تركيا في وضعها الجيوسياسي هي أقرب في بنيتها السياسية إلى الناتو والغرب وهذا الأمر عمره من عمر الحرب الباردة غداة إنتهاء الحرب العالمية الثانية، لكن أردوغان بمنطق الإسلام السياسي البراغماتي يتنقلُ بين المشاريع العالمية بحثًا عن المشروع المنتصر كي يحجز لنفسه ولبلده مكانًا بين اللاعبين، حتى تحول إلى دمية بين المتصارعين الدوليين فعليًا.

إقرأ على موقع 180  رؤية إسرائيلية لما بعد كورونا: ترامب مُهدد والتصعيد الإقليمي مستبعد

كيف يرى “عقل بوتين” تركيا؟

للإجابة على هذا التساؤل لا بد من العودة إلى أدبيات أحد كبار مستشاري الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وأبرز المفكرين القوميين الروس، ألكسندر دوغين، والمسمى “عقل بوتين”، وفي كتابه “أسس الجيوبولتيكا- مستقبل روسيا الجيوبولتيكي” والمنشور باللغة الروسية للمرة الأولى عام 1999، كانت المحاور الأهم لروسيا، لتشكيل نقاط ارتكاز لقيام عالم متعدد الأقطاب هي محاور: موسكو – برلين، وكبش الفداء هنا فرنسا، والنظر لبريطانيا أنها كيان أطلسي تماماً، ومحور موسكو – طهران والنظر لتركيا أنها كبش الفداء وأنها كيان أطلسي.

بل إن دوغين يقول “من وجهة نظر الثوابت الجيوبولتيكية تتمتع إيران دون شك، بالأولوية في هذه المسألة، لأنها تستجيب لجميع المعايير الأوراسية” لأسباب عديدة يذكرها في كتابه وأولها أن إيران دولة معادية بصورة جذرية لأميركا.

إن ما تمتلكه إيران لتكون حليفًا موثوقًا بالنسبة لروسيا لا تمتلكه تركيا بسبب تحالفاتها، وتمتلك تركيا بالنسبة لروسيا فقط الجغرافيا المهمة، فأرضها خط انابيب فعال لإيصال الغاز الروسي إلى أوروبا، ومكانها الاستراتيجي على البحر الأسود لا يمكن تجاهله.

لذا فإن دوغين يتحدث في كتابه عن تركيا قائلاً “من المهم أن نضع في الحسبان ضرورة إلزام تركيا بدور (كبش الفداء) في هذا المشروع، لأن مصالح هذه الدولة في كازاخستان وفي آسيا الوسطى لن تؤخذ على العموم في الحسبان ومن المحتمل، فضلاً عن ذلك، أن يتم التوكيد على دعم الانفصالية الكردية، في تركيا نفسها، وبالإضافة إلى مطالبة الأرمن الأتراك بالحكم الذاتي، بهدف تخليص الشعوب القريبة إثنيًا من إيران من الهيمنة الأطلسية – العلمانية”..

وفي كتابه “الخلاص من الغرب” الصادر باللغة العربية عام 2021 نجد ألكسندر دوغين يقول “من الضروري بشكل حيوي أن تقيم تركيا شراكة استراتيجية مع الاتحاد الروسي وإيران. لن تتمكن تركيا من الحفاظ على تقاليدها إلا في إطار عالم متعدد الأقطاب. تدرك فئات معينة من المجتمع التركي هذا الوضع، من السياسيين والاشتراكيين إلى النخب الدينية والعسكرية. وبالتالي، يمكن أن يصبح محور موسكو وأنقرة واقعاً جيوسياسياً على الرغم من فترة طويلة من القطيعة المتبادلة”.

ولا يعد كلام دوغين في كتابه الأخير مناقضاً للأول، بل مكملاً له، وفي ضوء ما سبق نفهم السلوك الروسي في هذه الأيام، لجهة رفض خطوة تركيا القاضية بتسليم قادة “كتيبة آزوف” لأوكرانيا، لكن في ثنايا حديث بيسكوف نلمح تفهمًا مُبطنًا. كما نفهم تصريحات بيسكوف اليوم بأن الموقف من إطلاق سراح مقاتلي “آزوف” لا علاقة له بالمضي في مشروع إنشاء مركز للغاز الروسي في تركيا.

وبعد أن تحدث أردوغان خلال المؤتمر الصحافي الذي جمعه مع زيلينسكي يوم السبت الماضي عن زيارة متوقعة للرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى تركيا، أعلن بيسكوف أن موعد زيارة بوتين إلى تركيا ما زال غير معروف.

كل ذلك يدفعنا لوضع تركيا في مكانها الصحيح من روسيا، لا يمكن أن تكون تركيا كما إيران مع روسيا، لكن روسيا في سلوكها السياسي مع تركيا تسعى لترويض هذا الكيان الأطلسي القابع بالقرب من حدودها وفق مصالحها، وهنا لا بد من الإشارة إلى أنه بعد الانقلاب الفاشل في تركيا في العام 2016، وبرغم تقارب تركيا مع روسيا في ملفات تخص سوريا والغاز الروسي، بقيت تركيا خلال السنوات الماضية تواجه روسيا في ملفات عديدة مثل أرمينيا وأذربيجان وليبيا، ما يعني عدم وضع تركيا في مكانة الحليف الموثوق في معرض تقييم سلوكها الأخير مع أوكرانيا، فتركيا لطالما كانت أقرب إلى “الناتو” بالمعنى الجيوسياسي، برغم أن تركيا الأردوغانية تنتهج سياسات خارجية براغماتية تجعلها دائمة الحضور في لعبة الشطرنج الكبرى.

Print Friendly, PDF & Email
رانية الجعبري

صحافية وقاصة من الأردن

Premium WordPress Themes Download
Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Free Download WordPress Themes
free download udemy paid course
إقرأ على موقع 180  كورونا لبنان.. مناعة أم جمر تحت الرماد!