من “الدفشرمه” العثماني إلى أطفال غزة.. حضارة القتل والإبادة!

تتكرّر الحروب، فتكوّن سِمةً خاصة لسلوكنا البشري على مرّ الزمن. أي شعب لم يتعرض لإبادة ما أو مذبحة ما؟ كل الشعوب أصابتها الويلات، أكان ماضياً أم حاضراً. فيما "تاريخ البشرية هو تاريخ الحرب" لا أكثر، كما يُردّد منظر العلاقات الدولية الأكثر شهرة ريمون أرون، ناقلاً عن سلفه الفيلسوف إيمانويل كانط.

الحربُ سلوكٌ شبه دائم، وليست فلسفتها بغريبة عنّا. لا حق للضعيف، أكان في الأمس أم في عالم اليوم. قول ثوكيديدس الأزلي لا يزال صحيحاً حتى الآن: “الأقوياء يفعلون ما يريدون فيما الضعفاء يعانون ما يجب عليهم معاناته”. قال الفيلسوف اليوناني قوله هذا عندما كان الأثينيون يحاورون شيوخ جزيرة “ميلوس” الضعيفة، وذلك قبل إحراقها بمن فيها من بشر وحجر عام 416 قبل الميلاد.

وبين معادلتي الأقوياء والضعفاء، كيف يُفترض أن يسترجع الفلسطيني أرضه إذاً؟ عبر الورود والصلاة والدعاء فقط، أم يتطلب الأمر خوض غمار الحرب والنِضال وامتلاك ناصية القوة؟ هل أخذ أي شعبٍ حقه بـ”الكلمة الطيبة” وإضاءة الشموع؟ أم أن أزيز الرصاص وقرقعة السيوف كانت ولا تزال الفيصل في تحديد صاحب الحق؟

بعض الدول تمارس أفعال الإبادة أكثر من غيرها. هكذا يُعلّمنا التاريخ دون خجل أو رياء. المستعمِر الغربي سجلّه حافل بالإبادات، كذلك السلطنات والدول ذات الهوية والثقافة العسكرية. خذ السلطنة العثمانية على سبيل المثال، هي سلطنة قامت على حرفة العسكَريّا. من مِنا يعرف فيلسوفاً عثمانياً مهماً؟ أو عالماً عثمانياً ذات مكانة وشأن إلا فيما ندر؟ لا حرفة تتقنها السلطنة أفضل من حرفة الحرب والعسكر، كما الإدارة وجباية الضرائب!

ما الفرق الجوهري حقيقة بين نظام “الدفشرمه” العثماني ونظام التجنيد الإسرائيلي الإجباري؟ ما الفرق بين انتهاك حقوق الأطفال في الماضي وبين قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية لكل روضة أطفال ومدرسة ومستشفى في غزة؟ ما الفرق بين الإبادة الأرمنية وبين المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين؟

الإبادة بحق الأرمن بين 1915 و1917 واحدة من تلك الممارسات العثمانية الشنيعة. المجازر بحق الأرمن، كذلك، عامي 1894-1896 تتغافلها كتب التاريخ، لكنها حقيقة واقعة. مذابح “سيفو” العثمانية بحق الأقليات السريانية والأشورية بين عامي 1915 و1920 حصلت بالفعل، فيما أسوأ أنواع الطغيان العثماني هو ما مارسه السلاطين عبر نظام “الدفشرمه” (Devşirme).

هذا النظام هو نظام تجنيد إجباري للأطفال بدأت السلطنة العثمانية بتطبيقه بصرامة منذ منتصف القرن الثالث عشر، في عهد السلطان مراد الأول. يقوم هذا النظام على سلخ الأطفال المسيحيين الذكور عن أهلهم في كامل منطقة البلقان، وإرسالهم إلى الأناضول حيث يُعلّمون الإسلام والعسكر، ثم يتم تحويلهم، بعد إدخالهم في الإسلام، إلى العمل كجنود في الفرق الإنكشارية (حرس السلطان)، أو كإداريين مدنيين إن لم يُثبتوا جدارتهم العسكرية. يصف المؤرخ العسكري ديفيد نيكول ما تعرض له الأطفال في ظل نظام “الدفشرمه” بأنه “استعباد كامل”، وهو قد طال أكثر من 200 ألف طفل من عمر ست إلى عشر سنوات، حسب كتاب “جنوب شرق أوروبا تحت الحكم العثماني (1354-1804)” للمؤرخ الموسوعي بيتر سوغار.

ما الذي اختلف منذ ذلك التاريخ وحتى اليوم في مجال الحرب؟ أسلحة وأدوات ووسائل القتل تطوّرت، فيما دخل القانون الدولي عرضياً لمحاولة تنظيم شؤون إدارة الحرب. لكن، لا شيء أكثر من ذلك. لا تزال الدول تنتهك حقوق البشر بشكل جماعي، فيما الجيوش تمارس المجازر والإبادات بحق بعضها البعض أو بحق شعوب أخرى. هذه إسرائيل مثلاً، ما الفرق بين ممارساتها اليوم في قطاع غزة وممارسات أشنع الأنظمة العسكرية القديمة؟ ما الفرق الجوهري حقيقة بين نظام “الدفشرمه” العثماني ونظام التجنيد الإسرائيلي الإجباري؟ ما الفرق بين انتهاك حقوق الأطفال في الماضي وبين قصف الطائرات الحربية الإسرائيلية لكل روضة أطفال ومدرسة ومستشفى في غزة؟ ما الفرق بين الإبادة الأرمنية وبين المجازر المرتكبة بحق الفلسطينيين، ألم تكن الأولى تُمارس بدافع ديني – طائفي – إثني، فيما الثانية تُمارس اليوم بالدوافع والأهداف نفسها؟ ثم ما الفرق بين فعل دولة مثل تركيا تُغطي تهجير واقتلاع شعب بكامله من أرضه في إقليم كاراباخ وبين ما تقوم به إسرائيل من فعل إبادة واقتلاع للفلسطينيين من غزة والضفة والقدس الشرقية؟

إن التكرار الدائم للحروب والمجازر والإبادات الجماعية يستدعي تحقيقاً عميقاً في الطبيعة المعقدة لقيمنا الأخلاقية، فيما البحث عن التفاهم أو التسوية وسط فوضى الصراعات يتطلب الخوض في عمق التعقيدات السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية التي تتشابك لنسج المعاناة الإنسانية.

إن الحروب نتاج فسيفساء من الدوافع البشرية؛ كالسعي إلى السلطة، والصراع على الموارد، والذرائع الأيديولوجية، والثقل الدائم للمظالم التاريخية إلخ.. وفي مسرح الأمم، غالباً ما تظهر الصراعات المسلحة كنتيجة حتمية لمثل هذه الدوافع المعقدة، ونختلف دائماً حول هوية الضحية والجلّاد. حول الحق والباطل. حول القوي والضعيف. حول كل ما يتفرع من مفردات الحروب.

من المؤسف أن أحداث التاريخ تشهد على التكرار المروّع للمذابح وعمليات الإبادة الجماعية، مما يلقي وصمة عار لا تُمحى من ضميرنا الجماعي والأخلاقي. فمن أصداء “الإبادة الأرمنية” و”الهولوكوست اليهودي” إلى الندوب المؤلمة للإبادة الجماعية في رواندا وصولاً إلى ما يجري اليوم لأهل غزة المحاصرين، تستمر هذه الفظائع كتذكير مؤلم بأن دروس ماضينا المشترك لم تتم مراجعتها بشكل حقيقي، وبأن آلة القتل التي يحملها الإنسان في عمقه وفي سلوكه الوحشي لا تزال متجذرة فيه، وتحمل بذور الكراهية والتحيّز وتجريد “الآخر” من إنسانيته!

Print Friendly, PDF & Email
إقرأ على موقع 180  أبو الياس على أكتافنا.. بئسَ السياسةُ وبؤسُها
تركيا ـ جو حمورة

كاتب لبناني متخصص في الشؤون التركية

Download Nulled WordPress Themes
Download WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Download Nulled WordPress Themes
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  بل هُم أهلُ الحياة الحقّ.. لا أهل "ثقافة الموت"