في غزة.. تنسدل ستارة الأوجاع والأكفان

عندما انسدلت الستارة كان المشهد ما يزال مشتعلاً. كأنها انسدلت على لقاء لم ينعقد. على حبر لم يُكتب. وعلى صورة غشّاها ضباب الطوفان، وعلى مسامع حقد زارعي الموت. حقد ينشر الموت. ينثره بحكايات لا تتسع لها صفحات الإجرام.

نعم، خلف الستارة إندلق الكلام قبل أن تنسدل. وخلف الستارة إندلق اللاكلام. تناثر في عبق الضباب الأسود الآتي من موجات التدمير والدمار الواقع على غزة. كلام تغطّى بروائح الموت فانزكمت أنوف المشاركين فكمّموها على مساحة الوجوه والثغور. كلام وكلمات حملت رائحة اللامعنى وكأنها الموت. كلمات لم تُنقذ طفلاً من براثن حقد الحاقدين. لم ترفع الحيْف عن الظلم المتمادي في سماء غزة الأبيّة. غزة العصيّة على إقفال الزمن بدورته الدموية.

نعم، انسدلت الستارة على الكلام الطارئ. في مشافي غزة استفحل الموت. ارتفعت غزة. ارتقى الشهداء. انخذلت قرارات الدول والقمم والأمم. تخاذلت مواثيق حقوق الإنسان والطفل والمرأة، فبانت أكاذيب بنودها وصلف نواياها. غابت الصورة، صورتهم خلف الستارة قبل أن تنسدل. وتناقلت الوكالات خبر وفاة الخبر، واستبدلته بانسدال الستارة.

بَهُتَ المعنى في القول ومفرداته من قواميس اللغة، وجميع اللغات التي احتشدت خلف الستارة. ستارة كانت تصلح لأن تكون مجرد أكفان، لكن لا مياه في غزة لتطهيرها من بصمات الصمت والإمعان في تشجيع المباراة بين قاتل ورضيع، بين مخازن سلاح العالم “المتمدن” وأقلام التلوين والدفاتر في حقائب أطفال غزة المدرسية.

في غزة تتدفّق الدموع والدماء. يستوطن الوجع. تغادر المقابر مهمتها. لم تفتح حفرة. لم تأو إسماً. لم تُسأل التوابيت عن إجازتها المفاجئة. تمزّقت أثواب الأكفان في الطريق إلى منتظريها. تغيّرت ألوان الأكفان. الأبيض صار مخضب الإحمرار. أضاعت الأكفان العنوان. فالأطفال نيام ينتظرون ثياب العيد.

وفي غزة، تحوّلت المدرسة إلى مستشفى، والمستشفى إلى مقبرة، والمقبرة إلى ولاّدة حياة وفعل حياة.. حياة تحيي معنى المعنى، بأبسط أدوات الصلاة، ووضوء الفجر ووعد الحرية..

في غزة أحياءٌ في أحياء. وأموات أحياء. وطوفان من عيون تتعالى على الجراح، وقلوب تتقوّى بإيمان الشهادة، وصنوف من اللوم.

مشهدان وصورتان وخشبات مسارح، وغرف عمليات متعددة الأدوار والمهام والأهداف. غرفة عمليات تُخطط لتدمير غرفة عمليات الأطفال الخُدّج في غزة خوفاً من عشقهم للحياة إن كبروا. وغرفة عمليات تُخطّط للعيش خلف الستارة مخافة انكشاف عيوبها، وغرفة عمليات تُخطّط للتخلص من غزة الممتدة من بحر فلسطين إلى نهرها. هذا الكابوس المزمن الذي يقض مضاجع العدو وذوي القربى معاً.

أما غرفة عمليات الطوفان، فالأقصى من أهدافها أن تُحقق قيامة مجيدة بميلاد وطن حر متحرر من صهاينة اعتنقوا القتل وتدنيس الأرض واقتلاع أهلها، وارتكاب المجازر وتزوير التاريخ والتراث والهوية.. طوفان أقصى أهدافه انبعاث حياة لها الشمس والبحر وزرقة السماء وتبدلات الفصول ومرور الغيوم لا طائرات الموت وصواريخها. أحلام بقرطاسية مدرسة وضحكات أطفال وأفراح ومناسبات الجنائز اللائقة بالموتى وأصول دفنهم وكتابة أسمائهم على شواهد القبور، وقطف الزيتون في مواسمه، وتبادل الهدايا في الأعياد.. ورفع راية فلسطين. كل فلسطين.

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  زلزال سوريا لا يُداوى بـ"النِفاق".. الأمريكي!
منى سكرية

كاتبة وصحافية لبنانية

Download Best WordPress Themes Free Download
Download Nulled WordPress Themes
Premium WordPress Themes Download
Download Premium WordPress Themes Free
udemy paid course free download
إقرأ على موقع 180  الفيروس يتنكّر.. هل سيتعرّف إليه اللقاح؟