النيجر.. خمسة عقود وخمسة انقلابات

منذ الإنقلاب العسكري الذي شهدته النيجر في السادس والعشرين من تموز/يوليو الماضي، تزاحمت التقديرات حول هوية الإنقلابيين السياسية، وذهب بعضها إلى الحسم والجزم بأن ما جرى يندرج في سياق انبعاث الروح الوطنية الهادفة إلى الإنعتاق من هيمنة الرجل الأبيض، فإلى أي حد يصح ذلك؟

حين زار رئيس النيجر هاماني ديوري مدينة القاهرة في الرابع من تموز/يوليو 1963، صدر في العاصمة المصرية كتاب “كفاح النيجر” لأحمد صوّار، وكانت النيجر قد نالت استقلالها قبل ذلك بثلاث سنوات وشارك رئيسها بالتوقيع على ميثاق “منظمة الوحدة الأفريقية”، ويقول صوّار في كتابه إن النيجر “تتجه إلى الإشتراكية من أجل دعم استقلالها الوليد”.

هذا التقدير من قبل المؤلف لم يحل دون قوله “إن فرنسا تمنح النيجر 800 مليون فرنك سنوياً” كما ارتفع “مشروع المعونة الأميركية الجديد في النيجر إلى مليوني دولار لعام 1962″، وهذا الأمر لم يكن يعني في تلك الفترة إلا الربط المحكم للنيجر بالمنظومة الرأسمالية الغربية وأسواقها، ومع ذلك لم يفت الكاتب القول إنه “بإستقلال النيجر فقدت فرنسا هيبتها ونفوذها على مستعمراتها السابقة في إفريقيا الغربية وإفريقيا الإستوائية”.

لا شك أن هذا النموذج من التقديرات المتسرعة والمستعجلة، رافق العديد من التحليلات التي تلت انقلاب السادس والعشرين من تموز/يوليو الفائت، حين قادت مجموعة من كبار الضباط النيجريين انقلابا عسكريا أطاح بالرئيس محمد بازوم، إذ سرعان ما قيل إن اتجاها وطنيا يطبع هذا التطور يقضي بإخراج الفرنسيين من البلاد بعد طول استعمار واستعباد.

الإنقلابات العسكرية مشهد تقليدي في النيجر وغالبا ما تكون تعبيرا عن صراعات داخل المؤسسة العسكرية أو خلافات بين الأخيرة والقادة السياسيين، أو نزاعات بين السياسيين والسياسيين

لا تذهب هذه المقالة إلى مناقشة “نوعية” الوطنية التي تُسقط علم دولة كبرى وترفع علم غيرها؛ ذاك مجال آخر للنقاش، ولكن ما تبتغيه هذه المقالة النقاش في حقيقة الإنقلاب وعما إذا كان ذا مضمون وطني أو ذا أبعاد سلطوية لا مأرب لها سوى الحُكم والإستئثار، ولنا في العالم الثالث أسوة سيئة في الإستعجال بإسقاط “الأحكام الوطنية” على العديد من الإنقلابات والإنقلابيين، ومع ذلك كله، فمناقشة انقلاب النيجر الأخير، توجب العودة إلى تاريخ الإنقلابات في هذه الدولة منذ استقلالها عام 1960:

ـ الإنقلاب الأول:

في السادس عشر من نيسان/ابريل 1974 خرجت الصحف العربية والأجنبية منبئة بواقعة الإنقلاب الأول في النيجر، فقالت “النهار” اللبنانية “انقلاب عسكري في النيجر/رئيس الأركان يتسلم السلطة لوقف الظلم والفساد والغطرسة”، وتحدثت “القبس” الكويتية عن “انقلاب في النيجر يطيح الرئيس هاماني ديوري/تعطيل الدستور وحل الأحزاب والجمعية الوطنية”.

وكتبت “الأهرام” المصرية تحليلا سياسيا في صفحتها الأولى فقالت:

“حين يختفي الحاج هاماني ديوري بعد 15 سنة في دنيا السياسة الإفريقية، لا يبقى من الرؤوس التقليدية غير اثنين فيما كان يُسمّى قبل الإستقلال بإفريقيا الغربية الفرنسية، هما الرئيس سنغور في السنغال وبوانييه في ساحل العاج، وهذا يطرح آثاره القادمة على مصير ومستقبل مواريث فرنسا في إفريقيا بوجه عام”.

استعجلت “الأهرام” في العام 1974 بإصدار حُكمها وإسقاط تمنياتها على “مواريث فرنسا”، ذلك أن جُلّ من جلبتهم العملية الإنقلابية لم يخرجوا عن الجادة الفرنسية، وهكذا كانت أحوال من جاء بعدهم بإنقلابات أو بغيرها، وخطاب التغيير ورفع الظلم الذي رفعه انقلابيو عام 1974 تبيّن انه لم يكن أكثر من مطية لركوب السلطة وإزاحة من كان فيها قبلهم.

حاول العقيد معمر القذافي أن “ينصب” له خيمة في النيجر بعد انقلاب 1974 فأرسل (النهار” 17 ـ 4 ـ 1974) الرائد عبد السلام جلود رئيس الحكومة الليبية إلى النيجر للوقوف على حقيقة الموقف في أعقاب الإنقلاب العسكري هناك ومعرفة مصير معاهدة الدفاع والتعاون الموقعة بين القذافي والرئيس النيجري المخلوع، ولكن السلطات العسكرية الجديدة في نيامي عاصمة البلاد “رفضت السماح لطائرة عبد السلام جلود بالهبوط في النيجر”، حسب صحيفة “الأهرام” (19 ـ 4 ـ 1974).

ـ الإنقلاب الثاني:

في التاسع والعشرين من كانون الثاني/يناير 1996 أفادت صحيفة “الحياة” أن “جيش النيجر استولى على السلطة وبرّر ذلك بأن الطموحات السياسية الشخصية أفسدت مناخ الديموقراطية وأعلن الكولونيل ابراهيم مايناسرا ـ مناصرة ـ تجريد الرئيس مهامان عثمان من سلطاته وتعليق الدستور وحل الحكومة والبرلمان وحظر الأحزاب السياسية”. وقالت “النهار” إن “رئيس أركان جيش النيجر أطاح الرئيس وتولى السلطة وانتقد مناصرة المطامح الشخصية والتعصب وسوء الإدارة للسلطات السابقة مؤكدا عزمه إنقاذ البلد من مخاطر كبيرة”. وأشارت “الإتحاد” الإماراتية إلى أن رئيس أركان الجيش النيجري “يُنصِّب نفسه رئيساً للنيجر ويُبرّر انقلابه بفساد الديمقراطية”.

في الثلاثين من الشهر نفسه، ذكرت صحيفة “السفير” اللبنانية أن قائد الإنقلاب في النيجر أعلن عدم رغبته “البقاء في الحُكم وشدد على عدم خضوعه للتهديدات الآتية من الخارج وأوضح أنه قام ورفاقه بالإنقلاب لدوافع وطنية”. وأشارت صحيفة “الإتحاد” الى ما بثته إذاعة النيجر عن مباحثات أجراها قائد الإنقلاب “مع السفير الأميركي ودعا الى عقد اجتماع مع جميع الدبلوماسيين الأجانب وممثلي المنظمات الدولية في وزارة الخارجية”. وفي “النهار” أوضح مناصرة “أمام أعضاء السلك الدبلوماسي المعتمد أن مجلس الإنقاذ الوطني ـ قادة الإنقلاب ـ سيؤلف مجلس حكماء”. وفي حديث للإذاعة الفرنسية (“الحياة” ـ 30 ـ 1ـ1996) قال مناصرة “إن الطموحات الشخصية أضرت بالديموقراطية القائمة على التعددية الحزبية وهدّدت استقرار النيجر”.

ـ الإنقلاب الثالث:

في صبيحة العاشر من نيسان/ابريل 1999 ورد في صحيفة “النهار” نقلاً عن وكالات الأنباء العالمية “اغتيال رئيس النيجر برصاص الحرس الجمهوري ـ وسيطر الجيش ـ على العاصمة نيامي إثر انقلاب أودى بحياة الرئيس ابراهيم مناصرة”. وعنونت “القدس العربي” اللندنية الآتي: “مقتل رئيس النيجر خلال انقلاب والقذافي يعرب عن قلقه”، أما “العرب اليوم” الأردنية فأشارت إلى أن جنوداً “نصبوا كميناً لمناصرة في مطار نيامي وقتلوه”.

وفي اليوم التالي لمصرع مناصرة، شرحت “العرب اليوم” أسباب مصرعه إذ “ذكرت مصادر متطابقة في نيامي ان اغتيال مناصرة مرتبط على ما يبدو بخلافات داخل الجيش”، ووصف رئيس الحكومة ابراهيم ماياكي مصرع مناصرة بأنه “حادث مؤسف” بحسب “القدس العربي” (12-4-1999) وعند تشييع مناصرة لاحظت “الدستور” الأردنية (12ـ 4 ـ 1999) أن دفن الرئيس “اتسم بالبساطة والإقتضاب وحضر نحو مئة شخصية عسكرية وسياسية المراسم، ولوحظ غياب قائد الحرس الجمهوري الذي يُشتبه في وقوفه وراء اغتيال الرئيس”.

ليس من السوية والصواب بمكان أن يجري عزل خلفيات الإنقلاب الأخير عن عدم رضا قبائل “الهوسا” وهي الغالبية السكانية بأن يتولى محمد بازوم رئاسة البلاد وهو من الأقلية العربية

ونقلت “الدستور” أيضاً (13 ـ4 ـ1999) عن متحدث بإسم الجيش قوله إن أقوى رجل في الحكومة الجديدة “سيكون قائد الحرس الجمهوري” واعتبر النائب موسى حميد وهو من أنصار الرئيس المقتول “أن النيجر رجعت عشر سنوات إلى الوراء” على ما روت “القدس العربي” و”العرب اليوم”.

إقرأ على موقع 180  "أيام لبنانية حاسمة".. حكومة دياب إلى الإنتخابات دُرْ!

وكردة فعل على اغتيال مناصرة “اضطر وفد النيجر (“رويترز” ـ 15ـ 4 ـ1999) إلى الإنسحاب من قمة دول الساحل والصحراء المنعقدة في ليبيا بعد أن أعرب رؤساء الدول المشاركة عن غضبهم من اغتيال مناصرة، وقال بيان بثته وكالة أنباء الجماهيرية الليبية إن القمة تدين بشدة هذا العمل الإجرامي وتطالب بإجراء تحقيق كامل في واقعة الإغتيال وعقاب مدبريها”.

ـ الإنقلاب الرابع:

في الثامن عشر من شباط/فبراير 2010 تناقلت وسائل الإعلام المختلفة واقعة انقلابية جديدة في النيجر، وبثت قناة “الجزيرة” الواقعة على الشكل التالي “انقلاب عسكري يطيح برئيس النيجر” وتعاملت قناة “بي بي سي” مع الحدث كالتالي “انقلاب عسكري يطيح بنظام رئيس النيجر مامادو ـ محمد ـ تانجا” وجاء في صحيفة “الأخبار” اللبنانية في اليوم التالي “النيجر: احتجاز رئيس الجمهورية خلال محاولة انقلابية”.

في العشرين من شباط/فبراير 2010 قالت صحيفة “الأيام” الفلسطينية “إن المجموعة العسكرية التي استولت على السلطة في النيجر علقت العمل بدستور آب/أغسطس 2009 المثير للجدل وحلت الحكومة وأعلنت عن إجراء انتخابات لم تحدد موعدها” وفي صحيفة “الجزيرة” السعودية “أعلن المجلس الأعلى لإعادة الديموقراطية في النيجر الذي قاد انقلابا عسكريا أنه حلّ الحكومة وأعلن تعليق الدستور الذي تم تبنيه في آب/أغسطس الماضي في استفتاء قاطعته المعارضة وكان سبب الأزمة السياسية التي تشهدها البلاد، ويُسهل الدستور تمديد ولاية الرئيس تانجا ثلاث سنوات بعد ولايتين من عشر سنوات”.

وعمد العسكريون إلى تسيير مسيرات (22ـ 2 ـ 2010) مؤيدة لهم قبل مجيء وفود من الأمم المتحدة والقارة الإفريقية إلى نيامي العاصمة للإطلاع على مجريات الأوضاع، وقد “وصل مبعوثون من الأمم المتحدة والإتحاد الإفريقي إلى النيجر غداة تظاهرة شارك فيها الآلاف تعبيرا عن دعمهم للإنقلابيين العسكريين” كما ورد في “الجزيرة” السعودية، و”شارك آلاف الرجال والنساء من طلاب وموظفين في تظاهرة بهدف تحية قوات الدفاع والأمن للعمل الوطني الذي أنجزوه للتو” مثلما جاء في “الأيام” الفلسطينية.

تعيين علي الأمين زين رئيسا للحكومة الجديدة وهو المعروف بعلاقته الوثيقة بصندوق النقد الدولي يطرح علامات استفهام كبرى حول الإتجاهات السياسية والإقتصادية للفريق العسكري الممسك بقبضة السلطة

– الإنقلاب الخامس:

لا يمكن فصل العملية الإنقلابية الأخيرة التي جرت في 26 تموز/يوليو 2023 في النيجر عن ثلاث ركائز أساسية يمكن ترتيبها كالآتي:

ـ إن الإنقلابات العسكرية مشهد تقليدي في النيجر وغالبا ما تكون تعبيرا عن صراعات داخل المؤسسة العسكرية أو خلافات بين الأخيرة والقادة السياسيين، أو نزاعات بين السياسيين والسياسيين.

ـ ليس من السوية والصواب بمكان أن يجري عزل خلفيات الإنقلاب الأخير عن عدم رضا قبائل “الهوسا” وهي الغالبية السكانية بأن يتولى محمد بازوم رئاسة البلاد وهو من الأقلية العربية.

ـ إن تعيين علي الأمين زين رئيسا للحكومة الجديدة وهو المعروف بعلاقته الوثيقة بصندوق النقد الدولي يطرح علامات استفهام كبرى حول الإتجاهات السياسية والإقتصادية للفريق العسكري الممسك بقبضة السلطة.

وفي بعض الشروحات حول الركيزتين الثانية والثالثة ما يمكن إضافته أيضا:

في شباط/فبراير 2021، جرت انتخابات رئاسية في النيجر فاز بموجبها محمد بازوم بنسبة تعدت 55 في المائة من الأصوات، بينما حصل منافسه ماماهان عثمان مرشح “الهوسا” على ما يتجاوز 44 في المائة بقليل، وآنذاك لم يعترف المرشح الخاسر بالنتائج ودعا إلى مواجهة “عملية التزوير” بالتظاهرات الشعبية، وحيث جرى اتهام محمد بازوم بأنه من أصول ليبية ولا يحق له الوصول إلى رئاسة البلاد، وقبل يومين (31ـ 3ـ2021) من تنصيبه رئيسا شهدت النيجر محاولة انقلابية فاشلة سعى من خلالها الإنقلابيون إلى اقصاء بازوم عن الرئاسة.

وأما رئيس الحكومة علي الأمين زين، فقد شغل منصب وزير المالية في عهد الرئيس ممادو ـ محمد ـ تانجا لسنوات عدة وحتى تاريخ إطاحة تانجا عن السلطة بالإنقلاب العسكري عام 2010، ولم يُعرف عن علي الأمين زين طوال مسيرته السياسية والإقتصادية سوى كونه مقربا من الرئيس تانجا المخلوع بالإنقلاب الرابع وغير البعيد عن الدوائر الفرنسية، فضلا عن موقعه المتقدم في “مصرف التنمية الإفريقي” وما يعنيه ذلك من علاقات متينة مع البيوتات المالية الدولية.

وعلى ذلك، قد لا يكون تعيينه رئيسا للحكومة النيجرية من قبل الفريق الإنقلابي عبثا أو ضربا من اللغو، إذ يبدو هذا التعيين محاولة من الإنقلابيين لإيجاد صلة الوصل المطلوبة مع الغرب ليعترف بالحُكم الجديد، على الأقل، هذا احتمال من الفطنة أن يأخذ مكانه في القراءة التي تبحث في مستقبل النيجر وما يجاورها في غربي إفريقيا.

أخيراً؛ بعض الشعر من وحي المناسبة:

للشاعر النيجري آمدو علي إبراهيم قصيدة بعنوان “على عتبة التاريخ” هذا مطلعها:

آتٍ لأُقد في عينيك مُقتبسا /كل الدروب ليال لم تجد قبسا

حلمان أنت: انتصارات مؤجلة / وموعد في أقاصي الفجر ما يئسا. 

Print Friendly, PDF & Email
Download Premium WordPress Themes Free
Free Download WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
free online course
إقرأ على موقع 180  "تفاهم نيسان 2023” فرصة فرنجية الأخيرة.. رئاسياً؟