أيّها الذّكاء الاصطناعي: نحنُ “إنسان”.. لا “مفهوم إنسان” (٣)

رأينا في ما سبق من هذا المقال، كيف أنّ التّبنّي المتطرّف لـCogito الفيلسوف الفرنسي الكبير رينيه ديكارت ("أنا أفكّر، إذن أنا موجود")، إلى جانب الإطار الفلسفي المرتبط بهذا التّبنّي المتطرّف عينِه، أدّى ويؤدّي في الأغلب: إلى نتائج سلبيّة عميقة التّأثير على الفرد ـ الإنسان وعلى مجتمعه في عالمنا المعاصر. وقد تساءلنا في ختام الجزء السّابق: إلى أيّ حدّ، وبعد مرور كلّ هذه القرون منذ بدايات عصر الأنوار الأوروبي، أصبح الـCogito ـ في الأعمّ الأغلب أيضاً ـ فلسفةَ المبالغة في التّفكّر (وما يعنيه ذلك من مبالغة في التّحليل Analyse والحُكم Jugement الذّهنيَّين، مع الاستعانة بالأفكار Idées وبالمفاهيم Concepts).

في هذا الجزء، وهو الثالث، سنحاول التّركيز على زاوية أخرى من نتائج الخطر العام نفسِه بنظرنا: وهي زاوية الوصول ـ الضّمني أو الظّاهر، اللّاـواعي أو الواعي ـ إلى اعتقادٍ بالخلط بين وجودنا كبشر وبين ماهيّتنا، أو بين حقيقتنا وبين مفهومنا (بمعنى Concept ـ أو “المفهوم المكوّن، بالذّهن، عنّا”). لا شكّ في أنّ موجة الـ Artificial Intelligence تساهم في الاعتقاد هذا، من خلال التّعامل معنا كبشر ـ أكثر فأكثر: على أنّه يمكن استبدالنا أو ترجمتنا (أو استنساخنا ربّما)، من خلال شيفرة رقميّة (Code) أو خوارزميّة (Algorithme) أو أيّ تركيب من التّركيبات الرّقميّة و/أو الافتراضية وما إلى ذلك.

الإشكاليّة لا تكمن فقط في استبدالنا تقنّياً، بل تتخطّاه إلى حدود الاعتقاد ـ الضّمني أو الظّاهر، اللّاـواعي أو الواعي ـ بأنّه يمكن استبدالنا معرفيّاً، بل ووجوديّاً أيضاً.. بماهيّة (أو مفهوم: رقمي أو غير رقمي)!

إنّها اشكاليّة متعلّقة بحريّتنا كأفراد أوّلاً وكمجتمعات ثانياً، ويمكن اختصارها بفلسفة أو ظاهرة الخلط بين وجودنا (Être ou Existence) وماهيّتنا (Essence)؛ أو يمكن القول إنّ ماهيّة الإنسان سابقةٌ على وجوده. وممّن تصدّى لهذه القضيّة الخطيرة، الفيلسوف الوجودي الفرنسي جان بول سارتر (ت. ١٩٨٠ م)، وذلك خلال مرحلة الحرب العالميّة الثّانية وما بعدها بشكل خاص.

وسنحاول في ما يلي التّوقّف عند هذه الاشكاليّة التي تعمّقها موجة الـAI برأينا وتضاعف تأثيرها بشكل كبير. ولكن علينا ألّا ننسى، برأيي أيضاً، العلاقة العميقة بين تجلّي هذه الظّاهرة ـ الاشكاليّة، وبين ما سبق ذكره عن سيطرة العقلَين التّفكّري والتّقني على عالمنا:

ردّ الشّاعر على ديكارت: “أحياناً أنا أفكّر.. وأحياناً أنا مَوجود!”

لقد كرّس ديكارت وأتباعه فرضيّة الـCogito (“أنا أفكّر إذن أنا موجود”) كحقيقة، حتّى غدت مسلّمةً عند كثيرٍ من المفكّرين والفلاسفة والعلماء (بالمعنى التّقني الحديث) لا سيّما في الثّقافات ذات الهيمنة الغربيّة. في وعينا وفي لاـوعينا، الفرديَّين والجماعيَّين، أصبح الوجود مرتبطاً بالتّفكّر (أو التّفكير إن شئت)! في فرنسا، هناك نخبةٌ كاملةٌ تعيش حاليّاً على التّفكّر وفي كلّ شيء (وقد تصل إلى كلّ شيء: ما عدا إلى الإجابة على الأسئلة الأهمّ في حياتنا وحياتها كما رأينا..). لم يقصد ديكارت ذلك على الأرجح: ولكنّه ـ في النّتيجة ـ قد ولّد أمَماً من المتفكّرين، والمتوهّمين بأنّ تفكيرهم يجعلهم عالِمين.. بل موجودين!

أتخيّل صاحب عبارة “كلّ تفكّر لا يعوّل عليه” ـ في ما يُنسب إليه طبعاً، أقصد الشّيخ الصّوفيّ الأكبر محيى الدّين بن عربي ـ وهو يقرأ ما سبق: لجنّ جنونه على الأرجح! عند الشّيخ محيى الدّين، كما عند العرفاء والسّالكين الصّوفيّين من جميع الأديان والمذاهب الرّوحيّة، التفكّر درجة دونيّة من الوعي، بل هي تشكّل حجاباً عظيماً بيننا وبين الحقائق والوقائع كما هيَ، أو: بما هِيَ هِيَ. بالتّأكيد، عند هؤلاء، أنّ التّفكّر درجة مهمّة من “الذّكاء”، ولكنّها ليست الأرقى ولا الأوسع ولا الأهمّ. الحقيقة هيَ هيَ: لا يلزمها أفكارٌ ومفاهيمٌ حولها، وإنّما يلزمها مجرّد.. المشاهدة بلا حُجُب أو ضباب.

لذلك، فقد جاء الرّدّ الأروع على لسانِ شاعرٍ.. والشّعراء هم من اختصاصيّي الدّرجات الإلهاميّة والحدسيّة والباطنيّة من العقل. جاء الرّدّ على واقع الاضطراب الذّهني السّائد في عالمنا (أو هوس الـCogitation) من خلال العبارة الرّائعة (والمبالَغ بها طبعاً) للشّاعر، الفرنسيّ أيضاً، بول فاليري (ت. ١٩٤٥ م):

أحياناً أنا أفكّر، وأحياناً أنا موجود!

!Parfois je pense, et parfois je suis 

من المهمّ برأيي أن نعيَ بأنّنا على الأرجح، وفي الحقب المعاصرة وذات الهيمنة الفكريّة الغربيّة: ضحيّة للـCogito. ولا يعني ذلك تحميل الفيلسوف العظيم، ديكارت، المسؤوليّة شخصيّاً كما رأينا: فهو لم يقصد ادخالنا أفواجاً وأفواجاً في هوس الـCogitation طبعاً. بل كانت نيّته تطوير الفكر الإنساني وخيراً فعل، برغم التأويلات المتشدّدة لفلسفته.

وليس صحيحاً، برأيي أيضاً، أنّ العقل المفكّر هو المرتبة الوحيدة و/أو الأعلى من العقل. وليس صحيحاً بأنّني “أفكّر إذن أنا موجود”، فالأصحّ ربّما هو أن أقول: “إنّني واعٍ ـ بالمعنى الأوسع[1] ـ إذن أنا موجود!” (Je suis conscient, donc j’existe). لا تحتاج دائماً إلى التّفكّر لكي تُدرك موجوداً من الموجودات[2]؛ بل يكفي، في أكثر الأحيان ربّما، أن.. تُدركه (أو تصبحَ واعياً به) ببساطة. ما يدلّني على وجودي ليس ـ فقط ـ أنّي أفكّر، بل القضيّة أوسع: ما يدلّني على وجودي هو أنّي واعٍ ـ وأنّي واعٍ بأنّي واعٍ.

في Cogito ديكارت: “أنا أفكّر” تدلّني على “أنّي موجود”. لكن، في عالم الـCogitation الرّاهن، والمنبثق إلى حدّ كبير من الـCogito: أصبح الكثيرون يعتبرون أنّهم ليسوا موجودين أصلاً بلا التّفكّر (أو التّفكير). الخطر الوجودي والمعرفي معاً: هو أن تصبح “أنا أفكّر” ليس فقط مدخلاً إلى “وجودي”.. بل “وجودي” نفسَهُ! الثّورات الرّقميّة والافتراضيّة الحاليّة تجرّنا ـ كما سبق ورأينا ـ إلى انحراف أنطولوجي (وجودي) وأبستيمولوجي (معرفي) خطير: إنّه اختزال الوجود والحقيقة بعالم الأفكار والمفاهيم. إنّه امتداد حُكم الماهيّة على الوجود، ولا بدّ لهُ ـ كما سبق وقدّمنا ـ من عودةٍ إلى فيلسوف الحيّ اللّاتيني الباريسي، صاحب كتاب الوجود والعدم:

 سارتر: كفى عبوديّة مموَّهة، “فوجودي” كإنسان سابقٌ على “ماهيّتي”!

مع الاستعانة بفيلسوف شارع سان جرمان، يمكننا القول بأنّ خلط البشر بين وجودهم وماهيّتهم هو أحد أهمّ وأخطر أشكال عبوديّتهم الباطنة والظّاهرة، الفرديّة والجماعيّة. اعتبر فلاسفة كُثُر، ومنذ قديم الزّمان، بأنّ ماهيّة جميع الموجودات سابقة على وجودها، ولكنّ سارتر تصدّى للموضوع من زاوية التّمييز بين الإنسان وغيره من الموجود (Les Etants). فميزة الإنسان، والتي تهبه حرّيّته أصلاً، هي بالذّات: أنّ وجوده سابقٌ على ماهيّته، أو ببساطة، أنّه كائنٌ بلا ماهيّة. الفرد الإنساني: هُوَ هُوَ. إنّه موجودٌ وكفى. لا يحدّه تعريفٌ مفاهيمي أو تصوّر مُثُلي (Idéél).

إقرأ على موقع 180  السلام الإماراتي الإسرائيلي: مكّة المُكرمة أُلحقت بالقدس المحتلة!

لستُ إنساناً لأنّ تعريفي المُثُلي أو المفاهيمي (أو ماهيّتي في أقرب تعبير إلى الوجوديّين) يقول بأنّي إنسان. وكذلك الأمر، لستُ إنساناً ـ أو أكثر “إنسانيّة” ـ لأنّي أتوافق مع الماهيّة الفلانيّة أو تلك الأخرى. عند سارتر وأصحابه وأتباعه، وباختصار: ماهيّة أو مفهوم الإنسان يأتيان بعد وجود الإنسان. بتعبير أكثر تبسيطاً: إنّك أنتَ، يا أيّها الإنسان، من تصنع تعريفَك أو ماهيّتك أو مفهومك[3].

تأمّل من حولك: كم منّا يعيش ويتصرّف على أنّه محدّد بماهيّة؟ مثلاً: بعضنا يتصرّف على أنّه ترجمة (أو مصداق) للمفهوم الفلاني حول الإنسان (كمفهوم الإنسان المؤمن، أو اللّيبرالي، أو الشّيوعي، أو العلماني إلخ.). ولكنّ الحقيقة أنّ كلّ واحدٍ منّا ليس أحداً من هذه المفاهيم: بتعبير قريب إلى ماكس فيبر، “النّموذج المثالي[4]” للفرد ـ الإنسان ليس هو أيّ فرد ـ إنسان. إنّه مجرّد: نموذج Type / مثالي Idéél. لا تستهن بالقضيّة أبداً، فإنّه فخٌ يقع فيه كثير من عظام الفلاسفة والمفكّرين: الخلط ما بين التّصوّر الذّهني، وبين الوجود أو الواقع.

مثالٌ آخر: كم منّا يتصرّف على أنّه ماهيّة تحدّدها مهنته أو عائلته أو وضعه الاجتماعي؟ فكم حولنا من نساء ورجال يتصرّفون على أنّهم: ماهيّة طبيب، أو ماهيّة مهندس، أو ماهيّة مفكّر، أو ماهيّة رجل سياسي، أو ماهيّة برجوازي أو ماهيّة بروليتاري (إلخ.)؟ موقف سارتر من هذه الفلسفة ـ الظّاهرة المنتشرة رائع العمق والجمال في آنٍ معاً: فهؤلاء، جميعاً، واهمون أو متوهّمون بالنّسبة إليه. فمنهم من هو يُمثّل وهو واعٍ بأنّه يمثّل: إنّهم الأوغاد ـ إن شئت ـ بالتّعبير السّارتري. ومنهم من هو واهم ببساطة، دون أن يكون واعياً بوهمه: إنّهم الغافلون (أو المغفّلون إن شئت، مع الاعتذار للتّعابير السّارتريّة القاسية).

أيّها الإنسان: إنَّكَ إنَّك، وكفى! أنتَ أنتَ، وكفى! لستَ ماهيّةً مُعرّفةً مُسبقاً، ولا مفهوماً مُسبقاً. وإن لم تعِ ذلك بوضوح، فإنّك عبدٌ لماهيّةٍ ما (قد وضعها أحدهم، على الأرجح، ليتحكّم بك). وبالتّالي: إن لم تعِ أنّك لستَ هذه الماهيّة فلا يمكنك أن تدّعي أنّ “إنسانيّتك” مكتملة (إن صحّ التّعبير) ـ عداك عن اكتمال “حرّيّتك”.

مع التّبسيط: إنّ فلسفة جان بول سارتر (ت. ١٩٨٠ م) تبدو لي وكأنّها نشيدٌ من أناشيد الحرّيّة التي حاول بعض مفكّري القرن العشرين الأوروبي ـ بشكل خاص ـ إطلاقها في وجه طغيان الرّأسماليّة، لا سيّما بعد الحرب العالميّة الثّانية. تأمّل في الفكرة المركزيّة جيّداً، وتخيّل للحظة أنّك تعيشها بشكل كامل: أنا كائن حيٌّ واعٍ.. ولا ماهيّة ثابتة لي! أنا أنا، وبكل بساطة! من السّهل تخيّل تأثير السّارتريّة على اليسار الغربي، وعلى المجتمعات الأوروبيّة ككلّ، وهذا بحث آخر. ولكنّ الأهمّ بالنّسبة إلينا هو استذكار سارتر في وجه عودة “وهم حُكم الماهيّة” من خلال الثّورات الرّقميّة والافتراضيّة.. وطبعاً، من خلال ثورة الذّكاء الاصطناعي الموعودة.

الخلاصة مع سارتر: نحن “إنسان”.. لا “Concept إنسان”

الإنسان تجلٍّ (Manifestation) للوجود، وبالتّالي هو مرتبطٌ ـ بسبب وعيه أيضاً ـ بسرّ هذا الوجود. ومن قدره[5] أن يكون حرّاً و”غَير مُحدّد” (أي غير محدّد بماهيّة مسبقة، أو بمفهوم أو بتصوّر وما إلى ذلك). ولذلك، فمحاولة حدّه أو تحديده مسألةٌ متعلّقة باحتمال استعباده. لا شكّ، برأيي، في أنّ موجة الذّكاء الاصطناعي الموعودة في عالمنا الحالي: تتضمّن اتّجاهاً واضحاً صوب تكريس حُكم “الماهيّة” و”المفهوم” ـ على حساب “الوجود”. كما رأينا، هناك من يعتقد أنّه يمكن “استبدال” أو “ترجمة” أو “استنساخ” الإنسان من خلال ما يُمكن تسميته “بالماهيّات الرّقميّة أو الافتراضيّة أو الاصطناعيّة (إلخ)” (من قبيل الشّيفرات الرّقميّة والخوارزميّات والكيانات الاصطناعيّة وما إلى ذلك).

من هنا، وفي وجه هذا التّهديد المُشرف على هويّتنا كبشر، وعلى حرّيتنا كبشر، وعلى وعينا ـ أيضاً كبشر ـ بارتباطنا المباشر بسرّ الوجود، لا بدّ لنا ـ برأيي ـ من الصّراخ عالياً:

 أيّها “الذّكاء الاصطناعي”، نحن (وجود) إنسان.. لا (ماهيّة) إنسان!

[1] مع التّذكير بأهميّة الجانب الضّمني لهذه العبارة، كما عند ديكارت: “أنّي واعٍ، أيضاً، بأنّي واعٍ”.

[2] أو حتّى حقيقةً من الحقائق.

[3] نستخدمها جميعاً في نفس السّياق هنا، للتّبسيط.

[4] تذكّر أنّ النّموذج المثالي هو، في جوهره، “المفهوم” بالمعنى الكانطي.

[5] أي من “ماهيّته”؟ لاحظ المعضلة القصوى، حتّى أمام أعظم الفلاسفة: أصالة الوجود أم أصالة الماهيّة؟ يبدو لي أنّها قضيّة لا مخرج منها إلّا على يد العرفاء المكاشَفين، وهذا بحثٌ آخر.

راجع الجزء الأول: موجة الذّكاء الاصطناعي.. حجابٌ إضافيٌّ بيننا وبين الحقيقة؟ (١)
راجع الجزء الثاني: الذّكاء الاصطناعي.. موجة جديدة من “الاضطراب الذّهني”؟ (٢)

Print Friendly, PDF & Email
مالك أبو حمدان

خبير ومدير مالي، باحث في الدراسات الإسلامية، لبنان

Download Premium WordPress Themes Free
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
online free course
إقرأ على موقع 180  غزّة مُجدّداً.. مُفاجآت حماس وتبدُل قواعد الإشتباك والردع