خلال حملته الانتخابية الأخيرة، تعهد أردوغان، بجعل بلاده “من بين أفضل عشر دول في العالم، في السياسة والاقتصاد والتكنولوجيا والدبلوماسية”، واصفاً بعض إنجازاته الداخلية على أنها كانت “تحدٍ للهيمنة الغربية”؛ مثل تحويل الكنيسة البيزنطية الشهيرة في اسطنبول “آيا صوفيا” إلى مسجد. وقدم “رؤيته” للجمهورية التركية في الذكرى المئوية لتأسيسها على أنها “قوة صاعدة، يسودها السلام والازدهار، انتصرت في معارك عديدة مع الإمبرياليين، وأصبحت جاهزة لأخذ مكانها الصحيح كقوة عالمية”.
من خلال هذه “الرؤية”، يقول أردوغان إنه طالما هو على رأس القيادة لن تعتمد تركيا بعد اليوم على الغرب، ولن تحتاج لإعترافه بها، وإن البحث عن الهوية التركية لن يكون مرتبطاً بتطبيق المُثل الليبرالية الغربية، كما كان الحال طوال العقود الماضية.
قبل أردوغان، كانت هوية تركيا (الغربية) موضع تقدير ودعم عبر حلف الأطلسي، ليس فقط كضرورة جيوسياسية ولكن أيضاً كإرث لمؤسس الدولة، مصطفى كمال أتاتورك، وهذا ما دفع كافة قطاعات الدولة للعمل، من الأعلى إلى الأسفل، وعلى مدى عقود طويلة، من أجل تحقيق هدف أساسي ألا وهو “الحداثة والتغريب”. ومع ذلك، نكاد لا نجد اليوم أي شخص في المجال العام يدافع عن الأفكار أو المؤسسات الغربية. وصار المعلقون والسياسيون يسخرون بشكل روتيني من أميركا وأوروبا وحلف شمال الأطلسي (الناتو)، ويصفونهم بالمنافقين والاستغلاليين ويتهمونهم بأنهم يريدون إخضاع تركيا (…).
قدم في كل معسكر
ثمة تحول مماثل في السياسة الخارجية لتركيا. ففي العقود التي أعقبت الحرب العالمية الثانية، وبهدف حماية نفسها من تهديدات التوسع السوفييتي، حاولت تركيا ترسيخ نفسها داخل المؤسسات الأوروبية-الأطلسية، وسعت لتقليد الديموقراطيات الغربية المتقدمة والمزدهرة. وكانت واشنطن تنظر إليها كدولة حدودية مفيدة في حربها ضد الشيوعية والنفوذ السوفييتي. لم تكن تركيا يوماً غربية بالكامل ولا ديموقراطية بالكامل. ولكن خلال فترة الحرب الباردة، أرادت النُخب العلمانية ترسيخ البلاد كـ”تابع” للغرب، وهي حقيقة كانت لصالح صانعي السياسة في الولايات المتحدة.
لكن الصورة اليوم باتت مختلفة جداً. فمنذ تولي أردوغان السلطة، في عام 2002، وتحديداً بعد محاولة الانقلاب الفاشلة ضد حكومته في عام 2016، ساءت العلاقة بين واشنطن وأنقرة بشكل مطرد، وأصبحت حتى أقل قيمة من تلك التي تقيمها أميركا مع العديد من الدول غير الأعضاء في “الناتو”. غالباً ما يصف الساسة الأتراك، بمن فيهم أردوغان، أميركا بأنها خصم وليس شريكاً. مثلاً، عندما فرضت واشنطن عقوبات على تركيا لأنها اشترت أنظمة صواريخ “إس -400” من روسيا، عام 2020، وصف أردوغان القرار الأميركي بأنه “هجوم صارخ” على السيادة التركية، وقال إن “الغرض من العقوبات هو إبقاءنا تابعين”. في المقابل، يُشكك بعض صانعي السياسة الأميركيين علانية في التزام تركيا بحلف “الناتو”، ويخشون أن تقترب أنقرة من موسكو.
السلام البارد بين واشنطن وأنقرة أشبه ما يكون بالطلاق الودّي أكثر من كونه تعاوناً متبادل المنفعة
لكن هذا الغضب المتبادل بدأ مؤخراً يتحول إلى هدوء متبادل. فتركيا تدرك جيداً معنى أن الغرب في حالة انحدار، وأن عالماً متعدد الأقطاب آخذ في التشكل، ما يوفر لها فرصة لصعودها إلى مكانة القوى العُظمى، ظاهرياً على الأقل. تركيا تريد التقرب من منظمة شنغهاي لكن من دون الإنقطاع نهائياً عن “الناتو”. بمعنى آخر، هي تريد الحفاظ على قدم في كل معسكر، وفي الوقت نفسه، تريد توسيع نفوذها في الشرق الأوسط وآسيا الوسطى وتعزيز قوتها الاقتصادية على نطاق أوسع (…).
الأخوة الأعداء
تتمثل الاستراتيجية التي تتبعها إدارة الرئيس الأميركي، جو بايدن، تجاه تركيا في سياسة “الإبقاء على مسافة”.. يمكن القول إن نهج بايدن نجح إلى حد ما، لا سيما لجهة خفض التوقعات والتغلب على الاختلافات، والمحافظة على روابط مشتركة خصوصاً في القضايا الجوهرية، مثل الانسحاب الأميركي من أفغانستان في عام 2021، وصفقة شحن الحبوب عبر البحر الأسود (هنا لعب أردوغان دوراً رئيسياً في إقناع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين).
لكن إدارة بايدن ما تزال قلقة بشأن نهج تركيا في الإقليم، خصوصاً عملياتها العسكرية في سوريا وتصعيد خطابها السياسي ضد اليونان بشأن الحدود البحرية المشتركة ودعمها القوي للحملة العسكرية الأذربيجانية ضد أرمينيا (…). قلق تتعامل معه واشنطن على أساس مبدأ ضبط النفس تجنباً لإثارة أي نوع من المواجهة. بالمقابل، بادرت أنقرة إلى إيقاف التنقيب عن الغاز في المياه الإقليمية المتنازع عليها مع قبرص. وفي الوقت نفسه، تحرص على أن تبقي عملياتها العسكرية في سوريا بعيدة عن القوات الأميركية، وقد امتثلت، على مضض، لاتفاقية عام 2019 مع واشنطن التي حدّدت المناطق التي يسيطر عليها الأكراد وتلك التي تسيطر عليها تركيا. باختصار، يمكن القول إن أردوغان تجنب، إلى حد كبير، خوض مواجهة مباشرة مع إدارة بايدن، برغم العداء المتنامي لواشنطن على نطاق واسع بين الجمهور التركي.
في الأثناء، ازدهرت العلاقات الروسية-التركية خلال العقد الماضي، ونجت أنقرة حتى الآن من اختبار حرب أوكرانيا. فهي رفضت الامتثال للعقوبات المفروضة على روسيا، وحافظت على علاقات اقتصادية وسياسية مع الكرملين، مدعومة بعلاقة شخصية وثيقة تجمع بين بوتين وأردوغان الذي امتنع عن أي انتقاد مباشر لموسكو ودعم الرواية الروسية بأن الغرب هو من حرَّض على هذه الحرب.
ومع ذلك، وقف أردوغان إلى جانب كييف في حربها ضد موسكو، وأقام علاقات دفاعية وثيقة معها وزوَّدها بالأسلحة، وأيّد طلبها الإنضمام لـ”الناتو”. لا تريد أنقرة أن ترى سيطرة روسية على جناحها الشمالي. لذلك تظل أنقرة وموسكو في حالة تنافس استراتيجي، وكل منهما تدعم أطرافاً متعارضة في حروب بالوكالة، مثل تلك التي تجري في ليبيا وسوريا.
حامي الحدود
تسعى تركيا إلى تجنب التبعية الاستراتيجية من خلال التنقل بين القوى العُظمى. لكن وضعها شديد الحساسية والخطورة، وقد تكون هي الجدار الحامي ولكن الممزق، ليس فقط بين مختلف الدول الأكثر قوة، ولكن أيضاً بين الأنظمة الاستبدادية والديموقراطية، وبين أوروبا وأوراسيا، وبين الأنظمة العلمانية وتلك ذات الميول الغربية والقومية المحافظة.
قد تعتقد تركيا أنها لم تعد بحاجة إلى المظلة الأمنية الغربية، لكن اقتصادها لا يزال متشابكاً بشكل كبير مع الأسواق الغربية في وقت يعاني من أزمة حادّة معقدة نتيجة سياسات أردوغان خلال السنوات الماضية
وتشير الخيارات التي يتخذها أردوغان إلى نيته السير في هذا المسار المعقد بـ”استراتيجية التحوط”. فهو عيَّن محمد شيمشك وزيراً للمالية، وهاكان فيدان وزيراً للخارجية، وجودت يلماز نائباً للرئيس، ويلماز تونك وزيراً للعدل، وإبراهيم كالين مديراً للإستخبارات الوطنية. وهؤلاء يمثلون فصيلاً يؤمن بأن بإمكان تركيا تعزيز موقعها وتحسين اقتصادها، وفي الوقت نفسه الالتفاف على هيمنة روسيا بمهارة أكبر وذلك من خلال المحافظة على علاقات أفضل مع أميركا وأوروبا. وهؤلاء أيضاً حلفاء مخلصون لأردوغان وقادرون على العمل مع نظرائهم الغربيين دون المراهنة على المصالح التركية.
وهذا، بشكل عام، تطور إيجابي بالنسبة لواشنطن وحلفائها. فتركيا تقع في قلب العديد من تحديات السياسة الخارجية الرئيسية لواشنطن، وموقعها الاستراتيجي على البحر الأسود يجعلها لاعباً مهماً في مسار الحرب الأوكرانية وعنصراً حاسما للجهود الغربية لاحتواء روسيا (…). وتمتد أهمية تركيا بالنسبة لواشنطن وحلفائها إلى ما وراء منطقة البحر الأسود، وتحديداً في موضوع حفظ الاستقرار في القوقاز، وحفظ النفوذ الغربي في العراق وسوريا، وفي إنشاء بنية مُستدامة لنقل الطاقة تسمح لأوروبا بالاستفادة من الموارد الهائلة المحتملة في شرق البحر الأبيض المتوسط.
التعامل مع الوضع
لكل هذه الأسباب، يجب على واشنطن أن تضمن استقرار علاقتها مع أنقرة (…). وقد تكون المساومة الناجحة التي حصلت في قمة “الناتو” الأخيرة، في فيلنيوس، بشأن انضمام السويد لـ”الناتو” نموذجاً. فمقابل دعم ستوكهولم، حصلت أنقرة على تنازلات ليس فقط من السويد بل وأيضاً من أميركا، حيث وافق الكونغرس على بيعها طائرات F-16 التي ترغب بها منذ سنوات. كما أن بايدن خصَّ أردوغان باجتماع ثنائي جرى الترويج له عبر مقطع فيديو يظهر الحفاوة وعبارات الشكر التي نالها أردوغان. وهناك حديث عن دعوة أردوغان لزيارة البيت الأبيض في وقت لاحق من هذا العام. أضف إلى ذلك أن وزيرة الخزانة الأميركية، جانيت يلين، التقت مؤخراً بنظيرها التركي (محمد شيمشك)، وهو لقاء مهم جداً بالنظر إلى الوضع الاقتصادي الهشّ في تركيا.
ما حقّقه أردوغان في قمة فيلنيوس يثبت أنه لا يزال صانع القرار الوحيد في القضايا الرئيسية الخاصة بالسياسة الخارجية لبلاده. لذلك، هو يسعى دائماً للحصول على اعتراف وشرعية دوليين خصوصاً وأنه يُدرك جيداً أن البيئة الجيوسياسية تتغير بسرعة وأنه من الأفضل لتركيا المحافظة على علاقاتها مع الغرب. لذلك ستكون طريقة التعامل انتهازية بطبيعتها وقصيرة المدى في آفاقها. والهدف من ذلك تحقيق صفقات قوية تصب في صالح الطرفين ولا تثقلها شروط الولاء الدائم أو عرقلة علاقات تركيا مع روسيا أو الصين. ومن الصفقات الجاهزة للتطبيق: التعاون الاقتصادي، الوضع في سوريا، وملفات حقوق الإنسان.
الصديق وقت الضيق
قد تعتقد تركيا أنها لم تعد بحاجة إلى المظلة الأمنية الغربية، لكن اقتصادها لا يزال متشابكاً بشكل كبير مع الأسواق الغربية في وقت يعاني من أزمة حادّة معقدة نتيجة سياسات أردوغان خلال السنوات الماضية، والتي استنزفت احتياطيات البنك المركزي، وتسببت بانهيار العملة الوطنية وخفض دخل الفرد بشكل كبير. لذلك حرص أردوغان على تعيين محمد شيمشك وزيراً للمالية (مصرفي وسياسي محنك، وأحد أبرز مهندسي السياسة النقدية)، وعيَّن حافيظ جاي إركان محافظاً للبنك المركزي على أمل عكس المسار وإنعاش الاقتصاد (…).
من دون مؤشرات واضحة على الدعم والتمويل الغربيين، سيظل الاقتصاد التركي متقلباً ويترنح على حافة الانهيار. الدعم الدولي المطلوب هو إحياء فكرة زيادة التجارة السنوية الإجمالية بين أميركا وتركيا إلى 100 مليار دولار (وهو هدف أعلنت عنه إدارة ترامب في عام 2019 ولكن سرعان ما تراجعت عنه)، وتشجيع الاتحاد الأوروبي على تحديث اتفاق التجارة الحالي مع تركيا (…)، ودفع بروكسل لبدء مفاوضات مع أنقرة بشأن دمج تركيا في خطط الاتحاد الأوروبي للتحول الأخضر، والتي تشمل تطوير الطاقة المتجددة في حوض البحر الأبيض المتوسط.
في المقابل، يمكن لتركيا أن تخفف تدخلها في شرق البحر المتوسط وبحر إيجة، وتساعد على التهدئة بين اليونان وقبرص. وهي بالفعل قدمت الكثير لمساعدة أوروبا في إدارة ملف الهجرة. وبفضل موارد الطاقة الوفيرة والعمالة الرخيصة، يمكنها أيضاً أن تضع نفسها على الخريطة كقاعدة إنتاج للولايات المتحدة وأوروبا اللتين تحاولان التقليل من اعتمادهما على المنتجات الصينية وبالتالي التخلص من “المخاطر” التي تفرضها المنافسة الصينية.
الطريق إلى دمشق
تشكل سوريا مصدر إزعاج أساسي بين أنقرة وواشنطن. القضية المركزية هي معارضة تركيا لتحالف واشنطن مع الأكراد السوريين. وهي القضية ذاتها التي تتفق عليها أنقرة مع موسكو: كلاهما يعارضان فكرة إقامة حكم ذاتي كردي في سوريا، ويتشاركان الرغبة في أن تنسحب القوات الأميركية من هناك برغم اختلاف موقفيهما من نظام بشار الأسد (…).
تُعد تركيا أردوغان نموذجاً أولياً لنوع القوى الاقليمية المتوسطة التي على واشنطن أن تتوقع ظهورها في عصر المنافسة الجيوسياسية الحالية
وإذا كانت واشنطن وأنقرة تريدان استقرار العلاقات بينهما، فسيتعين عليهما في النهاية التحدث عن سوريا ومستقبلها. ستكون زيادة المساعدات الأميركية للاجئين السوريين في تركيا وشمال سوريا خطوة أولى. يجب على واشنطن أيضاً تشجيع الأكراد السوريين على تطبيع العلاقات مع نظام بشار الأسد. فواشنطن لا يمكنها أن تكون الراعي الوحيد للحكم الذاتي الكردي السوري. وإذا كانت هناك صيغة لتحقيق ذلك، فلن يكون أمام تركيا خيار سوى القبول طالما هناك ضمانات بأن حزب العمال الكردستاني لن يكون له نفوذ. ويمكن أن تؤدي مثل هذه الصفقة أيضاً إلى انسحاب القوات الأميركية من سوريا والبدء في إعادة إعمار شمال سوريا بأموال دولية، مع ضمان الأتراك حصة من الاستثمارات المرتقبة (…).
لا أعداء ولا حلفاء
لن يتغير أردوغان، وكذلك لن تكون تركيا ما بعد الغرب حليفاً تقليدياً عبر الأطلسي. لتركيا مجموعة مصالح خاصة؛ بعضها مشترك مع واشنطن، والبعض الآخر لا. كذلك للولايات المتحدة علاقات مستقرة مع العديد من الشركاء الذين لا تتفق معهم أنقرة. ومع ذلك، يمكن أن تكون العلاقات الأميركية-التركية في مكان أفضل يدعم الاقتصاد التركي، ويساعد أنقرة على تحقيق التوازن ضد روسيا، ويمنح واشنطن مزيداً من الثقة في منافستها للصين في الشرق الأوسط.
تُعد تركيا أردوغان نموذجاً أولياً لنوع القوى الاقليمية المتوسطة التي على واشنطن أن تتوقع ظهورها في عصر المنافسة الجيوسياسية الحالية. وهذه القوى المستجدة لن تتعامل مع الصراع القائم بين واشنطن وبكين وموسكو وفق أسس أخلاقية أو أيديولوجية، بل ستسعى للحفاظ على استقلالها والبحث عما يمكن الإستفادة منه. وسيكون على واشنطن تقديم إجابات تتجاوز الأناشيد الفارغة وصولاً إلى خلق علاقات توفر منفعة عادلة لجميع الأطراف (…).
– ترجمة بتصرف عن “فورين أفيرز“.
(*) آشلي آيدينتاسباس وجيريمي شابيرو، كلاهما عضو في المجلس الأوروبي للعلاقات الخارجية، وفي معهد “بروكينغز”.