كان خطاب 2006، برغم عناوينه السياسية والأمنية والعسكرية المهمة، إحتفالياً بالصمود الأسطوري للبنان والمقاومة، في وجه أعتى حرب يخوضها العدو خلال تاريخه ضد بلد عربي بشكل منفرد، إلا أن خطاب الجمعة 3 تشرين الثاني/نوفمبر، يلقي على صاحبه أعباء ومسؤوليات كبيرة جداً، ويُمثل أيضاً فرصة للمساهمة في الدفع المتراكم باتجاه تغيير معادلات المنطقة.
لكن المعادلة قد تغيّرت بالفعل في 7 تشرين الأول/أكتوبر، بانكسار لا رجعة فيه، لهيبة إسرائيل وتوازن بقائها. ومع ذلك، فإن “السيد” يُدرك، كما يُدرك كثيرون أن قرارات الحروب لا تتخذ على مواقع التواصل الإجتماعي، وإنما يمكن أن تكون مساعدة ورافدة خصوصاً في التأثير على الرأي العام المحلي والعربي والعالمي.
كما يُدرك “السيد”، مثلما هو ماثل أمام ملايين الناس، أن هناك “حرباً حقيقية” جارية بالفعل على أرض الجنوب اللبناني، على طول جبهة ممتدة من الناقورة غرباً بمسافة 100 كيلومتر نحو مزارع شبعا بمحاذاة هضبة الجولان السورية المحتلة شرقاً، وأن أكثر من 100 هجوم نُفذ على مواقع شديدة التحصين والتسليح، بالإضافة إلى المستوطنات التي أُجبر ما يزيد على 70 ألفاً من مستعمريها على الهروب من الشمال نحو الداخل، ما يضرب في الصميم فكرة “الكيان الآمن”.
هناك نحو 50 شهيداً لبنانياً سقطوا في عمليات المقاومة عند مشارف فلسطين المحتلة، ولم يعد حزب الله وحيدا هناك، فإلى جانبه، “كتائب القسام” و”سرايا القدس” و”قوات الفجر” وغيرهم.
هذه بديهيات يجب أن تُؤخذ في الإعتبار عند النظر إلى الجبهات القائمة حالياً مع العدو، وأن ارتباطها ليس كلاماً مجازياً، ذلك أن العدو مجبر على توزيع قواته وقدراته في كل حدب وصوب. فمثلاً، أجبرت “الجبهة اللبنانية” إسرائيل على نشر نصف الفيلق الشمالي للجيش في مزارع شبعا وثلاث فرق عسكرية أخرى في الشمال، بينما اضطر إلى تشغيل ثلث منظومة “القبة الحديدة” المضادة للصواريخ في هذه الجبهة، بالإضافة إلى إجباره على تعزيز حماية المستوطنات بثلاثة مستويات على عمق من 5 إلى 7 كيلومترات وإخلاء المستوطنات الشمالية بشكل شبه كامل.
وبهذا المعنى، فإن كلام “السيد”، غداً (الجمعة) لا يعني بالضرورة “إعلاناً للحرب” بالمصطلح الحرفي، لأن الحرب جارية بالفعل، لكن الأكثر أهمية، هو رصد ما قد يطرحه “السيد” من خارطة طريق لتطورات المعركة الآخذة بالتشكل وصولاً إلى مستقبل الصراع مع العدو، بناء على تطورات الحرب المستمرة منذ 27 يوماً (والحركة السياسية الجارية إقليمياً ودولياً).
وحتماً ستكون طلة “السيد” مناسبة لتكريم كل شهداء المقاومة الإسلامية في لبنان، في “يوم الشهيد” (نسبة إلى الإستشهادي أحمد قصير) الذي تحتفل به المقاومة سنوياً منذ أربعين عاماً، ودرجت العادة أن يُطل الأمين العام للحزب في هذه المناسبة لكي يُقدّم ما يشبه “جردة الحساب” أمام الشهداء وذويهم.
يُدرك “السيد” أن المتحمسين لشعار وحدة الساحات، يُفترض بهم أولاً إظهار انتمائهم وحماستهم وغضبهم في المواقع والساحات التي ينتمون إليها، ولو حتى بتظاهرة تضامن أو إغلاق سفارة أو وقف مسار التطبيع، عوضاً عن الإكتفاء بضجيج “السوشيال ميديا” والمزايدات وإثارة الإنقسامات
وغالب الظن، أن “السيد” كان يبتسم وهو يتلقى أولاً بأول تفاصيل التصدي البطولي للمقاومين في غزة للمحاولات الأولى للعدو للتوغل البري عبر أكثر من محور في القطاع الفلسطيني المحاصر، واضطرار العدو إلى الإعتراف ولو بشكل مجتزأ، عن حصيلة خسائره المتزايدة ساعة بساعة.
كما أن “السيد” غالباً ما سيقول إن الضربة التي تلقاها العدو في 7 تشرين الأول/أكتوبر، ليست قابلة للترميم، مهما تمادى المحتل بجرائمه ضد أهل هذه الارض. سيقول “السيد” إن “نظرية الضاحية” التي تباهى بها العدو لسنوات منذ ما بعد “حرب 2006″ بأنها الرادع لكل من تُسوّل له نفسه المساس بالكيان مستقبلاً، تتداعى الآن على رؤوس قادة الجيش والاستخبارات في الكيان. لقد تمكنت غزة من إشهار سيف التحدي لـ”نظرية الضاحية” وجعلت العدو يرمي كل خططه جانباً ويستنجد بالأميركيين الذين يديرون المعركة مباشرة من تل أبيب..
وغزة ليست وحدها مثلما تُروّج أصوات الشرذمة وتثبيط الهمم. فأن تفرغ كامل طاقة العدو على جبهة غزة ليس ممكناً مثلما هو واضح، فهو مضطر، إلى جانب التطويق العسكري الذي لا سابق له لقطاع غزة، إلى تشتيت قوته ما بين الضفة الغربية وما بين التحسب للاحتمالات على طول “الحدود” الشرقية مع الأردن، والعراق من خلفه، ونشر تعزيزات باتجاه إيلات في الجنوب حيث بدأت تُهدّدها صليات من الصواريخ والطائرات المُسيّرة من جانب “أنصار الله” في اليمن.
قد يقول “السيد” – وإن كان لا يحتاج إلى براهين جديدة – إن تحريك الأساطيل الأميركية دعماً لإسرائيل، أصبح أكثر وضوحاً الآن، ومفضوحاً بشكل لم يسبق له مثيل أمام شعوب المنطقة والعالم. وقد يقول أيضاً، إن الصبر والدهاء وتشتيت جهود العدو، تعطي أكلها، وأن قرارات التدرج بالإنخراط على مراحل في المعركة المتعددة الجوانب، إنما تتخذ في أوقاتها المناسبة.. وبناء على سيناريوهات موضوعة.
إن أصعب ما في خطاب 3 تشرين الثاني/نوفمبر، أنه معني بـ”عقلنة” الغضب العربي الكامن، وإنما من دون إظهار الهدوء الذي قد يُوحي للعدو بأنه مطلق اليدين في القتل والترهيب وفتح الجبهات يمنة وشمالاً. وأن مثل هذا التعامل المتوازن والقاسي بهدوئه يتطلب “الأستذة” التي يتقنها “السيد” في مخاطبة العدو.. وكل من يهمه الأمر.
الدماء غزيرة في غزة، وهناك زعيم فرنسي من البلاهة لينادي بقيام “تحالف دولي” مشابه لذلك الذي أقيم بوجه تنظيم “داعش” في العراق، وهو موقف يتبنى تماماً سردية شيطنة المقاومة، لكنّه يُعزّز في الوقت نفسه، غضب الشباب العربي عموماً.
وبرغم مشاعر الفخر بـ7 تشرين الأول/أكتوبر، فإن الحزنَ عميقٌ في الشارع العربي إزاء ما يرى من فصول مذبحة غزة، لكنه ليس كافياً ليتحول إلى فعل مقاوم، كما أن اتهامات التخوين والتخاذل ليس وقتها الآن، ذلك أنه بمقدور سخط الشباب إزاء دمنا المسفوك، أن يتحول إلى صحوة حقيقية ونبيلة، تكون بمثابة “ربيع مقاوم” قد تطال أول ما تطال “الحاضنة العربية” لإسرائيل من أنظمة ووسائل إعلام وسياسيين وناشطين، وذلك شريطة أن تنجح أولاً في تخطي امتحان التعالي على “النعرة المذهبية” المُروّج لها منذ سنوات إمعاناً في تشتيت الأمة.
يُدرك “السيد” بكل تأكيد ذلك، كما يُدرك أيضاً أن المتحمسين لشعار وحدة الساحات، يُفترض بهم أولاً إظهار انتمائهم وحماستهم وغضبهم في المواقع والساحات التي ينتمون إليها، ولو حتى بتظاهرة تضامن أو إغلاق سفارة أو وقف مسار التطبيع، عوضاً عن الإكتفاء بضجيج “السوشيال ميديا” والمزايدات وإثارة الإنقسامات، سواء بالتشكيك بالفعل المقاوم لغزة الوحيدة المحاصرة بالموت والدمار منذ أكثر من 17 سنة، أو من خلال مساءلة حزب مقاوم في لبنان، يُمثل واحدة من أصغر طوائف عالم الملياري مسلم، ليخوض وحيداً معركة فاصلة مع العدو وكل الغرب من خلفه.
إن اشكال المقاومة والرفض عديدة وكل من مكانه وموقعه. وليس مهما الآن أن كثيرين من أصحاب الرؤوس الحامية، سيجلسون عصر الجمعة رافعين الآمال عالياً، لعلهم يستمعون إلى عبارة على شاكلة “أنظروا إليها تحترق” (التي اطلقها “السيد” في 14 تموز/يوليو 2006). وربما لهذا، ولأسباب عديدة، لعل أحد أهداف خطاب 3 تشرين الثاني/نوفمبر، احتضان الغضب الآتي من أي أرض، والأهم مأسسته، من خلال تشكيلات مثل “سرايا المقاومة” أو غيرها على امتداد ساحات المقاومة، هنا وهناك.
هذه دعوة إلى الهدوء داخلياً، والإنصات لخطاب الجمعة الذي سيفرض على عواصم العالم، الجلوس للاستماع إليه بهدوء.
الأكيد أن “السيد” وحده يعرف ما يجب قوله أو عدم قوله.. وحتماً ستكون النتيجة لمصلحة أهل غزة وكل فلسطين.. والمزيد من تطمين اللبنانيين.