تذكّرتُ تلك الحادثة عندما شاهدت رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو، وأنصاره يحتفلون بأحدث هجوم إسرائيلي على لبنان، والذي بلغ ذروته (ولكن لم ينتهِ) باغتيال الأمين العام لحزب الله، السيّد حسن نصرالله وعدد من كبار قادته (نُشر هذا المقال قبل أن تتمكن إسرائيل من قتل رئيس حركة حماس يحيى السنّوار).
على مدار العام الماضي، عمل نتنياهو على توسيع الحرب التي بدأها ضد قطاع غزة، غداة عملية “طوفان الأقصى” التي شنَّتها فصائل المقاومة الفلسطينية. وهو ماضٍ في توسيع وتمديد الحرب بلا هوادة، متحدياً كل من يقول له بألا يفعل ذلك، وفي مقدمتهم وزير دفاعه يوآف غالانت، وجحافل خصومه المحليين، وعائلات الرهائن الذين لا تزال حركة “حماس” تحتجزهم، وحتى إدارة الرئيس الأميركي جو بايدن. فالبلاد التي كانت تُوصف ذات يوم على أنها “دولة مؤسسات” أصبحت “أمة التفجير”. وكان نتنياهو سريعاً في تذكير معارضيه بأن إسرائيل قادرة على استهداف كل شيء وأي أحد. ونظراً للأضرار التي ألحقها الجيش وأجهزة الاستخبارات الإسرائيلية بخصومهم المختلفين (ما أسفر عن مقتل وجرح أكثر من 200 ألف مدني فلسطيني)، فليس من المستغرب أن يحتفل نتنياهو بـ”النصر”. تماماً كما فعل جورج دبليو بوش.
لا شكَّ أن تصرفات إسرائيل خلال الأسابيع القليلة الماضية كانت إنجازاً تكتيكياً مذهلاً. فقد استغلت تفوقها الإستخباراتي لتصل إلى الثغرات في البنية التنظيمية لحزب الله وبعض الأخطاء المُحيّرَة التي ارتكبها بعض كبار قادة الحزب، وتنفذ خطة معقدة وجريئة لتفخيخ أجهزة النداء (البيجر) والاتصال اللاسلكي التي يستخدمها عناصر الحزب. وكما فعلت في غزة، استخدمت إسرائيل الأسلحة المتطورة التي يقدمها لها “العم سام” لتغتال السيّد نصرالله، وتدمّر مناطق واسعة في جميع أنحاء لبنان (…). كذلك استخدمت الأسلحة الأميركية ذاتها لتضرب جماعة أنصار الله (الحوثيون) في اليمن. وها هي الآن تدفع بقواتها لتنفيذ اجتياح برّي في لبنان، وتخطط لـ”رد انتقامي” ضد إيران رداً على هجماتها الصاروخية الأخيرة.
أضف إلى ذلك، أن نتنياهو ووزراءه اليمينيين المتطرفين، استخدموا الحرب على غزة ولبنان (وكذلك استجابة أميركا المطلقة لطلباتهم وتهاونها اللامتناهي مع أفعالهم) لتصعيد العنف ضد الفلسطينيين في الضفة الغربية وقضم المزيد من الأراضي المحتلة، كجزء من حملتهم الطويلة الأمد لإنشاء ما يقولون إنها “إسرائيل الكبرى”.
“محور المقاومة” لن يستسلم
ما الذي يمنع نتنياهو- حتى الآن- من قلب الطاولة، وتحويل ميزان القوى الإقليمي لصالح إسرائيل إلى الأبد؟
إن الإنجازات التكتيكية لا تُحقق النجاح الإستراتيجي المطلوب، ولكن يمكن للمرء أن يجادل بأنه إذا ما تمكَّن من تحقيق ما يكفي من الإنجازات التكتيكية، فقد يتمكن من تغيير البيئة الاستراتيجية بصورة دائمة.. وهذا هو بالظبط ما يهدف إليه نتنياهو. ولكن هناك أسباب وجيهة للشك في أنّه سينجح.
بادئ ذي بدء، فإن العمليات العسكرية لن توقف “محور المقاومة” عن العمل ولن تجعله يرفع الراية البيضاء. فقد نجا كلٌ من حزب الله وحركة “حماس” و”جماعة أنصارالله” وإيران من ضربات قوية جداً تعرضوا لها على مدار عام كامل، وسوف يستمرون في الصمود أكثر، لا بل وسوف تزداد رغبتهم في الانتقام أكثر. إن إسقاط أطنان من القذائف والصواريخ والمتفجرات على الناس، وارتكاب المجازر بحقهم لم ولن تُكسرهم، بل ستجعلهم يتوقون إلى الانتقام، أو على الأقل ستدفعهم للعمل على إيقاف جلَّاديهم.
النجاحات التكتيكية التي حقَّقها نتنياهو “شخصانية”.. مفعولها قصير الأجل.. وتحتوي على بذور مشاكل أعمق تنبت بمرور الوقت.. ولا توجد أي علامة على أن نتنياهو يتمتع بالمهارات اللازمة أو لديه أدنى اهتمام باكتسابها
فبرغم كل عمليات القصف والقتل والاغتيالات، ما يزال حزب الله يُطلق الصواريخ والقذائف والمسيَّرات الحربية على إسرائيل بشكل يومي، ويجعل عودة عشرات آلاف الإسرائيليين إلى منازلهم في الشمال مستحيلة. كذلك استطاع الحزب أن يُعيد بناء قدراته العسكرية واللوجستية، وقد تم بالفعل استبدال القادة الذين تم اغتيالهم، ولم يبق هناك أي موقع قيادي شاغر. وبمرور الوقت سيتم إعادة بناء الكوادر وتسليحها، وسيتم تطوير تكتيكات جديدة بناءً على ما تعلموه وخبروه ومارسوه.
وفي محاولة منها لمنع ووقف كل هذا وذاك، تُرسل إسرائيل جيشها إلى جنوب لبنان، لكن توغلاتها البرية السابقة في هذا البلد لم تنته بشكل جيد.
المقاومة خيارٌ الفلسطينيين
أما بالنسبة للفلسطينيين، فليس لديهم خيارات كثيرة سوى الاستمرار في مقاومة ما تفعله إسرائيل بهم. وربما كانت الأمور لتكون مختلفة لو كانت إسرائيل تعرض عليهم بديلاً مقبولاً ــ مثل دولة مستقلة قابلة للحياة، أو حقوق متساوية داخل إسرائيل الكبرى. لكن نتنياهو أغلق الباب أمام كل الاحتمالات الإيجابية (…). والخيارات الوحيدة التي يعرضها الإسرائيلون على الفلسطينيين اليوم هي الطرد (الترانسفير)، أو الإبادة أو الفصل العنصري الدائم.. ولا يوجد شعب في العالم (وعبر التاريخ) يُمكن أن يقبل بهذه المصائر، أو يُمكن أن يفكر في التنازل عن حقه بالمقاومة من أجل استعادة حقه. لذلك، لا عجب أن السلطة الفلسطينية قد خسرت شعبيتها عند شعبها، بينما نمت شعبية “حماس” وزاد تأييد الفلسطينيين لها.. لأنها (السلطة) اعترفت بإسرائيل وتعاونت معها على أمل الحصول على دولة مستقلة قابلة للحياة، ولم تحصل على أي شيء في المقابل برغم توقيعها اتفاقية سلام وتنازلها عن خيار الكفاح المسلح (اتفاقية أوسلو). أما “حماس”، ومعها كثير من الفصائل الفلسطينية، فتمسكت بالمقاومة كسبيل وحيد لإستعادة الأرض والحقوق المسلوبة.
النووي خيار إيران
وعلى نحو مماثل، أحبطت إسرائيل وداعموها الجهود التي بذلتها إيران من أجل تحسين العلاقات مع الولايات المتحدة؛ في عهدي الرئيسين علي أكبر هاشمي رفسنجاني وحسن روحاني؛ عندما أقنعوا الرئيس الأميركي السابق، دونالد ترامب الساذج، بالتخلي عن خطة العمل الشاملة المشتركة (الاتفاق النووي الإيراني) في عام 2018، وهي الصفقة التاريخية التي كان من شأنها أن تحدَّ من إمكانية تحول إيران إلى قوة نووية. وكما عزَّزت هذه الردود أيدي المتشددين في إيران، ستفعل الأزمة الحالية في المنطقة الشيء نفسه، على الرغم من أن الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، أشار مراراً وتكراراً إلى رغبته في خفض التوترات. فقد رأينا كيف ردَّت طهران على قرار إسرائيل بإضعاف حلفائها الإقليميين أو القضاء عليهم (بما في ذلك اغتيال الزعيم السياسي لحركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها في مطلع شهر آب/أغسطس الماضي) بشن هجمات صاروخية مركزة طالت مناطق عديدة في إسرائيل، وهي خطوة محفوفة بالمخاطر من شأنها أن تدفع إسرائيل إلى الرد، لكن طهران شعرت بلا شك أنها لا تستطيع البقاء على الهامش والاحتفاظ بمصداقيتها.
5% من الإسرائيليين يعيشون خارج إسرائيل.. واستطلاعات الرأي تؤكد أن 80% منهم لا ينوون العودة
من المؤسف جداً أن كل هذه الأحداث تزيد من احتمالات أن يُقرَّر قادة إيران الذهاب إلى ما هو أبعد من كونهم دولة نووية كامنة، وبناء ترسانة نووية متكاملة. مثل هذا القرار من شأنه أن يزيد من احتمالات اندلاع حرب إقليمية شاملة. فإسرائيل؛ بأفعالها؛ ماضية في منح الإيرانيين حوافز إضافية للرغبة في الحصول على الرادع النهائي.. وإذا حدث هذا، فإن تأثير النجاحات التي تتفاخر إسرائيل بأنها حقّقتها مؤخراً سيكون محدوداً إلى حد كبير- وسيكون عمر تلك الإنجازات قصيراً جداً.
إسرائيل تعزل نفسها
لقد زادت تصرفات إسرائيل الأخيرة من عزلتها الجيوسياسية، وهي أيضاً تُعرّض علاقتها الخاصة مع الولايات المتحدة للخطر. لقد تبخر التعاطف الذي تمتعت به إسرائيل، بعد هجوم 7 تشرين الأول/أكتوبر 2023، بعدما شاهد العالم كل تلك المجازر والمذابح التي يرتكبها الجيش الإسرائيلي كل يوم بحق المدنيين في غزة ولبنان. كذلك أعلنت محكمة العدل الدولية أن احتلال إسرائيل للضفة الغربية يشكل انتهاكاً للقانون الدولي، وقد يواجه نتنياهو وغالانت أوامر اعتقال من المحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. والآن أصبحت إمكانية تطبيع العلاقات بين إسرائيل والسعودية (ودول عربية أخرى) معلَّقة، وتحوّلت أغلب دول الجنوب ضدها، وأصبحت الحكومات الأوروبية منزعجة منها بشكل متزايد. كان الانسحاب الذي استقبل خطاب نتنياهو في الجمعية العامة للأمم المتحدة الأخيرة لفتة رمزية، لكنه كان ما يزال انعكاساً واضحاً لكيفية رؤية الكثيرين لشخصه وللبلد الذي يُمثّله (إسرائيل).
قد يجد نتنياهو وأنصاره العزاء في الشيك المفتوح الذي تلقوه من إدارة بايدن، والتصفيق الحار (المبرمج) الذي أُستقبل به نتنياهو في خطابه أمام الكونغرس، والدعم النشط الذي يحصلون عليه من الجيش الأميركي، ونجاح اللوبي الإسرائيلي في قمع الانتقادات في الحرم الجامعي وأماكن أخرى. هذه أيضاً نجاحات تكتيكية قصيرة المدى، ويمكن أن تؤدي بسهولة إلى رد فعل عنيف وخطير. فالناس، عموماً، لا يحبون التعرض للتنمر. كما أن فرض قواعد معينة وقيود على حرية التعبير بهدف إسكات الانتقادات المشروعة ضد أفعال إسرائيل، من شأنه أن يُولّد الكثير من الاستياء، وبخاصة عندما يتم ذلك بشكل صارخ وعلني من أجل حماية بلد منخرط في العنف وجرائم إبادة جماعية وحملات التطهير العرقي.
أميركا ليست بخير
علاوة على ذلك، إذا أدَّت تصرفات إسرائيل إلى حرب إقليمية أوسع نطاقاً وانجرفت الولايات المتحدة إلى هذه الحرب، فقد يتساءل الأميركيون بجدّية عن قيمة “العلاقة الخاصة”. كانت الحملة التي شنَّها المحافظون الجُدّد للإطاحة بالرئيس العراقي السابق صدام حسين مُستوحاة جزئياً من الرغبة في جعل إسرائيل أكثر أمناً (وهو السبب الذي جعل لجنة الشؤون العامة الأميركية الإسرائيلية (إيباك) وقادة إسرائيليين مثل نتنياهو يساعدون إدارة بوش في الترويج لغزو العراق)، ولكن هذا لم يكن السبب الوحيد وراء وقوع الحرب، ولم يتم إلقاء اللوم على إسرائيل أو جماعات الضغط بسببها. ولكن إذا بدأت الولايات المتحدة في خسارة جنود أو بحّارة في حرب أخرى في الشرق الأوسط، فسوف يُنظَر إلى هذا على نطاق واسع وبحق باعتباره يتسبب بتعريض حياة الأميركيين للخطر نيابة عن دولة عميلة جاحدة للجميل على الدوام تأخذ المال والأسلحة من الولايات المتحدة ثم تفعل ما يحلو لها.
علاوة على ذلك، إذا تسبب سوء إدارة بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن للموقف في خسارة كامالا هاريس للانتخابات في تشرين الثاني/نوفمبر، فسوف يبدأ الديموقراطيون والجمهوريون على حد سواء في التساؤل عمَّا إذا كان الدعم الانعكاسي لإسرائيل لا يزال الموقف السياسي الذكي. وإذا حدث أي من هذا، فإن خطر رد الفعل العنيف ضد أنصار إسرائيل داخل أميركا سوف يتزايد. وإذا كنت تشعر بالقلق إزاء تصاعد معاداة السامية في الولايات المتحدة، فإن هذا الاحتمال لا بد وأن يُخيفك أكثر بكثير من بعض المظاهرات غير المؤذية في الغالب في الحرم الجامعي.
إنجازات نتنياهو فشل مُستدام
وأخيراً، هناك التأثير على إسرائيل ذاتها. ففي أعقاب عملية “طوفان الأقصى”، أتيحت للإسرائيليين فرصة التخلص من نتنياهو (الذي أدَّت قراراته إلى جعل إسرائيل عُرضة لهجوم “حماس”) وتوجيه البلاد نحو الحياة الطبيعية. ولكن هذا لم يحدث، والنجاحات التكتيكية التي حقّقها نتنياهو مؤخراً (وبينها قتل يحيى السنوار) تعمل على تعزيز موقفه السياسي، إلى جانب موقف المتطرفين اليمينيين الذين تستند سياساتهم إلى رؤية دينية ومسيحانية متشددة لمستقبل إسرائيل. وسوف يستمر الإسرائيليون المعتدلون والعلمانيون ــ الذين يشكلون محور القطاعات التكنولوجية العالية التي غذَّت الاقتصاد في السنوات الأخيرة ــ في الرحيل، لتجنب العيش في إسرائيل التي يريد رجال مثل وزير المالية بتسلئيل سموتريتش خلقها. ويعيش بالفعل أكثر من 500 ألف إسرائيلي (أي نحو 5% من السكان) في الخارج؛ وتشير الاستطلاعات إلى أن 80% منهم لا ينوون العودة؛ وقد ارتفع عدد المهاجرين بشكل كبير في العام الماضي. وتشير تقارير صحيفة “واشنطن بوست” إلى أن اقتصاد إسرائيل “في خطر شديد”، وهو ما لن يؤدي إلَّا إلى تعزيز هذه الاتجاهات. وتفيد التقارير الصادرة عن الجامعات الإسرائيلية ــ إحدى جواهر التاج في البلاد ــ بانخفاض حاد في أعداد الطلاب الأجانب، وهو ما يشكل علامة أخرى على تآكل صورتها وضربة للتقدم العلمي في المستقبل.
باختصار، عزَّزت إنجازات نتنياهو القصيرة الأجل الاتجاهات التي تعرض مستقبل البلاد للخطر في الأمد البعيد.
كما كتبت قبل بضعة أسابيع، ما يبدو للوهلة الأولى كأنه انتصار عسكري أو سياسي مذهل قد يحتوي في بعض الأحيان على بذور مشاكل أعمق تكبر مع مرور الوقت. والتحدي الذي يواجه الزعيم الناجح هو استخدام المزايا المؤقتة لتأمين فوائد طويلة الأجل. ولكن القيام بذلك يتطلب معرفة متى يتوقف، ومتى يستطيع التحول من القتال إلى البحث عن حل للصراع. ومن المؤسف أنه لا توجد أي علامة على أن نتنياهو يتمتع بهذه المهارات أو لديه أدنى اهتمام باكتسابها.
– ترجمة بتصرف عن “فورين بوليسي“.
(*) ستيفن م. والت، كاتب عمود في “فورين بوليسي”، وأستاذ في العلاقات الدولية في جامعة هارفرد.