من أينَ يأتي هذا الوهم القديم؟
فعلاً: من أين يأتي التّوهّم بأنّه يُمكننا أن نُعدم الألم من الوجود؟ من أين يأتي هذا الوهم، ولماذا يستمرّ عبر العصور، علماً بأنّ تواجد الألم هو – على ما يبدو لنا – من قوانين الحياة الكبرى على هذه الأرض – وفي هذا العالم الظّاهر – كما رأينا؟
نرى أسباباً رئيسيّةً ثلاثةً يمكن ذكرها في هذا الإطار:
(١) بُنية الذّهن (بمعنى: Le Mental) الإنساني، أي ما نسمّيه – نحنُ – عادةً وعموماً بالعقل المفكّر-الذّهني: وهي بنية قائمة في جوهرها على الإثنينيّة (Dualité) والضّدّيّة، كما على التّفكير الخطّي (Raisonnement Linéaire).
فمن جهة، يخدعُك ذهنك من خلال تركيزه على ما يراه “إيجابيّاً” بهدف تحفيزك – في المرجّح عندي – على الاستمرار في الحياة.
ومن جهة ثانية، يخدعُكَ هذا الذّهنُ أيضاً: من خلال إيهامك بوجود خطوط مستقيمة قادمة في حياتك (للسّبب نفسه، على الأرجح أيضاً). يعدُك مثلاً: بحياة مع سعادة مستمرّة، أو حياة مع رخاء مستمرّ، أو حياة بلا ألم إلخ.. (أو العكس “السّلبي” في بعض الأحيان، وهذا بحثٌ آخر). والخطوط المستقيمة لا وجود لها، في المبدأ، إلّا داخل عالم الذّهن والأفكار والتّصوّرات والمفاهيم.
(٢) بعض الجهات من النّخب التي يهمّها أن يُغرَّرَ بكَ في هذا المجال. ومنها: بعض الحكّام والمروّجين الأيديولوجيّين، الذين يهمّهم أن تصدّق اليوتوبيا (Utopie) الخاصّة بهم (بهدف تخديرك والتّحكّم بك على الأرجح). ومنها أيضاً: بعض الجهات التّجاريّة والتّسويقيّة والإعلاميّة، التي يهمّها أن تُصدّق هذا الوهم لتشتريَ بعض المنتوجات والخدمات والبرامج والحلقات وما إلى ذلك.
(٣) بعض المدارس الفكريّة (و”شبه” Pseudo الرّوحيّة) التي تعتبر – ربّما – أنّه من الأفضل لك أن تعيشَ في وهمٍ تخالُه جميلاً ولذيذاً، بدل أن تعيش في واقعٍ تخالُه قبيحاً وذا معاناة. ونحن هنا بالطّبع أمام طريقة تفكير خطيرة جدّاً: تُبعد الإنسان عن الحقيقة والواقع من جهة، كما وتجعله – من جهة ثانية – عرضةً للمفاجآت السّيّئة والموصِلة إلى اليأس والكفر بالحياة ككلّ في نهاية المطاف (وطبعاً إلى الانتحار في بعض الأحيان).
“لماذا الألم” VS “ماذا الألم”؟
لماذا هنالك ألمٌ في هذه الحياة، ولماذا الألم هذا مكتوبٌ علينا كما رأينا؟ نتحدّثُ بالطّبع عن كلّ أجناس وأنواع الألم التي يمكنك – ولا يمكنك – أن تتخيّلَها: آلام الجسد بما فيها آلام المشاعر (Emotions) وآلام النّفس ويمكن ضمّ المشاعر إليها أيضاً. لماذا “فُرضت” علينا الآلام – الجسديّة والنّفسيّة[1] – في هذه الحياة؟ حقّاً: لماذا؟
أمّا سؤال الـ – لماذا، فما هو بالمحبّذ ولا بالمستحبّ عند أهل المذاهب الآسيويّة في أقصى الشّرق بشكل عام، ولا عند شيخ الوجوديّين الغربيّين الأكبر مارتن هايدغر (ت. ١٩٧٦ م) وأتباعه مثلاً، كما سبق ورأينا في مقالاتٍ سالفة. فما هُوَ: هُوَ (عندَهم). أي الوجود هو الوجود، وبقاء السّرّ سرّاً: كافٍ في حدّ ذاته. بعبارة أخرى: علينا، حسب هذه النّظرة، تقبّل الأمور كما هيَ، فما كانَ كان، وما لم يكنْ لم يكن. علينا أن نخرج – قدر الإمكان أقلّه – من “الحُكم الذّهني[2]” Jugement mental على الوجود والموجودات، والخروج من الـ – “لماذا”، قاتلة الأسرار.
ولكيْ لا يغضبَ منّا إخواننا هؤلاء من الهندوس مثلاً، ومن الطّاويّين والبوذيّين ومن الوجوديّين أجمَعين، سوف نبدأ فيما يلي بمقاربة المسألة، لكن من باب هو أقرب إلى الـ – ماذا (Le quoi) من الـ – لماذا (Le pourquoi). وسنرى سويّاً كيف أنّ الـ – ماذا لطالما تُغني عن الـ – لماذا في باطن الأمور، منصفين بذلك – بعض الشّيء – أهلنا من المذاهب المذكورة أعلاه (ونحن نميلُ إلى نظرتهم في باطن الأمور ومضمونها طبعاً، لكن ليس في كلّ أبعاد الوجود، وهذا بحثٌ آخر أيضاً).
لماذا هنالك ألمٌ في هذه الحياة، ولماذا الألم هذا مكتوبٌ علينا كما رأينا؟ نتحدّثُ بالطّبع عن كلّ أجناس وأنواع الألم التي يمكنك – ولا يمكنك – أن تتخيّلَها: آلام الجسد بما فيها آلام المشاعر (Emotions) وآلام النّفس ويمكن ضمّ المشاعر إليها أيضاً. لماذا “فُرضت” علينا الآلام – الجسديّة والنّفسيّة – في هذه الحياة؟ حقّاً: لماذا؟
إنّ وجودَ (أو تواجدَ) الألم عندي لا يمكن فهمه بعمق، إلّا من خلال محاولة البدء ببحث الزّاوية الأنطولوجيّة كالمعتاد (والأنطولوجيا هو فرع الفلسفة المعني بالوجود وطبيعته، وبمباحث العدم طبعاً). فنحن، في العالم الظّاهر: أمام ظهورٍ للوجود من خلال موجودات كثيرة. الوجود يظهر علينا، إذن وفي هذا العالم، بمظاهر متكثّرة. الوجود في ظاهره البادي لنا: متكثّر. ولا داعيَ للولوج في إثبات ذلك: ظاهريّاً أقلّه، الوجود متكثّر. ووجود – أو تواجد – الكثرة يعني وجود الإثنينيّة، بل أتبنّى الاعتقاد بأنّه يقوم عليها. فأوّل الكثرة ظهور الإثنَين (٢) بعد الواحد (١).
وظهور الإثنَين، كما يبدو لنا من خلال مراقبة هذا العالم الظّاهر، يقوم – في جوهره وبرأينا – على ظهور الضدّ في مقابل الضدّ. فالواحد يظهر في مقابل الكثير، والأبيض في مقابل الأسود، والبعيد في مقابل القريب، والثّابت في مقابل المتغيّر، والعالي في مقابل المنخفض.. إلى آخر القائمة التي لا تنتهي على الأرجح.
وجميع الموجودات تَظهر ما بين الضّدّين المتطرّفين من كلّ زوج (وعدد الأزواج لا متناهٍ Infini طبعاً): كالألوان – على تنوّعها اللّا-متناه – ما بين الأبيض والأسود.. وما إلى ذلك.
المهم، ومع التّبسيط: لا يلزمك تفكّرٌ وتأمّلٌ عظيمَين حتّى تعيَ بأنّك في وجود يظهر عليك من خلال مظاهر متكثّرة. وبأنّ الكثرة الظّاهرة هذه تقومُ – في جوهرها – على الإثنينيّة الضّديّة. مع التّبسيط الشّديد لكن البليغ إن شئت: فَكأنّما ظهرت المظاهر – جميعها – من خلال أضدادها.
خذ مثلاً: الوحدة في مقابل الكثرة. هل يمكن إدراك وجود “الوحدة” إلّا من خلال مقابلته مع وجود “الكثرة”، والعكس؟ حتّى الكثرة ذاتها لا يُمكن تخيّلها إلّا من خلال المقابلة مع الوحدة (والعكس صحيح)! ولذلك قلنا إنّنا نعتقدُ بأنّ الكثرة – في جوهرها – تقوم على الإثنينيّة والضّديّة معاً. القضيّة إذن عميقة جدّاً. هذا على مستوى.. الوجود.
ولكن، لاحظ كيف أنّ مسألة الوجود تختلط تلقائيّاً – بل وبديهيّاً – مع مسألة الإدراك (وبالتّالي المعرفة – أو الأبستمولوجيا) في هذه القضيّة. فمن مسألة وجود الوحدة قفزنا – من حيث لا نشعر وتلقائيّاً – إلى مسألة إدراك الوحدة (في مقابل الكثرة). إذن، يمكن القول إنّنا أمام قضيّة قد تكون مرتبطةً بالذّات التي تريد أن تُدرك مظاهر الوجود، لا بالوجود نفسه ومظاهر الوجود نفسها. وكأنّ القضيّة هي معرفيّة في جوهرها لا وجوديّة.
ماذا يعني كلّ هذا الكلام شبه المشفّر والملغّز؟
أُطمئن القارئ العزيز إلى أنّ المصطلحات القريبة من الفلسفة لا تهدف إلى التّشفير، بل إلى الدّقّة في التّعبير.
والقضيّة سهلة جدّاً، ويمكن اختصارها – بعباراتنا – كما يلي (إن شاء الله تعالى): يبدو أنّنا عالقون – إلى الآن – في عالم يقوم على الأضداد. وبالتّالي، فلا يُمكن “لوجود” الخير فيه أن يكون إلّا من خلال “وجود” الشّرّ، والعكس صحيح. وكذلك بالنّسبة إلى النّور والظّلمة، والحسن والقَبيح، والبعيد والقريب إلخ.. وكذلك بالنّسبة إلى شعور اللّذّة من جهة / وشعور الألم من جهة أخرى. فكأنّما هنالك من أوجد الألم ليُوجد اللّذّة، والعكس صحيح! ومن هنا يمكننا الادّعاء بأنّنا أمام “الـ – ماذا” التي تجعل “الـ – لماذا” بديهيّة. فتفكّرْ وتأمّلْ معي!
ولكن، في الوقت عينه: الأمر مرتبطٌ على ما يبدو، في شقّه الثّاني أعلاه، بإدراك هذه الأضداد. ماذا لو أنّ ذهني – أو دماغي – هو الذي يُدرك الأضداد بالأضداد، في حين أنّ الحقيقة في مكانٍ آخر؟ أي: ماذا لو أنّ هذه الأضداد ليست موجودةً إلّا في ذهني، كأداة لإدراك الواقع؟ والدّليل على ذلك هو أنّ مقاربة “وجود الأضداد” تؤدّي بشكل شبه تلقائي – بل وبديهيّ ربّما – إلى مقاربة “إدراك الأضداد” كما رأينا. ماذا لو أنّ الأضداد غير موجودة في ذواتها أصلاً؟ ماذا لو أنّ القضيّة هي مجرّد قضيّة وعيٍ في جوهرها – لا قضيّة “وجود خارجي”؟ هذا ما نعتقده في باطن الأمور، دون إغفال أهمّيّة الأخذ بالأسباب في قضيّة معالجة بعض الآلام التي تدلّ على أذىً معيّن أو خللٍ معيّن في الجسم أو في النّفس، وهذا بحثٌ آخر.
الألم: حقيقةٌ أم وهمٌ.. أم أداةُ وجود؟
من هنا، يمكن القول إنّ تواجد (لا وجود) الألم هي مسألة متعلّقة بجوهر هذا العالم الظّاهر. فالألم وأخواته (من الأرزاء والأدران والأسقام والمصائب والشّرور والعياذ بالله): هدفه، على الأرجح، وكما يبدو لنا، أن يُعرّفك على (أو بـ -) شيء “آخر”، لا على (أو بـ -) “نفسه” بالضّرورة. مع التّبسيط المدروس: هدف “السّلبي” أن يُعرّفك على “الإيجابي”، والعكس صحيح. لذلك، فمن الخطأ الجسيم أن نتوهّم بإمكانية انعدام السّلبي لمصلحة الإيجابي في هذا العالم الظّاهر (أو العكس)، وبشكل مستمرّ ونهائي. ولذلك أيضاً، وكما رأينا، فعين الحكمة يكمن بلا شكّ: في التّرفّع عن الإثنين والضّدّين معاً.
هل قلت: هناك مَنْ يريد أن يُريَنا ضدّ الألم بالألم؟ مَنْ هُو هذا الـ – مَنْ؟ هل هو “الوجود الواعي” الذي يُسمّى عندَ البعضِ بـ”هُو” أو بـ”الله” عادةً؟ لكن كيف يقبل إلهٌ – ربٌّ يقال عنه بأنّه ذو خيرٍ مُطلق: كيف يقبلُ أن تُؤلَمَ وتُعذَّبَ وتُظلَمَ أنفسٌ بريئةٌ غيرُ مذنبةٍ كأنفس الأطفال مثلاً؟
على طريقة بعض الملاحدة والمتشكّكين المعاصرين، وهُم كُثر: كيف يمكن تبرير تواجد الألم – المعاناة من جهة، والشّرّ من جهة أخرى – في مقابل وجود إلهٍ مُطلق الخير والطّيبة والرّحمة (والمحبّة)؟ إنّه سؤال الثّيوديسيا (La Théodicée) الشّهير العظيم، والذي يجرّنا إليه – حتماً – هذا النّقاش حول تواجد الألم معنا في هذا الحياة. إنّه الانتقال البيّنُ من عالم “ماذا” إلى عالم “لماذا” في هذا المجال، وبشكل أوضح.. وللحديث تتمّة.
[1] نضع الآلام الرّوحيّة (أي تلك التي من النّوع المتجرّد، وخصوصاً تلك التي من النّوع المتعالي Transcendantes) جانباً في هذا السّياق، فعالَم الرّوح عندنا ليس سجينَ الأضداد بالضّرورة (راجع ما سيلي).
[2] على اختلاف أشكاله (الفكريّة والقيَميّة إلخ.).