لا شك أن لقضية الشاب نائل المرزوقي (17 عاماً) مسبباتها المرتبطة بالحدث الذي تسبب بمقتله مباشرة، إلا أنها تطرح إشكاليات عديدة تبدأ بواقع الدولة وقدرتها على الضبط وفرض حكم القانون ولا تنتهي مع نظرية المؤامرة وما اذا كان هناك من يستثمر في الحدث لتهديد الاستقرار الداخلي للدولة.
ولطالما شكّلت مسألة التكوين الاجتماعي المتنوع لدولة ما، عنصر قوة لها، بالمعاني السياسية والثقافية والإجتماعية، إلا أن هذا العنصر قد يتحول إلى مصدر لزعزعة إستقرار وأمن الدول عندما تصبح كل فئة، أكانت دينية أم عرقية، تتحرك على أساس احتياجات وحقوق خاصة، مستندة إلى خطاب ينادي بحقوقها يكون مُدّعماً بنبش الذاكرة والتاريخ ولا سيما الحالات التي شكلت اعتداء أو اجحافاً بحقوق هذه الفئة أو تلك.
من المنظور الحقوقي يمكن اعتبار الأسباب الدافعة لتحرك هذه الفئات أسباباً مشروعة ولكن ماذا عن النتائج، ومنها ما يمكن أن يُهدّد وجود الدولة؟.
إن جدلية “الأسباب المشروعة” و”النتائج المُدمّرة” لا يحسم فيها إلا وجود دولة وعقد اجتماعي مصان ومتماسك لا تهزه ولا تُهدّده حادثة من هذا النوع.
اللافت للإنتباه أن ذلك يحدث، فيما يشهد العالم تصاعد النزعات القومية والانفصالية لترفع منسوب المخاطر على وحدة الدول. ولقد شكّل تصاعد دور أحزاب اليمين المتطرف في أوروبا نموذجاً لجهة وصولها إلى الحكم عبر صناديق الاقتراع مستفيدة من الأزمات المتنوعة، سياسياً وإقتصادياً وأمنياً وإجتماعياً، وهذه كلها تطرح إشكالية الهوية وما يتفرع عنها من إشكاليات أبرزها إشكالية المهاجرين واللاجئين وما تطرح من تحديات ديموغرافية وثقافية وإجتماعية في العقود المقبلة.
وتلعب التركيبة الاجتماعية للدولة وطبيعة تكوينها، أكانت متعددة القوميات أم من لون قومي واحد، دوراً في نشأة الدولة كما في تفككها أيضاً. ففي الاتحاد السوفياتي الذي كان مُكوناً من تركيبة اجتماعية غنية بالقوميات المختلفة والتي كانت تعد ميزة وعنصر قوة للنظام الشيوعي الذي حكم كل تلك القوميات الموروثة من زمن الإمبراطورية الروسية، أكثر من سبعين عاماً، تحولت هذه الميزة إلى عنصر سلبي أدى إلى إنحلال هذا الإتحاد بلمح البصر، وهذا ما يؤكد العلاقة بين ضعف الدولة المركزية وتصاعد النزعات القومية الاستقلالية.
الحالة الدولية المشبعة بالفوضى وولادة حالات انفصالية تُعبّر عن نفسها بجرأة أكبر مستفيدة من سرعة وسائل الاتصال والتواصل وغيرها من العوامل التي ترتبط كلها بعصر العولمة والنيوليبرالية؛ عصرٌ إعتقدنا أنه سيفضي إلى إندماج أكثر بين الكيانات، أكانت اقتصادية أم سياسية، ولكن المفارقة أنه أصبح معبراً حيوياً للتوجهات التفكيكية
بدوره، الاتحاد الأوروبي الذي يحتوي فيضاً من القوميات، يواجه تصاعد الدعوات إلى تفكيك الاتحاد ومناهضة سياساته، خاصة بعد ظهور مؤشرات ضعف مؤسسات الاتحاد الأوروبي في مواجهة الأزمات وآخرها الأزمة الأوكرانية التي عكست عمق الخلافات داخل البيت الأوروبي.
ومن الصين إلى الهند وإندونيسيا وصولاً إلى الكيبيك في كندا والبرازيل والمكسيك، مروراً بأوروبا، ثمة صعود للأحزاب اليمينية المتطرفة وخطابها الشعبوي، وهو أمر يزيد منسوب المخاطر الإنفصالية.
إن روسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا الآن ودعمت إجراء استفتاء شعبي حول انفصال إقليم الدونباس، كما فعلت سابقاً في أوسيتيا وشبه جزيرة القرم، هي نفسها تحمل بذور التفتيت ومشاريع الانفصال التي وإن خفتت الآن، لكنها تبقى ناراً تحت الرماد، إذ لا تقتصر الرغبات الانفصالية على الشيشان وداغستان ولكن هناك من ينتظر ظروفاً أفضل لإعلان هذه الرغبة، فالخصوصيات الاثنية والدينية وغيرها لا تشكل السبب الحقيقي والوحيد للرغبة في الانفصال والاستقلال اذ يكمن أيضاً السبب الاقتصادي في العمق (وجود مواد أولية بوفرة مثلاً) يمكن أن يختبئ خلف هذه الخصوصيات.
كذلك بالنسبة لروسيا التي تخوض حرباً في أوكرانيا بدعوى حماية أمنها القومي، لها تاريخ في تغيير النظام في أعقاب الحروب الفاشلة، فقد ساعدت كلٌّ من الحرب الروسية ـ اليابانية (1904–1905) والحرب العالمية الأولى (1914 ـ 1918) على اندلاع الثورة البلشفية وفقدان شرعية النظام القيصري في روسيا وسط الجوع والفقر والجهود الحربية المتعثرة في العام 1917. وجاء انهيار الاتحاد السوفيتي عام 1991 بعد عامين من نهاية مغامرة التدخل العسكري السوفياتي في أفغانستان..
إن لبنان الذي يعيش أزمة وجودية لا مثيل لها منذ ولادة دولة لبنان الكبير في العام 1920، بدأ يشهد في الآونة الأخيرة تصاعداً لافتاً للإنتباه في النبرة الداعية إلى إعتماد الفيدرالية بديلاً للدولة المركزية. وبمعزل عن غرابة هذا الطرح الذي لا تتوافر شروط تحققه لا محلياً ولا خارجياً حتى الآن، إلا أنه يُعبّر عن منحى الخطاب الشعبوي اليميني المتطرف الذي يتغلغل في ثنايا هذا النظام الدولي الإنتقالي. لذا، ليس مفاجئاً تصاعد هذه النزعة نحو التقوقع في ظل عالم معولم.
لا شك أن الحالة الدولية المشبعة بالفوضى وولادة حالات انفصالية تُعبّر عن نفسها بجرأة أكبر مستفيدة من سرعة وسائل الاتصال والتواصل وغيرها من العوامل التي ترتبط كلها بعصر العولمة والنيوليبرالية؛ عصرٌ إعتقدنا أنه سيفضي إلى إندماج أكثر بين الكيانات، أكانت اقتصادية أم سياسية، ولكن المفارقة أنه أصبح معبراً حيوياً للتوجهات التفكيكية.