“نحن أبطال.. نحن غزة”.. نحن السرديات المفتوحة!

يطوي إبهامه وسبابته على شكل دائرة، يقترب من الكاميرا: "هلقدي، هيك دائرة، العالم كلو مش قادرلها، عشانا أبطال.. حماك الله يا غزة. علمتي كل العالم الرجولة". كانت هذه كلمات فتى غزاوي، خرج من تحت الأنقاض ناعياً أمه وإخوته.

دائرةٌ بدت في يده، وكأنها مجهر يستطيع أن يفحص سرديات مختلفة، نبتت من مختبر غزة نفسها. إذ مثلاً، مقابل ما قاله هذا الشاب الغزاوي، والذي يتجلى في أكثر من تعليق من أبناء غزة أنفسهم، ثمة خطاب آخر، أكثر من يتبنّاه هم دعاة “التنوير” والرافضين للإسلام السياسي، يقول بأن “حماس دمّرت غزة وتريد أن تكون ملكة ولو على مملكة من تراب”. الكلام بحرفيته هنا يعود للكاتب المصري إبراهيم عيسى، وهو يُعبّر بمضمونه عن آراء كثيرين أمثاله.

تُظهر هذه الدائرة/المجهر، أنّه في مقاربة مشهد “طوفان” السابع من تشرين الأول/أكتوبر وما تلاه من أحداث، ثمة ثلاث عقدٍ حاكمة للخطاب والعقلية هنا وهناك، ما لم يتم تحريرها، ستبقى الرؤى متشابكة، بعيدة عن التوازن وأقرب للكباش الذي لا يخدم القضية، بقدر ما يُحوّر الاهتمام عنها.

العقدة الأولى والتي لا تنفك تتكرر في خطابات وتحليلات كثيرين سواء بطريقة ظاهرة أو مستبطنة، هي عقدة الإسلام السياسي، بحيث يأتي استهجان ما قامت به “حماس” انطلاقاً من كونها ممثلةً لتيار إسلامي سياسي، وهذا التيار لا يأبه بالناس بقدر ما يتطلع إلى تحقيق مشروع أكبر كما يؤكدون على ذلك. غالبية الأصوات الفكرية التي تُظهّر هذه العقدة في خطابها (لا سيما ما يصدر من مصر تحديداً) هي مجرّد أبواق تساير السلطان، وتحاول تغليف كلامها بإطار فكري لأجل غاية الدفاع عن ديكتاتوريات مقنّعة في بلدانها تساهم في مأساة غزة، وبالتالي محاولة لتخفيف الإحراج عنها، وترميم شرعيتها. بل إنها تنشد ضرب فكرة مقاومة “وحش إسرائيلي كبير”، إنطلاقا من التركيز على شمّاعة مشروعها السياسي. وبالتالي فإن نبش هذه العقدة اليوم لا يعدو أن يكون تحويراً للواقع عن مجريات الأحداث الحاصلة فيه وعن أسبابها وحيثياتها، والأخذ بها إلى مكان آخر.

خطاب الانتصارات يُخفّف من العقلانية المطلوبة في سياق الفعل المقاوم، وخطاب الهزيمة يُوغل في نكران دور المقاومات وإسهامها في التحرير وزعزعة الكيان الصهيوني وكسر هيبته والمساهمة في افتضاحه أمام العالم

أما العقدة الثانية، فتتمثل في مبدأ “انكشاف الحضارة الغربية”. وعماد هذا الخطاب أن أحداث غزة عرّت قيم الحضارة الغربية، وعلينا أن نكفّ عن انبهارنا بالغرب وتصديقه. وقد قرأت مؤخراً مقالاً لأحد أساتذة علم الاجتماع في الجامعة اللبنانية يقول فيه: “لقد كنا في المجتمعات العربية والإسلامية ضحية الحداثة الغربية وفلسفة الأنوار، وترافعنا عنهما في كلّ محفل ومنبر، وأعطينا طلابنا هذا الفكر، لكننا اكتشفنا الآن بأن أغلب الغرب بأنواره وحداثيته مجرد قناع للوحشية والبربرية والظلم”.. وهو يدعو في المقال نفسه “للخروج على قاعدة نظرية وعلى نظام معرفي جديد.. خاصة أن لدينا في تراثنا العربي والإسلامي ما يفي بالغرض”. وهذه السردية التي تجمع بين عقدة الذنب من الانبهار بالغرب والدعوة إلى العودة إلى التراث الإسلامي بتنا نسمعها كثيراً، وكأن البعض كان ينتظر حدثاً على طريق الصراع العربي الاسرائيلي ليفضح الازدواجية الغربية ويكيل لها الاتهامات بهدف العودة إلى دعوات الأصالة وما شابهها لأجل تنزيه الذات وتقبيح الآخر.

تُظهر هذه السردية اختزالاً للمشهد الفكري الغربي بتمظهراته السياسية، التي توظف الشعارات والفلسفات الحداثوية بديناميات سياسية لغايات كولونيالية. كما تُبرز تعامياً عن طبيعة النيوليبرالية الحاكمة التي اختزلت السياسة بالاقتصاد المُختزل بدوره بجشع النيوليبرالية غير الآبهة بالإنسان والطبيعة، وعن طبيعة المسعى الغربي الدائم إلى توظيف كل الأفكار والوقائع لصالح الهيمنة والربح، و”الاستثمار” القديم الجديد للأمم المتحدة والمؤسسات الدولية ومنظمات التجارة العالمية لتصدير “القيم الأميركية والغربية النيوليبرالية”. كذلك تهميشاً للحراك الفكري القائم في الغرب من قبل الكثير من المفكرين لانتقاد هذه الظواهر وتفنيدها. وعدا عن كل ما تقدّم، فإن سردية مثيلة تحاكم الغرب بأنموذجه وأفكاره، لا تصلح بأن يُنطق بها من قبل من يفتقدون لنظام معرفيّ فكريّ متكامل، ولنماذج سياسية صالحة وعادلة.

 ما من “افتضاح مستجد” للغرب بعد 7 تشرين الأول/أكتوبر. الغرب كان هو، ولما يزل.. إمبريالياً!

أما العقدة الثالثة، فتختصر بثنائية النصر والهزيمة. ثمة من جهة خطاب وكأنه لا يزال قابعاً في مرحلة النكسة، يُكرّر تصوير الهزيمة ويُمعن في تخليد الإحباط وتمكينه والتهويل من القادم، ويبرز في المقابل، خطاب لا ينفكّ عن استدعاء لغة مشبّعة بالانتصارات، بوصفها انتصارات أو نهايات سعيدة، لا إيجابيات وتحولات يمكن البناء عليها وتعزيزها، وكلا الخطابين يغذيان بعضهما البعض. فخطاب الانتصارات يُخفّف من العقلانية المطلوبة في سياق الفعل المقاوم، وخطاب الهزيمة يُوغل في نكران دور المقاومات وإسهامها في التحرير وزعزعة الكيان الصهيوني وكسر هيبته والمساهمة في افتضاحه أمام العالم.

والمعضلة أن كلا الخطابين يقدَّمان في سياق شعبوي دعائي، ولا “تقرَّش” التداعيات العسكرية والسياسية والاقتصادية الحاصلة أو التي ستحصل. الحاجة إلى ضبط العبارات وإعادة النظر بمجمل سياقات الخطاب باتت ضرورية.

إقرأ على موقع 180  إنتخابات إسرائيل 2022.. "الليكود" حزب الرجل الواحد!

تعكس هذه العقد الثلاث إما خبثاً، إما سطحيةً، وإما محاولة للتسطيح. ومن شأن ما يحدث اليوم أن يعيد غربلة السرديات والخطابات لفحصها في سبيل الدفع بالأمور لما يخدم القضية الفلسطينية، لا لما ينتقص منها.

Print Friendly, PDF & Email
ملاك عبدالله

صحافية لبنانية

Free Download WordPress Themes
Download Premium WordPress Themes Free
Download WordPress Themes Free
Premium WordPress Themes Download
udemy course download free
إقرأ على موقع 180  قراءة في خطاب نعيم قاسم.. الميدان البري أولاً