“طوفان غزة”.. له أسبابه ومساراته (2/1)

لا يمكن للظلم إلا أن ينفجر في لحظة يصحو فيها التاريخ ليُعبّر عن وجع المظلومين. لقد حفل التاريخ بقضايا تقوم على استرداد حق سليب، أو دفع ظلامة، أو المطالبة باستقلال. لكن في فلسطين جرى إجلاء شعب بالقوة لإحلال شعب أجنبي مكانه، وهذا قمة التعدي والظلم.

بدأت المأساة الفلسطينية مع المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897 والذي كان يهدف لإقامة وطن قومي لليهود على أرض فلسطين، باقتناص غفلة العرب وضعفهم، وبتشجيع هجرة اليهود إليها، والاستيطان فيها. وجرى تشريع احتلال فلسطين من خلال قرار الأمم المتحدة رقم 181 بتقسيم فلسطين. وتعمل اسرائيل باستمرار على تحريف أصل الصراع، وتزييف حقيقة ما جرى عام 1948 فعلاً، وما قبله وما بعده، وخلق رواية تعمل باستمرار مع داعميها لتشويه الوعي الجماعي العربي والعالمي حولها، لتبدو هي ضحية من تسببت في نكبتهم المستمرة منذ إعلان قيام دولة إسرائيل.

إشكاليات كثيرة رافقت نشوء الكيان الإسرائيلي، وخلقت أزمات متعددة تتعلق بأصل وجوده وحدوده واحتلاله للأراضي العربية، وبالاستيطان واللاجئين وارتباط قوميته بالعنصرية ارتباطاً وثيقاً. كما أنه خلق سرديات لتشويه الحقائق التاريخية وتهويدها.

يجري تطبيق معايير مزدوجة للديموقراطية وللجرائم ضد الإنسانية، وتصبح عملية تجريد فلسطين من أهلها تحقيقاً للمخطط الإلهي بتعجيل ظهور المسيح، حسب الصهيونية المسيحية التي هي تيار مؤثر جداً في الغرب

لقد عملت الحركة الصهيونية على نسج خرافات وأساطير تأسيسية لكيان الاحتلال، ولفّقت وروّجت الكثير من الدراسات والأبحاث من أجل إرساء المزاعم والادعاءات الصهيونية، ومنها أن فلسطين كانت أرضاً خالية حين صدر وعد بلفور. نذكر هنا ما قاله الموسوعي والمفكر العربي عبد الوهاب المسيري حول شعار “أرض بلا شعب، لشعب بلا أرض”. إنها عبارة إبادية، تعني اختفاء العرب وتغييبهم. والترجمة السياسية في وعد بلفور هي الإشارة إلى العرب بوصفهم “الجماعات غير اليهودية”، أي أن اليهود أصبحوا شعباً بلا أرض وفلسطين أصبحت أرضاً بلا شعب. الادّعاء الثاني أن الفلسطينيين غادروا أرضهم طوعاً عام 1948 وليس بفعل الترهيب الصهيوني الذي سانده وسهّل له الانتداب البريطاني. وبهذا، قامت الدولة الصهيونية بناء على أسطورة أرض الميعاد، واستقطبت يهوداً من دول العالم، لا علاقة لهم بأرض فلسطين، لتوطينهم مكان الفلسطينيين، أصحاب الأرض. وارتكبت المجازر لتهجير هؤلاء وطردهم من أرضهم، فأصبحوا لاجئين في مخيمات منتشرة فيما تبقى من أرض فلسطين، أو في الدول المجاورة. أما من بقي ممن سموا بعرب 48، فهم يعيشون في نظام عنصري يميز بين اليهودي وغيره، كما أنهم عرضة لممارسات مستمرة من التنكيل والاستيلاء غير المشروع على ممتلكاتهم لدفعهم بدورهم إلى الهجرة لتطهير أرض فلسطين من كل غير اليهود، وهي جريمة تطهير عرقي بكل أبعادها.

لا يقلّ الكيان الصهيوني توحّشاً عن التجارب الاستعمارية الاستيطانية الإحلالية المماثلة باستمراره بارتكاب الجرائم بحق الفلسطينيين. وممارساته تزداد وحشية واستبداداً على مفاصل حياتهم اليومية، وتجري عمليات تطهير عرقي ممنهجة ضدهم، ومحاولات مستمرة لاجتثاث من تبقى منهم في أرضه. فالاضطهاد والتنكيل والإبادة هي أفعال مستمرة بحق الشعب الفلسطيني منذ اتّخذ القرار بإقامة دولة اسرائيل على أرض فلسطين. بل إن السياسات الاستيطانية والعنصرية آخذة في التغوّل أكثر فأكثر مع مرور السنين. وتعمل اسرائيل على اتخاذ إجراءات تهدف إلى تغيير التركيبة الديموغرافية وتأمين النقاء العرقي في إسرائيل وفي مدينة القدس بصورة خاصة، وهي تضع تشريعات وتتخذ إجراءات تمييزية لهذا الهدف.

لقد شاب العلاقة بين اليهود والغرب الكثير من التوتر منذ اعتنق الغرب المسيحية ومنذ حمل اليهود وزر التحريض على قتل المسيح، فكان كره اليهود واضطهادهم ونبذهم ونسج الأخبار حول ممارسات شاذّة لهم منتشرة على مرّ العصور في المجتمعات المسيحية. كما أن الممارسات اليهودية في عالم الرّبا وتحكّمهم الدائم بأغلب الرساميل في العالم وبالمصارف عزّز الشعور بالنفور منهم. فكان اليهود منبوذين في معظم الدول الغربية، حتى أميركا التي استقبلت شعوباً من مختلف أنحاء العالم ضيّقت في البداية كثيراً على دخول اليهود إليها. لكن قدراتهم المالية جعلتهم يتحكّمون بالمفاصل الاقتصادية الأساسية، وبالإعلام على وجه الخصوص. وكان على الغرب أن يسترضيهم بإعطائهم أرض فلسطين. ومع ارتكاب المجازر من قبل النازية بحقهم، عملوا على قلب الصورة، وعلى تصوير أنفسهم الضحية الكبرى في العالم. وبقوتهم الاقتصادية أصبح لهم اليد الطولى في عالم السياسة.

قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الرقم 3379 الذي صدر في 10 تشرين الثاني/نوفمبر 1975، نص سابقاً على مساواة الصهيونية بالعنصرية. وكان القرار يذكر أن “الصهيونية هي شكل من أشكال العنصرية والتمييز العنصري”، وطالب القرار جميع دول العالم بمقاومة الأيديولوجيا الصهيونية التي “تشكل خطراً على الأمن والسلم العالميين”. لكن اللوبي الصهيوني ومن خلال نفوذه السياسي في الأمم المتحدة نجح بعد 16 عاماً في جعل الأمم المتحدة تلغي القرار وتستبدله بالقرار الرقم 8646 بتاريخ 16 كانون الأول/ديسمبر 1991.

وهكذا انقلب المشهد وجرى تصوير الصهيونية على أنها حركة تحرر قومية ليبرالية، مقابل تصوير المقاومة الفلسطينية بوصفها مدفوعة بكراهية اليهود ومعاداة السامية. ويجري تطبيق معايير مزدوجة للديموقراطية وللجرائم ضد الإنسانية، وتصبح عملية تجريد فلسطين من أهلها تحقيقاً للمخطط الإلهي بتعجيل ظهور المسيح، حسب الصهيونية المسيحية التي هي تيار مؤثر جداً في الغرب، وكانت لها يد طولى في مساعدة الصهيونية اليهودية في تنفيذ مشاريعها.

إقرأ على موقع 180  باراك لجنوده: "لا تقتلوا مغنية حماية للإنسحاب من لبنان"! (95)

ظهر مصطلح وطن قومي لليهود بداية مع رواد الحركة الصهيونية في القرن التاسع عشر، ثم أكده الزعيم الصهيوني ثيودور هرتزل في المؤتمر الصهيوني الأول عام 1897. ومع اندلاع الحرب العالمية الأولى منحت الحكومة البريطانية وعداً لليهود سمّي باسم «وعد بلفور» عام 1917، يقضي في حقهم في أن يكون لهم وطن قومي على أرض فلسطين. هذا المصطلح يعني تحويل الدين إلى قومية ويؤدّي إلى حق اليهود بأن تكون دولتهم دولة يهودية خالصة من أي جنس عرقي أو ديني مغاير لليهودية؛ أو بمعنى آخر، دولة عنصرية تماماً، تتناقض مع ما تحمله فكرة المواطنة من ديموقراطية ومساواة. فلليهود حقوق المواطنة كاملة، في حين لا يعترف للعرب بأدناها. وأصبحت الصهيونية هي دين الدولة. كل ذلك تمّ بشبكة محكمة من الأنظمة القانونية العنصرية.

إن كون اليهود قومية هو خرافة من الخرافات التي نسجوها لممارسة سياساتهم العنصرية. ويقول المؤرخ الاسرائيلي شلومو ساند في كتابه “اختراع الشعب اليهودي”: “اليهودية هي دين ديناميكي انتشر في العصور القديمة بسرعة، وبالتالي فإن الأصل البيولوجي لليهود متنوّع وواسع جداً مثله مثل بقية الأديان”. هم أقوام من أصول مختلفة، بعضهم من سكان فلسطين أصلاً، وبعضهم عربي من خارجها، وجلّهم من مختلف أصقاع الأرض جاءوا ليطردوا أصحاب الأرض ويستوطنوها بدلاً منهم.

إن هدف إسرائيل على المدى الطويل هو تقليص عدد الفلسطينيين إلى أدنى مستوى لذلك لجأت إلى التطهير العرقي والخنق الاقتصادي والسجن الديموغرافي

الظلم الذي مارسه الصهاينة لم يقتصر على تهجير الفلسطينيين وإنكار أحقيتهم بالأرض. بل تستمر منذ عام 1948 سياسات التنكيل والتهجير والأسر والقتل. إن الموافقة على حلّ الدولتين الذي يعني تقاسم الأرض وإياهم لم يرضهم، بل يهدفون لوضع اليد على كامل تراب فلسطين وعلى ما يمكن لهم خارجها. والدليل سياسة الاستيطان المستمرة وقضم الضفة الغربية وهدم البيوت ووضع اليد على القدس بالعمل على إعادة توحيد القدس الشرقية، بما فيها المدينة القديمة، مع القدس الغربية. عملت إسرائيل، منذ احتلالها القدس عام 1967، على التضييق على السكان في شتى مجالات الحياة من أجل فرض واقع يهودي يتحكم بكل مفاصل المدينة. إن عزل القدس، وإغلاق المؤسسات، والتهويد، والاستيطان، والحق اليهودي في الأرض، والاعتقالات، والإبعاد، وغيرها من السياسات ساهمت في زيادة الإفقار وسوء الأحوال الاقتصادية للفلسطينيين. كما أشعلت غضب الفلسطينيين أحكام المحكمة العليا الإسرائيلية بطرد عائلات فلسطينية في حي الشيخ جراح وغيره من أحياء القدس. وتوالى اعتداء اليهود المتشددين على أهالي القدس، والدخول إلى حرم المسجد الأقصى، الذي يعد ثالث أقدس المواقع الإسلامية بعد مكة والمدينة، ومنع المصلين المسلمين من الوصول إليه حتى في ليلة القدر، وقرّر التضييق عليهم واستخدام القوة ضدّهم. وتوالى حظر التجمع لسكان القدس الشرقية وانتهاك المسجد، ومصادرة مفاتيح البوابات الرئيسية مروراً بمجزرة الحرم الإبراهيمي ضدّ المصلين الفلسطينيين عام 1995. هذا المسار القمعي المتصاعد ترافق مع احتفاظ اليمين الإسرائيلي العنصري بشكل دائم بالسلطة، وإضعاف اتفاق أوسلو (1993) والسلطة الوطنية الفلسطينية. هذا بالإضافة إلى ما كان يمارس في غزّة من سياسة رهيبة من الحصار والقمع والبؤس والفقر المدقع وتضييق الخناق حول أهلها حتى وصل الأمر إلى تقليص السعرات الحرارية من الغذاء على نحو مقلق حتى أصبح معظم الغزاويين محرومين من الحاجات الضرورية للحياة، ويقول دوف ويسغلاس Weissglass Dov وهو أحد المستشارين المقربين من رئيس الوزراء الأسبق أرييل شارون: “علينا فرض ريجيم غذائي على الفلسطينيين لكن دون أن نوصلهم إلى الموت من الجوع لأن ذلك يضرّ بسمعة اسرائيل”. (كتاب نعوم تشومسكي Noam Chomsky وايلان بابي Ilan Pappe: “فلسطين”).

كل هذا القمع ترافق مع تفاقم مشكلة الأسرى والعدد الكبير منهم الذين يتعرضون لأسوأ أنواع التعذيب وبعضهم يقضي في الأسر عشرات السنين في ظروف صعبة ولا إنسانية. فضلاً عن انغلاق كل السبل أمام التوصل إلى أي حل عادل للقضية الفلسطينية عبر المفاوضات. إن هدف إسرائيل على المدى الطويل هو تقليص عدد الفلسطينيين إلى أدنى مستوى لذلك لجأت إلى التطهير العرقي والخنق الاقتصادي والسجن الديموغرافي.

هل كان لمثل هذه السياسات إلا أن تنتج خياراً مثل “طوفان الأقصى”؟

(غداً الجزء الثاني والأخير).

Print Friendly, PDF & Email
هالة أبو حمدان

أستاذة القانون العام في الجامعة اللبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Best WordPress Themes Free Download
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  الأردن: "إنقلاب أميري".. أم "إنقلاب ملكي"؟