يقترب العدوان “الإسرائيلي” على قطاع غزة والضفة الغربية ولبنان من دخول أسبوعه السابع، وبات التوغل “الإسرائيلي” البري في قطاع غزة عند مشارف أسبوعه الرابع، ولا نتائج ميدانية مهمة للجيش “الإسرائيلي”، لا على جبهة لبنان ولا على جبهة غزة، سوى قتل المدنيين الأبرياء وتدمير الأبنية والمستشفيات والمدارس والبنى التحتية في غزة.
بطبيعة الحال، ما من عاقل يُحب الحرب، ولا أحد يريدها، وبالتأكيد فإن المقاومة في لبنان لا تريد الحرب. هي في الأساس ردة فعل على فعل الإحتلال، وهذه المقولة لا تنطبق فقط على لبنان وفلسطين بل على أي منطقة في العالم.
ومنذ نشوء الكيان الصهيوني عام 1948 على أرض فلسطين وحتى العام 1978، تعرّض لبنان لاعتداءات وغارات ومجازر صهيونية لا تعد ولا تحصى، وحتى ذلك التاريخ كان المنطق الرسمي اللبناني السائد في مواجهة البربرية الصهيونية هو شعار “قوة لبنان في ضعفه”، أي أن العدو “الإسرائيلي” يعتدي ولبنان يشتكي إلى الأمم المتحدة، وهناك تتولى الإدارة الأميركية تأمين الغطاء الدبلوماسي للعدوان “الإسرائيلي” عبر ممارستها حق النقض (الفيتو) في مجلس الأمن منعاً حتى لمجرد إدانة العدوان.
ومع مرور الزمن، تحوّل الكيان الصهيوني بجيشه وأجهزة مخابراته إلى “أزعر الشرق الأوسط” عند سيّده الأميركي، وتحت الحماية الدبلوماسية الأميركية، وبتمويل عسكري واقتصادي أميركي، أخذ هذا الكيان يُمعن في اعتداءاته في المنطقة؛ يقتل في بيروت ويغتال في دمشق وتونس ويُدمّر في السودان واليمن ويُغير على العراق.. ولا يصدر عن مجلس الأمن أي موقف يُدين العدوان.
هذا التراكم رسّخ في وعي أبناء فلسطين ولبنان تحديداً أن الحل الوحيد لمواجهة البلطجة “الإسرائيلية” الأميركية هو خيار المقاومة المسلحة، فنشأت المقاومة الفلسطينية المسلحة في العام 1965 بفصائلها المتعددة، ونشأت في لبنان حركات مقاومة متواضعة أطلقها الحزب الشيوعي اللبناني عام 1969 تحت اسم “قوات الأنصار” ثم “الحرس الشعبي” (مطلع السبعينيات) وصولاً إلى “جبهة المقاومة الوطنية اللبنانية” عام 1982.
سرعان ما توسعت هذه المقاومة لتضم أحزاباً يسارية وعروبية وإسلامية، قبل أن تنعقد الراية بدءاً من نهاية الثمانينيات الماضية للمقاومة الاسلامية بقيادة حزب الله.. وصولاً إلى التحرير في العام 2000، على وقع ضربات المقاومة، لولا أن مزارع شبعا وتلال كفرشوبا وشمال بلدة الغجر وبعض عقارات بلدة الماري ما تزال حتى يومنا هذا أسيرة الإحتلال.
في فلسطين، نحا قائد المقاومة الفلسطينية ياسر عرفات بعد هزيمة العام 1982 في بيروت نحو المنحى الدبلوماسي التسووي مع العدو إلى أن وصل الأمر إلى خوض مفاوضات سرية استمرت أكثر من عامين وأسفرت عام 1993 عن اتفاق أوسلو الذي وقّعه عرفات مع رئيس وزراء العدو اسحق رابين (كان حينها أيضاً رئيساً لحزب العمل الإسرائيلي، اليساري الهوية) برعاية الرئيس الأميركي بيل كلينتون. هذا الاتفاق أعطى الكيان “الإسرائيلي” اعترافاً فلسطينياً بمشروعيته على كل أراضي فلسطين التي احتلت عام 1948 وثلث مساحة الضفة الغربية التي احتلت عام 1967 ولم يحسم مصير العاصمة الفلسطينية القدس الشريف بل تركه لمفاوضات لاحقة.. كل ذلك، مقابل تخلي منظمة التحرير الفلسطينية عن الكفاح المسلح وشطبه من دستورها.
السيد نصرالله في خطابيه، إنما كان يُوجّه كلامه للأميركي وليس لـ”البلطجي الإسرائيلي”، وبالتالي، انخرط لبنان في حرب غزة منذ يومها الأول، ولم يجرؤ العدو على ترجمة تهديداته، وعلى الأرجح لن يجرؤ على ذلك، أما إذا ارتكب خطأ قاتلاً، فإن وجود هذا الكيان سيكون على المحك
لم توافق فصائل فلسطينية عدة داخل منظمة التحرير على هذا الاتفاق (مثل الجبهتين الشعبية والديموقراطية والصاعقة وجبهة النضال والجبهة الشعبية ـ القيادة العامة) كما لم توافق عليه فصائل فلسطينية نشأت في الثمانينيات مثل حركتي حماس والجهاد الاسلامي. كما لم يوافق على الاتفاق قوى اليمين “الإسرائيلي”، فأسقطته بالضربة القاضية عبر اغتيال رابين ولاحقاً عرفات بعد أن كانوا أسقطوه بسياسات توسيع المستوطنات في الضفة الغربية إلى مناطق يفترض أن تكون تحت سيادة السلطة الفلسطينية.
وبموجب هذا الإتفاق، إنسحب المحتل “الإسرائيلي” من قطاع غزة، وذلك ليس حباً بالفلسطينيين بل هرباً من عبء إدارة أحد أبرز معاقل المقاومة الفلسطينية، ناهيك عن كونها منطقة جغرافية تعتبر الأكثر اكتظاظاً سكانياً في العالم، إذ يعيشُ فيها أكثر من مليوني إنسان على مساحة لا تزيد عن 360 كيلومتراً مربعاً. وأبقى الإحتلال على سلسلة من المستوطنات تحيط بالقطاع، شمالاً وشرقاً وجنوباً، فيما تولت بوارجه البحرية محاصرة القطاع بحراً. وبات سكان القطاع تحت رحمة المحتل في كل شيء، فلا ماء ولا كهرباء ولا وقود ولا دواء إلا بإذن من سلطات الإحتلال، فيما تولت السلطات المصرية اكمال الحصار على القطاع عبر المنفذ الوحيد له مع أراضيها. وهكذا، بات قطاع غزة أكبر سجن في العالم، نزلاؤه هم كل سكان القطاع، أطفالاً ونساءً وشيوخاً.
أما الضفة الغربية، فباتت المساحة الفلسطينية فيها تتآكل لمصلحة سياسة الاستيطان، تُضاف إليها حملات الإعتقال التعسفي للفلسطينيين وزج الآلاف منهم في السجون.. وكل ذلك تحت سمع وبصر المجتمع الدولي، وهذا الأمر يطرح سؤال الخيارات التي تُركت للفلسطينيين أبناء الضفة والقطاع؟
لا يحتاج المرء إلى كثير تفكير للإجابة على هذا السؤال: إما الرحيل عن الأرض أو المقاومة؟ وبالفعل، كان خيارهم مثل خيار أي شعب إحتُلت أرضه: سلوك درب المقاومة، في مواجهة الطبيعة العدوانية للكيان من جهة والحضانة الأميركية والغربية غير المحدودة له من جهة أخرى.
وها هي مجريات ستة أسابيع من العدوان على غزة، تعطينا الدليل الفاقع على أن شراسة الأميركيين تتفوق على شراسة الإسرائيليين، فمن يُدير غرفة العمليات العسكرية في تل أبيب هو الجيش الأميركي، وهذا الأمر يُذكرنا بحرب تموز/يوليو 2006، عندما كان إيهود أولمرت يريد للحرب أن تتوقف بسبب اخفاقات جيشه، لولا أن الإدارة الأميركية ظلت تضغط عليه للمضي في الحرب، قبل أن تستسلم هي الأخرى، غداة مجزرة “الميركافا” في وادي الحجير وسهل الخيام وسقوط المروحية الإسرائيلية (ناقلة الجنود) في خراج بلدة ياطر الجنوبية.
ولا يحتاج المرء الى كثير تفكير ليعرف أنه إذا قُدّرَ لهذا العدو أن يقضي على المقاومة في فلسطين، وحتماً وبكل تأكيد لن يقدر على ذلك، فإن حملته التالية ستكون ضد لبنان بذريعة “سحق المقاومة”. لذلك، فإن مَن يدعو اليوم إلى إبعاد لبنان عن الحرب، تماماً كمن يقف في مواجهة ثور هائج ويقول إن الثور لن ينطحني لأني نباتي. أما الأداء الذي تُقدّمه المقاومة، اليوم، في الجنوب، فقد أثبت أن العدو مردوعٌ بالكامل، وأنه يحسب ألف حساب قبل أن يُوجّه أي ضربة إلى الجانب اللبناني وإلا ماذا يمنع العدو “الإسرائيلي” من اطلاق غاراته على مناطق لبنانية خارج منطقة الجنوب مثلاً؟ وما الذي يمنعه من تنفيذ اجتياح بري منذ اللحظة الأولى التي انطلقت فيها صواريخ المقاومة نحو شمال فلسطين المحتلة؟
إن ما يمنع “إسرائيل” من فعل ذلك والاستعاضة عنه بحملة تهويل على اللبنانيين، هو توازن الردع القائم منذ العام 2006، وما أعقبه من تراكم أرسى قواعد إشتباك، كان “الإسرائيلي” يحسب ألف حساب لها، وبالتالي، وجدت “إسرائيل” نفسها اليوم أضعف من “إسرائيل” عام 2006 والمقاومة اليوم هي أقوى بما لا يُقاس بالمقاومة عام 2006.
إن قادة العدو يعرفون جيداً أن إخراج مطار بيروت من الخدمة سيعني إخراج مطار بن غوريون ومعظم المطارات الحربية “الإسرائيلية” ان لم يكن كلها من الخدمة، وضرب مرفأ بيروت على الرغم من وضعه المأساوي سيعني إخراج ليس فقط ميناء حيفا من الخدمة بل أيضاً ميناء إيلات الذي يُشكّل اليوم الشريان الاقتصادي شبه الوحيد للعدو.. وأن قصف مبانٍ سكنية في أي مكان من لبنان سيعني قصف مبان سكنية في أي مكان من الكيان الصهيوني، ناهيك عن منصات استخراج الغاز في البحر الفلسطيني (كاريش وغيرها). أما عن التفوق الجوي “الإسرائيلي”، فلا شك أن المقاومة بعد تجربتها في العام 2006 قد أعدت العدة لمواجهة نقطة التفوق هذه وقد تسرب للإعلام منذ بضعة أيام أن شركة “فاغنر” العسكرية الروسية قد باعت للمقاومة في لبنان صواريخ أرض – جو حديثة؛ قد يكون الأمر مجرد إشاعة وقد يكون صحيحاً، ولكن في كل الأحوال ما هو متوقع أن تكون المقاومة قادرة على مفاجأة العدو فقط عندما تقع الواقعة. لذلك، كلُ تهويلٍ على اللبنانيين بالدمار، هو تهويل في غير مكانه، فالعدو سيقيس كل عدوان بـ”ميزان الجوهرجي” قبل الإقدام عليه.
وما يسري على “الإسرائيلي” ينطبق على الأميركي الذي جاهر بأن وظيفة إرسال بوارجه وأساطيله وغواصاته إلى المنطقة هي وظيفة ردعية لكل من يتجرأ على استهداف “إسرائيل” ولا سيما حزب الله. وناهيك عن 55 استهدافاً موثقاً بالصواريخ والمُسيّرات ضد أهداف أميركية في كل من العراق وسوريا، فإن هزالة الحضور الأميركي في المنطقة تتبدى من حيث كان القادة الأميركيون ينتظرون بفارغ الصبر الخطاب الأول للأمين العام لحزب الله السيد حسن نصرالله الذي لم يتوان عن تهديدهم بصورة واضحة وبلا تردد وبكل ثقة.
أكثر من ذلك، فإن السيد نصرالله في خطابيه، إنما كان يُوجّه كلامه للأميركي وليس لـ”البلطجي الإسرائيلي”، وبالتالي، انخرط لبنان في حرب غزة منذ يومها الأول، ولم يجرؤ العدو على ترجمة تهديداته، وعلى الأرجح لن يجرؤ على ذلك، أما إذا ارتكب خطأ قاتلاً، فإن وجود هذا الكيان سيكون على المحك. ومما لا شك فيه أن نتيجة الحرب الجارية، اليوم، بمعزل عن الخاسر والرابح، ستُعيد رسم خرائط المنطقة، وبالتأكيد ستُبرز خريطة لدولة فلسطينية تستكمل لاحقاً بتحريرها من النهر إلى البحر.