التوراة والفينيقيون.. التكفير لتبرير الإبادة (1)

تحفل أسفار التوراة بإنزال الفينيقيين ـ الكنعانيين في منزلة المُشركين، ويكاد لا يكف سفر من الأسفار التسعة والثلاثين عن الدعوة للإستيلاء على أرض كنعان لأن أهلها على شُرك وضلال، وعليه: ماذا في نصوص التوراة وهل كان الفينيقيون وثنيين؟

تبدو صورة الكنعانيين والفينيقيين في التوراة قائمة على ثلاث زوايا، فهم غير ساميين وملعونون ووثنيون، وهذه الصورة تبدأ التوراة في عرضها منذ سفرها الأول المعروف بـ”التكوين”، أي بعد إعادة تنظيم الخليقة عقب الطوفان بالتحديد وحيث أخرجت التوراة الكنعانيين من السلالة السامية وأسقطت اللعنة الأبدية على جدهم كنعان لأن أباه حام رأى عورة أبيه نوح حين كان مضطجعا، ويستدعي ذلك نقاشا قوامه الآتي:

أولاً؛ أسفار التوراة و”تكفير الفينيقيين”:

أ ـ قال “الرب” للعبرانيين في “سفر الخروج”: “يسير ملاكي أمامكم ويدخلكم أرض الأموريين والكنعانيين و(..) بعد أن أزيلهم، لا تسجدوا لآلهتهم ولا تعبدوها، لا تعملوا كأعمالهم، بل أزيلوهم، وحطّموا أصنامهم”.

ب ـ “سفر الخروج”: “لا تقطعوا لهم ولا لآلهتهم عهدا، ولا يقيموا في أرضكم لئلا يجعلوكم تخطؤون، فتعبدون آلهتهم ويكون ذلك لكم شركا”.

ج ـ قال “الرب” لموسى في “سفر الخروج”: “ها أنا أطرد من أمامكم الأموريين والكنعانيين والحثيين (…) لاتعاهدوا سكان الأرض التي أنتم سائرون إليها، لئلا يكون ذلك شركا لكم، بل اهدموا مذابحهم وحطموا أصنامهم واقطعوا غاباتهم المقدسة لآلهتهم”.

د ـ كلم “الرب” موسى في “سفر العدد”: “قل لبني اسرائيل ستعبرون الأردن إلى ارض كنعان، فتطردون جميع سكانها من امامكم وتبيدون جميع منقوشاتهم وأصنامهم المسبوكة، وتهدمون معابد آلهتهم المرتفعة”.

تلك هي الصورة المختزلة التي تقدمها التوراة عن الكنعانيين، وهذا ما يجيز تجاوز النصوص الأخرى لكونها متشابهات متآخيات، وأما بما يتعلق بمعتقدات الفينيقيين والكنعانيين ففي ذلك آراء ووجهات نظر أخذت على عاتقها مناقشة ما تورده أسفار التوراة.

ثانياً؛ نقاش في عقائد الفينيقيين: 

يقول المفكر المصري عبد الوهاب المسيري في الجزء الرابع من “الموسوعة اليهودية” إن ثمة دلائل تشير إلى أن الفينيقيين “كانوا يؤمنون بالحياة بعد الموت” وقريب من هذا الرأي يذهب إليه المؤرخ اللبناني فيليب حتي في “تاريخ سوريا ولبنان وفلسطين” بقوله “إن عادة دفن الميت لدى الفينيقيين و حيث ” كانوا يدفنون مع الجثة مصباحا وجرة وصحنا، مما يشهد بوجود اعتقاد غامض أن الميت يمكن ان يروقه نوع من المعيشة على الطراز المألوف في هذه الحياة الدنيا”.

العالم الألماني جورج كونتينو في “الحضارة الفينيقية” يعتبر أن “بعل” ليس إسم علم، ويلتقي مع رأيه المؤرخان المسيري وحتي، ويقول كونتينو “جرى بعض العلماء على اعتبار بعل إلها معينا وهذا خلط يحسن أن يزول ـ وحين يقال ـ بعل صور أو بعل لبنان ـ فالمقصود ـ سيد صور أو سيد لبنان، والصوريون حين كانوا يشيرون إلى إلههم كانوا يقولون بعلنا أي سيدنا، ونلاحظ أن اغلب الأسماء الربانية عبارة عن جُمل مثل ملقارت بمعنى ملك المدينة، وسبب ذلك عُرف أساسي في فلسفة شعوب آسيا الغربية القديمة، فذكر إسم الإله استدعاء له، وبما ان قدومه عند استدعائه نوع من الطاعة، فيتبع ذلك أن يكون بمقدور الإنسان أن يتسلط على الإله ـ ولذلك ـ كان يجب إخفاء إسم الإله في صورة جملة، وعلى هذا جرى العبرانيون، فإسم الإله عندهم كان لا يُنطق”.

وعلى رأي كونتينو أيضاً “لا ينبغي اتخاذ القائمة الزاخرة بأسماء الآلهة دليلا على وجود مجمع آلهة عديدة لدى مختلف شعوب آسيا الغربية، فكثير من الأرباب يرجع إلى رب واحد اختلفت أسماؤه فقط”.

ومثيل هذا الرأي كان توقف عنده يعقوب صرّوف في مجلة “المقتطف” (كانون الثاني/يناير 1883) معتبراً أن التعدد في الأسماء ليس في الضرورة أن ينسحب على تعدد الآلهة “وخلاصة ما اتصل إليه الباحثون في هذا الموضوع أن آلهة الفينيقيين كانت قليلة العدد ـ ومنها ـ بعل وهدد وإيل وعليون وصديق وكبيري، والمظنون أن هذه الأسماء، لم تكن كلها أسماء آلهة مختلفة بل كان بعضها أسماء متعددة لإله واحد”.

في كتابه “الأسطورة والمعنى” يورد أستاذ الحضارات والأديان القديمة السوري فراس السوّاح نصوصاً دينية مصرية زاخرة في التوحيد، فيما التوراة كانت نهت عن عقائد المصريين مثلما فعلت مع الفينيقيين، يقول أحد النصوص:

“واحد لا ثاني له واحد خالق كل شيء 

قام منذ البدء عندما لم يكن حوله شيء 

والموجودات خلقها بعدما اظهر نفسه للوجود 

أبو البدايات أزلي أبدي دائم قائم 

خفي لا يُعرف له شكل وليس له شبيه 

سر إسمه ولا يدري الإنسان كيف يعرفه 

سر خفي إسمه وهو الكثير الأسماء 

هو الأب والأم أبو الآباء وأم الأمهات 

خالق لم يخلقه احد هو الوجود بذاته لا يزيد ولا ينقص 

أبو الآلهة رحيم بعباده يسمع دعوة الداعي”.

يتبنى فراس السوّاح رأي العلامة واليس بدج حيال هذا النص الترتيلي بقوله إن المصريين أطلقوا على هذه “الألوهة” إسم “نتر” وإلى جانبه “كلمة نترو وتعني تلك الكائنات التي تشترك على نحو ما في طبيعة نتر وتُسمى في العادة آلهة، ولكن حين ندرس هذا الآلهة عن كثب، نجد انها ليست إلا صوراً أو تجليات لإله واحد ـ كما ـ أن المصريين كانوا يفرّقون بين الله/نتر والآلهة نترو المخلوقين من قبله والذين يلعبون دورا أشبه بدور الملائكة الموكلين بوظائف ومهام محددة”.

هذا الرأي يحيل إلى ما قاله فيلون الجبيلي (الألف الأول للميلاد) في “التاريخ الفينيقي” نقلاً عن سنخونياتن البيروتي الذي سبقه بألف من السنين “إن الفينقيين والمصريين كانوا مرشدين لجميع الناس الآخرين، كانوا يرون أن الآلهة الكبار هم أولئك الذين حققوا اكتشافات لمساعدة وجودنا او الذين عمّموا الخير بين الشعوب، وقد دُعي هؤلاء محسنين بسبب أعمال الخير الكثيرة التي يدينه لهم الناس بها، وقد عبدوهم كآلهة ولهذه الغاية كرسوا لهم هياكل كما هي الآن بالتوارث، كما أقاموا لهم أنصابا وسواري عبدوها باحترام كبير، وقد احتفل الفينيقيون بأكبر أعيادهم على إسم هؤلاء وتيمنوا بإسم ملوكهم الذين كان بعضهم يُعتبر كآلهة، حيث كان لهم آلهة خالدون وآلهة فانون”.

إقرأ على موقع 180  أسفار التوراة.. لبنان العبراني والأرز الملعون (3/3)

هي “عقيدة التيمن” كما يراها المؤرخ اللبناني يوسف الحوراني في “نظرية التكوين الفينيقية” وبرأيه ذاك يلتقي مع يخلص إليه فراس السواح حول التوحيد المصري، وفي رأي الحوراني “انتقلت عقيدة التيمن إلى المسيحية حيث أصبح الشهداء قديسين شفعاء، وإلى الإسلام حيث غدا الأولياء ذوي كرامات، وفي الديانتين يتوسل المؤمنون بأسماء هؤلاء لتحقيق أمنياتهم، وفي هذه الحالة لانستطيع تطبيق فكرة الألوهة المتعارفة في مفاهيمنا على العقيدة الفينيقية بالآلهة ما دام هؤلاء ينفون صفة المطلق والقدرة الكلية عن آلهتهم بمجرد اعترافهم بفنائهم”.

وفي “أساطير الأولين” المنشور عام 1894 يقول عبد الله غبرئيل “لم يكن الفينيقيون والمصريون يجهلون الإله الخالق بل كانوا يعتقدون بأنه مبدأ كل شيء، وإذا قلبنا في أخبار تلك الأيام وأخذنا معنى الألفاظ بحسب وضعها في لغاتها، نرى أن أسماء الآلهة تدل على أوصافه عزّ وجل، كأدوني وعليون وكبير وقدم وهدد وملك وبعل شميم وغيرها كثير، والأسماء المحفوظة في الديانات الشرقية ولا سيما الساميّة، تبين لنا هذه الحقيقة أكثر من الأسماء المحفوظة في الحكايات الوثنية عند اليونان والرومان”.

ويستحضر غبرئيل في كتابه فيلسوفيين فينيقيين، فقد “كتب سنخونياتن أنه وُجد روح صدرت عنها المعلولات، إن سنخونياتن قد أورد كيفية التكوين بما يشبه كل الشبه ما أورده ـ النبي ـ موسى، وقال الفيلسوف الفينيقي طاليس بوجود علة فاهمة دبرت الخلاء، وعنه أخذ اليونان هذه الحقيقة، أما اعتقادهم بوجود إله مثلث الذي لم يزل إلى الآن تمثله الآثار، فإنهم قد تصوروا هذا الإله الواحد زوجا ذكرا وأنثى وُلد منهما آخر متمم للتثليث، أما الصوريون فكانوا حافظين الإعتقاد زمانا بإله واحد بثلاثة أسماء”.

ولأستاذ الدراسات السامية محمد محمود جمعة ما يقوله في هذا المجال، ففي “النظم الإجتماعية والسياسية: الصادر عام 1949 “لفظ إيل هو أكثر الكلمات ذيوعا في اللغات السامية للدلالة على ذات المعبود، أما لفظ إله فخاص باللغة الآرامية والعربية والكنعانية الشرقية كما كشفت عن ذلك ألواح رأس شمرا ـ اوغاريت السورية ـ ففي تلك الألواح التي يعود تاريخها إلى القرن الرابع عشر قبل الميلاد ورد الإسم بصيغة جمع إلوهيم أو إلاهيم، ولذيوع هذا الإسم بين الساميين ذهب كثير من العلماء إلى أنه يدل على ديانة قوامها التوحيد”.

في دراسة لفايز مقدسي بعنوان “مفهوم الإله الواحد في الفكر الكنعاني” منشورة ( تشرين الأول/أكتوبر 2008) في دورية “المعرفة” السورية شرح واف لما كان عليه الكنعانيون، يقول المقدسي:

“لفظ إل/إيل بالكنعانية والآكادية يعني الله في كل اللغات المشرقية القديمة، والإسم في جذوره يدل على الأعالي والعلو، وكلمة إل تدل على الله اينما وردت في قصائد اوغاريت، أنه أبو الآلهة، ويجب أن نفهم أن كلمة آلهة أو أرباب هنا على أنها تدل على مختلف القوى الكونية والطبيعية وليس على شخص إلهي، لذلك فإن تعدد أسماء الأرباب لا يدل ضرورةعلى التعدد، لأنه في الواقع ليس سوى تسمية العناصر الكونية والطبيعية للإحاطة بها والتعامل معها والسيطرة عليها”.

وفي رأي المقدسي “عندما نعثر في نص من النصوص على إسم الرب شمش أو الرب يم أو الرب سين، فإنه ينبغي علينا ان نفهم ذلك كتعداد لأسماء القوى الطبيعية كالشمس والماء والقمر والهواء (…) وهكذا فأسماء مرودخ الخمسين الموجودة في قصيدة الخلق ـ البابلية ـ تعني سيطرته على جميع عناصر وظواهر الطبيعة والكون، ثم اعتُبرت هذه الأسماء أسماء أرباب مجازا، ومما يؤكد هذا، أن إسم إل/إيل أو الله هو الإسم الوحيد الذي لا يدل على قوة كونية أو عنصر طبيعي، بل هو القوة أو العلة الأولى بلغة الفلسفة، التي خلقت العالم والإنسان والتي تنظم حركة الكون والتي بدونها يختل النظام وينتهي الوجود”.

في “قانا الجليل في لبنان” الصادر عام 1994 يقول الأب يوسف يمين “إيل إله الكنعانيين اللبنانيين الأقدم، الإله العالمي الكوني الأوحد، واللفظة كنعانية قديمة تعني الأول الأقدم الأعلى، وقد تعني الأقوى والأعظم، وهي باقية إلى اليوم في كثير من الأسماء والأمكنة والألقاب أمثال: ميخائيل جبرائيل روفائيل قابيل هابيل، سعدنايل جدايل حصرايل شربل جليل”.

ثالثاً؛ بين التوحيد والشُرك: 

مقابل الآراء السالفة، ثمة من يرى أن الفينيقيين انحرفوا إلى “الشرك” بعد إيمانهم بالوحدانية، وهذا ما يذهب إليه المطران يوسف الدبس في الجزء الأول من “تاريخ سوريا” ذلك أن “إله الفينيقيين كان واحدا ومتعددا معاً” وبحسب بولس مسعد (“المقتطف” أيار/ مايو 1932) “كان الفينيقيون في بادىء أمرهم يؤمنون بوحدانية الله، ثم استطردوا إلى عبادة صفات الإله الواحد، ثم أوغل القوم في التعاليم والإعتقادات الوثنية” وفي كتاب “الكنعانيون اشكالية الديانة التوحيدية” لحارث فؤاد البستاني (2018) أن الإعتقاد “ثابت لدينا بأن الفينيقيين لم يكونوا قد سقطوا بعد في عبادة الأوثان أيام يعقوب وهذا يعني أن الفينيقيين كانوا في البدء يعتقدون بإلهٍ واحد ومن ثم تحوّلوا إلى الإشراك في الدين”.

في واقع الأمر أن هذه القراءات لا تخلو من المؤثرات التوراتية التي ترمي الكنعانيين بالتكفير، فقبل النبي يعقوب تنسب التوراة في “سفر التكوين” إلى النبي إبراهيم قوله لكبير خدمه “استحلفك بالرب إله السماوات والأرض ألا تأخذ زوجة لإبني ـ إسحق ـ من بنات الكنعانيين الذين أقيم بينهم”، كما أن إسحق قال لإبنه يعقوب “لا تأخذ إمرأة من بنات كنعان”.

آخر ما يقال؛

في “سفر التثنية” خاطب موسى شعبه العبراني فقال:

“مدن الأمم التي يعطيها لكم الرب إلهكم، لا تبقوا منها أحدا حياّ، بل تحلّلون إبادتهم، وهم الحثيون والأموريون والكنعانيون والفرزيون والحيويون واليبوسيون لئلا يعلّموكم أن تفعلوا الرجاسات التي يفعلونها في عبادة آلهتهم فتخطئوا إلى الرب إلهكم”.

Print Friendly, PDF & Email
Download WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
Download Nulled WordPress Themes
download udemy paid course for free
إقرأ على موقع 180  أنطون سعاده.. شهيد فلسطين الشاهد (2/1)